مدد يا شـُميلة، مدد!
د.مروان الغفوري
د.مروان الغفوري

مأرب برس – بالتزامن مع المصدر

الحمد لله. أصبح بوسعنا الآن أن نقول : خطونا خطوة جديدة إلى المستقبل بانتخاب المحافظين. ذلك الانتخاب التي تم على طريقة " نجّمني ونجمي الثور".خطوة إلى الإمام بمقابل عشر خطوات إلى الخلف، بتعبير الرئيس الأمريكي جورج بوش في لقائه بالإعلامية المصرية " منى الشاذلي" منذ أيام، في معرض تعليقه على الإصلاحات السياسية في مصر. وهكذا قام إعلام السلطة بإجراء عملية تنجيم واسعة، واتّفقت القداح على أسماء الفائزين حفاظاً على إرث اليمانيين العبقري في الكهانة. فقد صدقت النجوم كما تفعل دائماً، وصدقت معها القداح، وسقط تالياً لكل ذلك نجم سهيل على أكتاف المستنجمين، وعادت قوافل الموالسين والمدّاحين والطبّالين والمنجمين والكهنة والمستنجمين محمّلة بالبخور واللبان والبيس، وانتهى سامرهم، بعد أن ضربوه لشهرين كاملين في أرض يقال لها "دمّون" من بلاد اليمن. مبروك للفائزين وصحّة وهنا. ولا عزاء لأولئك الذين تشاءموا عشية انتخاب المحافظين عن طريق التعيين، بينما باتوا طوال تلك الليلة يقرؤون قصيدة "عودة ذي الوجه الكئيب" لصلاح عبد الصبور. وعلى كل حال فإن كل ذلك لن يغير من الحقائق على الأرض شيئاً. الأمية لن تتحلحل، بنسبها المخيفة. الفقراء لن يتم شفطهم من الشارع ليشتركوا في عملية بناء واسعة توفر لهم فرصة المعيشة وللبلد فرصة المنافسة والحياة. فلا مشاريع استراتيجية لدى السلطة (العربية، إجمالاً) غير مشروع البقاء في السلطة، بتعبير فهمي هويدي. كما أن المجتمع اليمني غير مؤهل للمشاركة في عملية تنمية حقيقية، لانعدام كفاءته العلمية والمعرفية، بفعل فاعل بالطبع. سيستمر الفقراء في المساجد، بحسبانها الملاذ الأخير لابن الإنسان ليشتكي فيها إلى الله ما يفعله الإنسان به، الإنسان الأفعى بتعبير صلاح عبد الصبور. والمرضى الذين يغادرون مطار صنعاء ( ربع مليون مريض يصل إلى مصر سنويّاً ، بتصريح الملحق الطبي لصحيفة الثورة) ليبحثوا عن كلمة السر في العالم. هؤلاء الذين يبيعون الجمل وما حمل لأجل فرصة أخيرة في الصحّة ، لن تحل مشاكلهم في القريب، ولا في البعيد. الاقتصاد المهتز، والمرتبك والمترجل، وولاية المقاتلة للخراج، بتعبير ابن المقفع في رسالة الصحابة التي قدّمها لأبي جعفر المنصور، لا تزال تفتك بالحياة بكل شراسة. تخلق محسوبيات وتراتبات وقوانين عرفية وأخلاق عامة جديدة لمصلحة القوي، ذلك الذي لا يُسأل عما يفعل. القوي الذي يدخل إلى الأماكن الآمنة مدججاً بكل ما ملكت يداه ليقتل ويغتال ويلعن التاريخ والبشر ثم ينسحب كأنه لم يفعل أكثر من تأكيد سيادة الداروينية الاجتماعية : البقاء للأقوى. هل تتذكرون مقتل الحامدي في شارع 45 المتفرّع عن ش. تعز، على بعد 2 كيلو متر من القصر الرئاسي، على يد عشرين مسلّحاً؟ هل سيكون بمقدور المحافظين الجدد ، الذين عرفناهم من قبل في أشكال مختلفة، أن يغيروا هذه الواقعية الاجتماعية اليمنية. ولنحمل في أذهاننا على سبيل احترام الذاكرة أن هؤلاء الرجال الجُدد هم رجال قدامى شاركوا على مدى عقود من الزمن في صناعة هذه الواقعية المخيفة. رحم الله ابن المقفع. قبل أكثر من 13 قرناً كتب لأبي جعفر المنصور : إياك وولاية المقاتلة ( العسكريين) للخراج (الاقتصاد ) فإن فيه فساداً للرعية. وإنّك يا سيدي ، يقول ابن المقفع، تقرّب منك الذين لا يصدقونك وتبعد عنك الذين لن يخدعوك. هل من الملائم أن أشير إلى أن ابن المقفع قتل مصلوباً في الكوفة؟ .. أعتذر، لا أريد أن أسقط قلوبكم، فالتاريخ لا يكرر نفسه وإلا أصبح مسرحيّة شديدة الملال، كما يذهب بعض أصدقاء كارل ماركس.
 

 

ما معنى أن محافظاً عاش في فترة سابقة شاهد عيان على خراب مدينة كاملة، دون أن يتدخل بشكل حقيقي وأمين لتدارك الموقف، ثم هو ينتقل الآن إلى محافظة أخرى؟ حسناً، هذا عهد جديد، وأنا الغلطان. فهو لن يكون شاهد عيان بعد الآن على خراب محافظته الجديدة، لأنها خربانة في الأساس. طيّب ، ما معنى أن محافظاً لمحافظة ما يتنافس على الكرسي الأول في محافظة أخرى؟ ماذا يسمّون مثل هذه الظاهرة في علم الاجتماع السياسي؟ دعوني أقترح لها اسمّاً مؤقّتاً : الاحتراف. اسم حلو، برضه. يستطيع متابعو الدوري الإسباني الآن أن يتندروا : انتخابات المحافظين فتحت الباب لانتقال المحافظين الراغبين في الاحتراف إلى المحافظات المجاورة والبعيدة. صحّة وهنا.

جاءت افتتاحية الثورة، صباح 17 مايو ، ناريّة. استغربت الأمر، ليس لأنه موقف مفاجئ من قبل وسيلة إعلامية مملوكة للشعب، في بلد هي اليمن، ولا لأن الإعلامي الوسيم نادر قرأها بنبرة رقيقة ، وهي لا تحتمل الرقة، على الهواء. استغرابي نشأ من زاوية معرفتي بانخفاض مستوى التمثيل العسكري في صفوف المحافظين الجدد. وهو ما جعلني أتوقّع بسذاجة أن تأتي الافتتاحية ، التي بحثت عنها لأشبع توقعاتي، مدنيّة غارقة في التنظير والأحلام. هزّتني ألفاظ الافتتاحية، فقد كانت كلها مقولات مكّية، مليئة بالتهديد والوعيد، سفّهت أحلام المقاطعين لحفلة الانتخابات التنكّرية، أولئك المواطنين المحترمين الذين رفضوا أن يكونوا حملة مباخر أو "كدابين زفّة". وبالمناسبة، يقال أن كذّاب الزفة هو الشخص الذي يقف وراء العازف الوحيد على المسرح، يمسك بيده الجيتار ويدّعي أنه يعزف، بينما يصدر صوت الجيتار من مكان آخر.

غضبُ إعلام الحاكم من المقاطعين، وحملته المسنّنة تجاههم، أجبرني على تشكيل مقارنة غير ناضجة بين هذا الموقف وموقف الأمير، أو العمدة، الذي يأمر رجاله بسحل واغتصاب الفتاة التي ترفض أن ترقص أمامه لتسليته. هذا كلام غير مهذّب، الذي أقوله الآن. ليغفر لي إلهي الذي في السماء. ولكن خبروني ، بصراحة، ما هو الشيء المهذّب في الحكاية برمّتها.

حسناً، انتهت الحفلة التنكرية. ماذا بعد؟ المقاطعة لم توقف القطار، السفينة، المركب .. إلخ، كما تقول السلطة. والانتخابات لم تنقذ القطار، السفينة ، المركب .. إلخ، كما يمكن أن تقول المعارضة. مباراة مملّة نتائجها محسومة سلفاً، مباراة مدربين فاشلين، ولاعبين يتم تحريكهم مثل قطع الشطرنج، يفتقرون إلى الحد الأدنى من صلاحية اللعب المنفرد، بقدر افتقارهم للمهارة الفردية. يقال أن رجلاً دخل على أبي نوس وهو بين أصحابه. فقال له أبو نواس: بلغني أنك هجوتني، فهل مات ولدي؟ قال الرجل : لا. فقال أبو نواس: فهل احترق داري أو ضاع مالي؟ قال الرجل: لا. فقال أبو نواس: مادام الأمر كذلك فرجلي هذه في (...) حتى حلقي. فرد عليه الرجل : ولماذا تركت رأسك بالخارج؟ فقال له أبو نواس : لأنظر ما تصنع. هذا مجمل ما أراد أن يقوله إعلام الحاكم، والإعلام الرسمي المملوك لمؤسسات المجتمع وفقاً للخُلق الدستوري، بحق كل من قال لهم بصدق: ما يصحّش اللي بتعملوه في البلد. اتقوا الله، أو اتقوا أي حاجة ، فينا. إحنا بشر، دم وشحم يعني.

 يحكى أن " شُميلة" كان رجلاً صوفيّاً. وأنه أراد يوما ما أن يسافر إلى الحج عن طريق ميناء عدن( معرفش ازاي يعني سفر للحج عن طريق ميناء عدن). فلما وصل إلى الميناء وجد السفينة قد غادرت، فما كان منه إلا أن فرش شملته على الماء ولحق بالسفينة. هكذا روى لي صديقي المؤرّخ المهم عبد الغني الأهجري. طيّب، خلونا نجرب مع بعض : مدد يا شميلة ، مدد! من يدري، يمكن تنفع المحاولة!.


في الخميس 22 مايو 2008 03:37:11 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=3759