الانتخابات التركيّة وصراع الهويّة
إحسان الفقيه
إحسان الفقيه
 

بينما كان المسلمون في الصدر الأول يُكبِّرون، كان المشركون يهتفون “أعلِ هُبَل”، ومحمد الفاتح ليلة فتح القسطنطينة يصلي بالمسلمين، بينما يتجه الإمبراطور البيزنطي وحاشيته إلى كنيستهم يقيمون القداس الأخير، وفي نكسة حزيران كان العرب يرفعون شعارات القومية العربية، ولما تبين لهم

خذلانها استبدلوها بشعارات “الله أكبر” في حرب العاشر من رمضان، وجنود بوتين كانوا ينالون بركة الماء المقدس من قساوستهم قبل أن يركبوا الطائرات المتجهة لضرب الأراضي السورية.

هكذا تُظهر المعارك دائما هوية الصراع، ليس فقط في الحروب، ولكن في النزال السياسي، وهذا ما عَبّر عنه المشهد الختامي الأخير للانتخابات التركية، قبل أن تدخل أطرافها في مرحلة الصمت الانتخابي. كان المشهد البارز الذي لا أعتقد أنه سيغادر الذاكرة، توجُّه أردوغان إلى مسجد “آيا صوفيا”، وتوجُّه خصمه “كمال كليتشدار أوغلو” إلى قبر أتاتورك، في لقطة تختصر حقيقة الانتخابات التي تجرى في تركيا للإمساك بزمام السلطة، أنها تنطلق من صراع أيديولوجي هويّاتي. كِلا الرجلين يدرس خطواته جيدا، وسيكون من الحماقة والسفه أن نظن بهذه الخطوة أنها جاءت بشكل عفوي.

كلاهما يرفع الراية من المكان الذي زاره، كلاهما يُعبر في المشهد عن منطلقاته وهويته التي تحركه وتدفعه وتحدد مساره وأهدافه.

أردوغان وكليتشدار أوغلو كلاهما يعلم أن من حلفائه من لا يروق له هذا الفعل، لأن كُلًّا من تحالُفِ الجمهور الداعم لأردوغان، وتحالُفِ الشعب الداعم لكمال كليتشدار أوغلو، يضم أطيافا من إسلاميين وقوميين، إلا أن الرجلين يركزان على المنطلقات ووضوح الهوية، كل منهما يسعى لجمع الشعب حول الراية التي ينتمي إليها ويؤمن بها، ويحقق طموحات أتباعه الذين اجتمعوا به على هذا الأساس الأيديولوجي، لا على الأساس البرامجي، مع الأخذ في الاعتبار الأهمية الكبرى للبرنامج والذي تتعلق به القاعدة العريضة من الشعب، الذين يدورون في فلك تحقيق مقصودهم من رغد العيش. هذا الصراع الهويّاتي ربما يفسر نتائج انتخابات الجولة الأولى، التي على الرغم من فوز تحالف الجمهور فيها –فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية- بما يقترب من 50%، إلا أن الانتخابات الرئاسية قد أسفرت عن تفوق أردوغان على منافسه، لكن بنسبة 49.42%، وهي نسبة لا تؤهله للفوز، ما أدى إلى ترقُّب جولة أخرى. أقول إن هذا الصراع الهوياتي يفسر هذا التقدم البسيط الشاق لأردوغان وفريقه على الرغم من أنهم يديرون البلاد على مدى عقدين أو أكثر، لأنه يواجه إرثا علمانيا مروّعا، وتغلغلت مبادئ أتاتورك في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها أو معظمها، فعلى الرغم من أن الرجل قد أوجد لبلده موطئ قدم ظاهر في المجتمع الدولي، وأحدث طفرة صناعية وتجارية، وأصبحت تركيا في عهده دولة محورية في محيطها الإقليمي ولها دور فاعل في قضايا المنطقة، إلا أن الأيديولوجيات هنا تلعب دورا كبيرا في بطء استجابة شرائح واسعة من المجتمع لنداء الهوية الذي ينطلق منه أردوغان.

معركة الهوية التي يخوضها أردوغان ذات كلفة كبيرة، وذلك شأن أي دولة تسعى للتحلل من التبعية الغربية والاستبداد الغربي والنمط الذي تحاول الدول الإمبريالية فرضه على المجتمعات الإسلامية، لذلك حوصرت تركيا اقتصاديا وتم تضييق الخناق عليها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة الذي كان يُعَوِّل عليه الغرب في الإطاحة بهذا النظام الذي يعمل على إرساء الحقوق السيادية لبلاده. وكان الدافع الهوياتي حاضرا في إصرار أردوغان على التخفيض المستمر لسعر الفائدة، مخالفا بذلك النظريات الاقتصادية السائدة، وقد صرح بذلك قائلا: “ما دام أخوكم في هذا المنصب ستستمر الفائدة في الانخفاض مع مرور كل يوم.. مرور كل أسبوع وكل شهر”.

فالرجل ينظر إلى الفائدة نظرة إسلامية باعتباره من الربا المُحرّم الذي يؤدي إلى الفقر والخراب الاقتصادي، وحتى لا يتهمني القارئ بالشطط في التحليل أو محاولة إلباس أردوغان ثوب الورع والتقوى، فأضع بين يديه مقطعًا لـ “غونول تول”، مديرة برنامج الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، من خلال تقرير نشره مركز مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط، حيث قالت: “يرى الرئيس التركي أن المقاربة التي يعتمدها هي الأكثر منطقية. ويمكن تفسير نفوره من أسعار الفائدة المرتفعة جزئيًا انطلاقًا من خلفيته الإسلامية، إذ يعتبر أن الربا محرّم في الإسلام.

لكن رؤيته الاقتصادية نابعة أيضًا من خبرته كرجل أعمال. فهو يعتبر أن أسعار الفائدة المنخفضة ضرورية لتحفيز النمو الاقتصادي واستحداث فرص العمل وجذب الاستثمارات الأجنبية”. تحديات الهوية لا شك أن لها ضريبتها التي دفعها أردوغان، فعلى الرغم من ارتفاع أرقام الصادرات وتحسين مستوى الخدمات والتقدم الذي أحرزه في الصناعات الثقيلة ومجال التصنيع الحربي، إلا أن أزمة انخفاض قيمة العملة المحلية التي تتورط فيها أيادٍ خارجية ساخطة، كان له تأثيره على الناس التي تلتفت أكثر ما تلتفت إلى الدخل الفردي ومُنحنى الأسعار وتجعله ميزانا لإنجاز الحكومة.

انطلاق أردوغان من الهوية، وعمله الدؤوب على حماية السيادة الوطنية والتحلل من التبعية للغرب، قد ألّب عليه هذه الدول، ويُلحظ هذا من خلال الحملة الإعلامية لكبريات الصحف والمجلات الغربية قبيل الانتخابات لتشويه صورة أردوغان، كما استغلها أصحاب الأيديولوجيات المناهضة لتخويف وترويع الناس من سياسات أردوغان التي تُعرّض البلاد لسخط أمريكا وأوربا.

من المُرجّح أن يفوز أردوغان بالجولة الثانية لأسباب عدة، منها أن الشريحة المثقفة الواعية من الشعب التركي التي أدلت بصوتها للمعارضة، تدرك جيدا أن فوز كليتشدار أوغلو بمنصب الرئاسة مع وجود أغلبية برلمانية لحزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور ككل، سوف يخلق حالة من التصادم والتناحر بين الرئاسة والبرلمان، قد يؤدي إلى تعثّر للمسيرة السياسية، لذا ربما تتجه هذه الفئة لتحقيق الاستقرار بالتصويت لصالح أردوغان، إضافة إلى أن كليتشدار أوغلو وتحالفه قد أثبتوا أنهم دون المستوى الذي رَوّجوا له، وأخفقوا في الوعود التي قطعوها بالإطاحة بأردوغان وتحالفه من الجولة الأولى، ذلك سيؤدي إلى زعزعة ثقة الناخبين في زعيم حزب الشعب.

الصراع السياسي في تركيا بالغ الضراوة والشراسة، لانطلاقه من قواعد هوياتية متضاربة، لكن من وجهة نظري أنه في حال فوز أردوغان، ستشهد السنوات المقبلة لحين الانتخابات القادمة، ازدهارا ملحوظا للبلاد، وتجاوزا من النظام لعقبات كثيرة جالدها في السنوات الماضية، ولا شك أن ذلك سوف يحقق انتصارات كبيرة لأردوغان وحزبه على صعيد الهوية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


في الأربعاء 17 مايو 2023 07:21:49 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=46391