الوحدة جنوبية والانفصال شمالي
بقلم/ د. عبد الله أبو الغيث
نشر منذ: 12 سنة و 7 أشهر و يومين
الجمعة 27 إبريل-نيسان 2012 07:01 م

تناولت في مقال سابق بعنوان (جذور الوحدة اليمنية) الخلفية التاريخية للوحدة اليمنية عبر العصور التاريخية المختلفة، وقلت في ختامه بأنه رغم ثبوت الوحدة التاريخية للوطن اليمني إلا أن ذلك لا يعني بأن نتعامل مع الوحدة على أساس أنها غاية بحد ذاتها أو على اعتبارها تكريس لواقع تاريخي سابق. وذلك الحكم ينطبق أيضاً على دعوات الانفصال.. بمعني أن الدعوات التي نطلقها –في أي اتجاه كانت- يجب أن تنطلق من كونها وسيلة لتحقيق غايات سامية نطمح إليها ولا تكون غاية لذاتها، وإذا كان بالإمكان تحقيق تلك الغايات عبر وسائل أخرى أكثر آمانا وواقعية لامانع من تخلينا عن دعواتنا تلك من غير مكابرة منا أو ممارسات أنانية تختفي وراء الشعارات العامة التي نرفعها.

وبما أن العقد الثاني من القرن العشرين قد شهد قيام خط الحدود بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي؛ بواسطة الاتفاقية التي أبرمها العثمانيون المسيطرون على الشمال مع الإنجليز المستعمرون للجنوب، فإننا سنركز على دوافع الوحدة والانفصال التي تجذرت في شطري اليمن خلال الفترة المعاصرة.

ونظراً لخروج العثمانيين من الشمال وقيام مملكة الإمام يحي قبل استقلال الجنوب فقد دفع ذلك بحكام الشمال لأن ينظروا للجنوب على أنه فرع يجب أن يعود إلى الأصل، وظلت تلك النظرة عند بعضهم سائدة حتى بعد استقلال الجنوب وقيام دولة مستقلة على أرضه؛ بحكم أن الشمال كان عند استقلال الجنوب مايزال غارقاً في صراعاته التي نشبت بين الجمهوريين والملكيين عقب قيام ثورة سبتمبر.

وقد تمكنت حكومة الجنوب من فرض هيبة الدولة على كل أراضيها التي كانت تتوزعها قبل الاستقلال عشرات السلطنات والإمارات، وأخضعت مواطنيها بجميع انتماءاتهم الجغرافية والفئوية لسلطة القانون. وذلك بعكس الدولة في الشمال التي تناوشتها مراكز القوى العسكرية والقبلية، وطغت علي نظام حكمها الأعراف والسلوكيات المزاجية على حساب الاحتكام للقوانين، وصارت سلطة الدولة لا تُفرض إلا على المستضعفين من مواطنيها، وبصورة عبثية وانتقائية في أكثر الأحيان.

ورغم أن الوحدة اليمنية بعد استقلال الجنوب قد مثلت للجنوبيين خياراً استراتيجياً يهتفون له يومياً في مدارسهم ومعسكراتهم وجميع مجالات حياتهم، إلا أنهم قد ربطوا تحقيقيها بأسس سليمة وشروط موضوعية، وهو ما كانت تتهرب منه حكومات الشمال، الذي كان يعاني من فساد مالي وإداري وهيمنة مراكز القوى التقليدية على قرارات سلطاته، إلى جانب مراعاة نخبه الحاكمة لمحاذير الجارة الكبرى التي اعتبرت آنذاك تحقيق الوحدة اليمنية خطاً أحمر بالنسبة لها.

ولذلك فقد دفع الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي حياته ثمناً لتجاهله تلك المحاذير عندما بدأ باتخاذ خطوات جادة وصادقة صوب تحقيق الوحدة، خصوصاً أن خطواته تلك قد قوبلت بالترحاب من الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي نظراً لتبني الحمدي حركة تصحيحية حدت من الفساد المالي والإداري ومن سلطات مراكز القوى القبلية والعسكرية، وعملت على فرض هيبة الدولة وإخضاع مواطنيها لسلطة القانون، بعيداً عن التمايزات الطائفية والمناطقية التي كانت سائدة قبل توليه دفة الحكم في الشمال.

وبعد رحيل الحمدي عادت الأمور في الشمال إلى حالها السابق وبصورة أكثر عبثية، واستمر ذلك الوضع حتى أواخر ثمانينات القرن المنصرم، حين استغل الرئيس الشمالي على عبدالله صالح موجة تساقط الأنظمة الشوعية في الاتحاد السوفيتي وحلفائه في أوربا الشرقية وتقدم بعرض لسلطات الشطر الجنوبي يقضي بتوحيد بعض سلطات الدولتين الشطريتين كخطوة أولية على طريق تحقيق الوحدة الشاملة، لكن العاطفة القوية لأبناء الجنوب تجاه الوحدة جعلتهم بدلاً عن ذلك يقترحون قيام وحدة اندماجية كاملة بموجب دستور دولة الوحدة الذي كانت قد أعدته لجنة مشتركة في تاريخ سابق. وبالفعل تمت تلك الوحدة في عام 90م بتنازلات قدمتها حكومة الجنوب من غير حصولهم على ضمانات، رغم إدراكهم لمراوغات صالح وعدم التزامه بالوعود التي يقطعها والمواثيق التي يوقع عليها، وكان بإمكانهم مثلاً تخييره بين رئاسة الدولة الموحدة وبين عاصمتها، لأن احتفاظ الجنوبيين بإحداهما كان سيمنع -إلى حد كبير- أن تسير الأمور في المنحى الذي انتهت إليه.

ولم يعد بخافٍ أن صالح نظر للوحدة بأنها مجرد توسيع لسلطاته نحو أرض جديدة، وكان واضحاً أنه يخطط للانقلاب على شركاء الوحدة والاتفاقيات الموقعة معهم من أول يوم لقيام دولة الوحدة، وذلك بعد أن حرص على أن يجمع لأتباعه بين منصبي وزير المالية ومحافظ البنك المركزي في الحكومة التقاسمية لدولة الوحدة، مع أن الأمر الطبيعي كان يقتضي ذهاب أحد الموقعين للطرف الآخر، ذلك أن صالح كان يعي جيداً قدرة المال على تنفيذ طموحاته الخاصة منذ أن خطط للسطو على رئاسة الشطر الشمالي، حيث اقترض ثلاثين مليون ريال من أحد تجار تعز وستخدمها في شراء مواقف بعض المشائخ ومراكز القوى وكسبهم إلى صفه، لتصبح تلك هي وسيلته المفضلة لإدارة الدولة طوال فترة حكمه. ولذلك فإن ماحدث في صيف 94م سيبدو لنا كنتيجة طبيعية لهذه المقدمات.

وبناء على ما سبق يمكن القول أن السياسات الانفصالية قد بدأت منذ ذلك التاريخ وبصورة فاضحة ومعلنة، وكان ظهورها على يد علي صالح وزبانيته من أساطين الفساد، حيث عمم نموذج النظام المالي والإداري والاجتماعي السائد في الشمال على دولة الوحدة، بكل مايشوبه من قصور وفساد، رغم أن اتفاقية الوحدة قد نصت على أخذ الأفضل من تجربتي الشطرين، إلى جانب أن نظام صالح بدأ يمارس عملية نهب منظم لأراضي الجنوب، مع إقصاء ممنهج للجنوبيين من مناصبهم ووظائفهم المدنية والعسكرية.

ولذلك فإن الدعوات الانفصالية التي ظهرت لدى بعض أبناء الجنوب ومطالبتهم باستعادة الدولة الجنوبية لم تكن في حقيقة الأمر إلا ردة فعل على تلك الممارسات، وشكلت مظهراً من مظاهرها، وعلاجها الحقيقي لن يكون بالتركيز على تلك المظاهر ونقدها، لكنه سيتمثل بالقضاء على الأسباب التي أدت إلى ظهورها وبروزها.

وتلك هي المهمة التي يجب أن تتركز حولها جهود مؤتمر الحوار الوطني القادم ولجنة صياغة الدستور اليمني الجديد التي ستنبثق عنه.. بمعنى أن نكون قادرين على إقناع جموع الشعب اليمني – وفي مقدمتهم أبناء الجنوب- بأن الدولة اليمنية الجديدة ستكون دولة مؤسسات تسود فيها العدالة والمساواة واحترام القانون، وتتوزع ثرواتها وسلطاتها على أساس الشراكة الوطنية، وتصبح معايير التنافس بين مواطنيها قائمة على أساس الشهادة والخبرة والكفاءة والنزاهة، بدلاً من المعايير القائمة على أساس الانتماءات الضيقة وثقافة الفيد والتمييز والإقصاء.

دولة يحترم جميع مواطنوها خصوصيات بعضهم؛ من غير أن نسمع عبارات السخرية والتحقير تجاه الآخر لأصله أو مذهبه أو مهنته أو عاداته أو ملبسه ولهجته أوغيرها من الأمور، مع تجريم كل ذلك بموجب نصوص قانونية صريحة. دولة تقوم معايير البطولة والرجولة فيها على أساس شخصية الإنسان ومبادئه الخيّرة، وليس على أساس السلاح الذي يتمنطقه وقدرته على ممارسة النهب والتعدي على حقوق غيره؛ وفقاً للمقولة المتوارثة منذ عهد المتوكل إسماعيل "إن الله سيسألني على ماتركت لكم من أموال وليس على ما أخذته منكم". دولة يصبح فيها قاطع الطريق ومانع الخدمات عن الناس والمتعدي على مؤسسات الدولة ومسئوليها شخص منبوذ ومحتقر من الجميع، وتمارس في حقه أشد العقوبات، من غير أن يجد أحد يتشدد له أو يدافع عنه بمن فيهم أقرب الناس إليه.

دولة تؤمّن للناس حياة حرة وكريمة، وتتعامل معهم على أساس المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، بدلاً من النظر إليهم على أنهم ينتمون إلى درجات متفاوتة، أو أنهم مجرد قطعان في حظائر المشائخ. بحيث تصبح كلمة الحق هي التي تجمعهم وهي التي تفرقهم، بدلاً من أن يجمعهم طبل ويفرقهم زامل. مع إيقاف الهبات الخيالية التي يتقاضاها بعض المشائخ من الدولة بدون وجه حق وإضافتها إلى معونات الضمان الاجتماعي؛ وضمان وصولها إلى مستحقيها عن طريق مؤسسات الدولة بعيداً عن هيمنة المشائخ. ويصبح مسئولو الدولة خداماً للشعب لا سادة عليه وناهبين لحقوقه.

ولا يخفى أن ذلك لن يتحقق ونضمن له الاستمرارية إلا بتأسيس قضاء عادل ونزيه؛ تصدر أحكامه بناء على عدالة قضايا الناس وليس على أساس قوتهم ومكانتهم وانتماءاتهم وقدرتهم على الدفع، بحيث يتحمل الناس جريرة أفعالهم بدلاً من تحميلها لأثوار مسالمة بدون وزر اقترفته. وبذلك سنضمن احتكام الناس إلى المؤسسة القضائية لتصبح وسيلة لحل جميع خلافاتهم الاجتماعية والمالية والإدارية والسياسية. ولن نجد من يذهب للمطالبة بحقوقه خارج مجال القضاء والشرعية الدستورية؛ وإن وجد سيكون القضاء العادل والصارم له بالمرصاد.

وإذا تحققت هذه الدولة عندها فقط سنفهم مغزى قول أبناء الجنوب بأنهم قدموا للوحدة دولة ثم فقدوها، وذلك ما لخصه لي جاري اليافعي في مدينة صنعاء بقوله: نحن تعودنا قبل الوحدة بأن الدولة هي التي تنظم لنا أمور حياتنا، وتوفر لنا ضرورات معيشتنا، وتمنع أن يتعدي بعضنا على بعض، لكننا فوجئنا بعد الوحدة بأننا قد فقدنا كل ذلك؛ مع إضافة أن الدولة صارت عالة علينا وعبء فوق ظهورنا.

ولذلك فمن الضرورة والأهمية أن يتمخض مؤتمر الحوار عن أهداف وضمانات لبناء الدولة اليمنية المدنية الرشيدة وفقاً للمعايير المذكورة أعلاه، لكون ذلك سيجعل أبناء الجنوب يدركون أنهم قد استعادوا دولتهم التي فقدوها بحرب 94م، شريطة أن يسبق ذلك -أو يترافق معه على الأقل- اتخاذ قرارات سياسية شجاعة من الأخ رئيس الجمهورية وحكومة الوفاق الوطني، تنص على إعادة الحقوق المنهوبة إلى أصحابها، بغض النظر عمن يكون الناهب والظالم ومن هو المنهوب والمظلوم.. ساعتها فقط سنكون قادرين على بداية حياة جديدة ومشتركة فيما بيننا.

أما إن لم يتم ذلك فنحن لن نعود إلى عهد التشطير كما يعتقد البعض لكننا سنهوي إلى مرحلة من الانشطارات، وستنقسم اليمن إلى كيانات صغرى متعددة في الشمال والجنوب، سينتج عنها مرحلة دامية من الصراعات، بما سيترتب عليها من مآلات مدمرة سنعاني منها لأجيال قادمة؛ نسأل الله أن يلهمنا الحكمة لتجنب وصولنا إليها.