نملة بلقيس.. قراءة أخرى
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 27 يوماً
الإثنين 31 مايو 2010 12:25 م

قرأت مقال الأخ بكيل الولص بهذا العنوان وقد تحدث فيه عن قصة النملة، فأحسست من قراءته للقصة كأنه يسقط معانيها على الواقع الاجتماعي في مأرب؛ حيث تجده يتحدث عن بني (العمومة) ويستعير هذا اللفظ للنمل، وعن الولاية لأرض الجنتين، فانتقل من الحديث عن النملة وقصتها وعن عبرها وعباراتها؛ ليتحدث عن البناء الاجتماعي والقبلي والعادات والتقاليد في مأرب، وقد اجتزأت نصا من مقاله حيث قال فيه "لقد أسميت هذه "النملة" نملة الملكة بلقيس وكانت موالية لأرض الجنتين حيث تعيش مع بنات عمومتها وأخواتها في أقصى شمال المملكة لكي تكون مقدمة لأسطورة نحكيها للأجيال من بعدنا لكي يتيقنوا بـ أن كل ما يعيش على تراب مأرب مقدس وشجاع،وإن لم يسلك كبارنا سلوك النمل فسندعوهم إلى كلمة سواء وننذرهم بالعواقب، حيث والاعتماد عليهم لن يؤدي إلى ضياع التنمية وأرزاق البشر فحسب بل أيضا إلى ضياع الهوية المأربية والعادات والتقاليد والتراث والأساطير الجميلة. أيها الأخوة أقتلوا الخوف في داخلكم لتتغلبوا على الواقع المفجع ولينصرن الله من ينصره وهو على كل شيء قدير .

أنا لست معترضا على طريقته في قراءة القصة، بيد أن ما ينبغي أن أشير إليه هنا أن القصة جاءت في القرآن الكريم، لا في كتب التراث حتى أنه يمكننا أن نخلع عليها لفظ (الأسطورة)، كما أنني أختلف مع أخي الكريم من حيث إسقاط بعض ما حصل من النملة كونها كانت في أرض مأرب حيث ذكر: " بـأن كل ما يعيش على تراب مأرب مقدس وشجاع"فما هو إذا حال من يعيش في أرض غير أرض مأرب أخي بكيل؟ ثم تتحدث بعد ذلك عن خوفك من ضياع الهوية المأربية والعادات والتقاليد والتراث والأساطير. ومع أنني على يقين أن ذلك جاءت منك بحسن النية والطوية (لا دعوة للعنصرية) فقد يقرأ البعض ذلك في مقالك؛ بيد أن قولك: " وإن لم يسلك كبارنا سلوك النمل فسندعوهم إلى كلمة سواء وننذرهم بالعواقب" أزال جميع الشكوك.

ودعنا نعيش مع عبارتك الجميلة والرائعة التي أدهشتني وفتحت لمداركي كثيرا من المغاليق ؛ حيث أوحت إلى خلدي بكثير من الأفكار فأحببت أن أقرأ القصة بطريقة أخرى ولا أنكر أن عبارتك الرائعة تلك كانت بمثابة المفاتيح فأقول بداية: لسنا بحاجة إلى أن نسميها (نملة بلقيس)؛ لأنها (أي الملكة بلقيس) لم تكن على علم بحديث النمل ولا بأسرارها وأغوارها، كما أن السياق الذي وردت فيه تلك القصة؛ هو سياق الحديث عن ملك سليمان، ومن هنا لسنا بحاجة أيضا أن نتحدث عن مكان وزمان القصة، حتى لا تضيق بنا عبرها وعظاتها بضيق الزمان والمكان، فنحشر تلك القصة وعظاتها وعبرها في زاوية ضيقة جدا، نفقد معها ألق القصة وسعة دلالاتها.

إن المقصد القرآني من الاحتفاظ بهذه القصة وتخليدها في القرآن الكريم ليس من أجل أن يعلمنا من خلالها دروسا في الحفاظ على الهوية القبلية، والعادات والتقاليد؛ ولكن ليعلمنا دروسا من أهمها وعلى رأسها كيف نهتم بالآخرين لا بذواتنا، وكيف نعيش لغيرنا لا لأنفسنا؛ بل وكيف نضحي ونخاطر بحياتنا من أجل أن نؤمن حياة الآخرين، فلا نسأل عن أمن الفرد حتى يأمن المجموع، ولا نسأل عن جوع الذات الفردية حتى يشبع جميع الجائعين، وعلى هذا قس ... .

هذا أول درس نفهمه أو نتعلمه من قصة (نملة) هكذا جاء بناؤها بالتنكير كما ذكره القرآن من دون تعريف، بما يفهم بأنها لم تكن هي قائد النمل؛ بل كانت نملة من عامة بني جنسها. كما يوحي هذا البناء (نملة) بأنها كانت لوحدها، ولم يكن معها جماعات من النمل يهتف معها، ومع ذلك لم يكن تلك الوحدة تزعجها فتيأس؛ بل زادتها إصرار على أن تسمع صوتها وإنذارها إلى بني جنسها؛ حتى تحذرهم من خطر قريب قد يأتي عليها ويفتك بها وفي في أثناء النذير؛ لكنها التضحية بالفرد من أجل المجموع وليس التضحية بالمجموع من أجل الفرد كما هو حال سياستنا، فهي تصيح وتحذر بيد أنها لم تهتم بنفسها، فلا ضير أن تموت هي لينجو الجميع.

وليت الأمر انتهى عند حد الإنذار وكفى؛ بل وهي في حال الخطر أحبت أن توضح الأمر فأطنبت في مقام لا يسعف لأن يطنب فيه لكنها المسئولية وخوفها من أن يشكل ذلك النذير التباسا أو سوء فهم لدى المنذرين فقالت وهي على قاب قوسين أو أدنى من اقتراب الخطر (وهم لا يشعرون) حتى لا يظن بعض بني جنسها بسليمان وجنوده ظن السوء؛ من أنهم – مثلا - مفسدون في الأرض؛ فليس هذا شأن هدي السماء وجنوده في الأرض؛ لهذا كان على النملة أن تسهب لتوضح هذا الأمر، ولتلتمس العذر لسليمان وجنوده؛ حتى لو أدى هذا التوضيح إلى أن تهلك في زحمة الجند.

ومن هذا الأخير نصل إلى أهم شيء في القصة كلها – بتصوري القاصر – فإنه على الرغم من أن المغزى الأصلي من سَوق القصة هو لفت أنظار المخاطبين إلى اتساع ملك سليمان، وما هو عليه من العظمة، بيد أنها توحي إلى عقولنا وأبصارنا بكثير من الفوائد بجانب ذلك المغزى.

 فمن أهم المفاهيم الذي نقرأه من خلال حلقات هذه القصة الموجزة – بجانب ما سبق - أن النملة أدركت بأن خليفة الله وجنده – وهذا الوصف ينخلع على كل من ساس الناس بطريقة الإسلام المثلى - إنما جاءوا ليعمروا الأرض ولينشروا فيها الأمن والأمان لا ليفسدوا فيها، وإن حصل منهم زلل أو خطأ فلا شك أنه من دون قصد. وهو ما توحي به جملة (وهم لا يشعرون). فأدركت النملة من خلال هذه العبارة - وهي مسلوبة أداة التعقل - أن الحياة الآمنة المستقرة لا تكون إلا تحت مظلة هدي السماء وعدله وأنه الضمان والسبيل الوحيد لتحقق ذلك؛ فهي تعرف تماما من سليمان ومن جنده، وأنه لا يمكن أن يأتي الأذى عن طريقهم للنمل وكل دواب الأرض.

وهذا هو الحال عندما تعمر الأرض بهدي السماء، لذلك جاء النص القرآني صريحا في ذلك؛ عندما أرجع سبب الفساد في الأرض إلى الناس أنفسهم نتيجة ما كسبته أيديهم قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) فكان أن شمل أذى الفساد جميع من في البر وجميع من في البحر بمعنى أنه تعدى ليشمل كل المخلوقات في الكون فلم يستثني برا ولا بحرا. هكذا عندما يعرض البشر عن هدي السماء وعن طريقة الإسلام المثلى في سياسة حياتهم؛ وهذا ما يفسره قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة:205) والآية هنا تنص صراحة على الحاكم الذي يعرض عن الإسلام وطريقته المثلى في صناعة وصياغة سياسة حياة البشر إلى طرائق أخرى هي من صنعهم وعلى طريقتهم التي فيها مفسحا لأهوائهم ورغباتهم، وقد جاء إهلاك الحرث في الآية للدلالة على الإفساد في البر، وإهلاك النسل للدلالة على الإفساد في البحر، بيد أن الآية السابقة كانت عامة تشمل جميع الناس، وهنا سلطت الضوء على من هم في أماكن صنع القرارات. ويدل عليه الشرط (وَإِذَا تَوَلَّى).

وأختم هنا بما بدأت به جاء في سنن الترمذي: قال رسول الله r إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضيين حتى النملة في حجرهاوحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير، فما هو حال هؤلاء المذكورين مع الذين يسعون في الأرض فسادا، الجواب هو ما جاء في البخاري: أن رسول الله r مر عليه بجنازة فقال ( مستريح ومستراح منه ) . قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه ؟ قال ( العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب). عرفنا كيف أدركت النملة أن سليمان وجنده ما جاؤوا ليفسدوا في الأرض فتلمست لهم العذر، كما دعت الأخرى لمعلم الناس الخير، وفي المقابل استراح الكون كله بما فيه النملة التي هي إحدى الدواب المذكورة في الحديث الأخير الذي أورده البخاري.