الخيط الأبيض من الأسود في الجزائر
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 5 سنوات و 8 أشهر و 13 يوماً
الأربعاء 13 مارس - آذار 2019 07:54 م
 

صعبة جدا ستكون المرحلة المقبلة في الجزائر. لا شيء واضحا بشكل قاطع ونهائي، فالأسئلة المعلقة والحائرة أكثر من الأجوبة الشافية. صحيح أن قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 18 أبريل/ نيسان المقبل وعدم ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد نفـّـس إلى حد لا بأس به الاحتقان الذي أنزل مئات الآلاف إلى الشارع وربما نزع «صاعق التفجير»، لكنه لم يدخل بعد أجواء الارتياح المأمولة.

ما حصل قاد إلى نوع من تنفس الصعداء، لكنه مؤقت، فالجماهير التي نزلت رافضة عهدة رئاسية خامسة لبوتفليقة، ورافضة كذلك مقترحه الاكتفاء منها بعام واحد قبل انتخابات جديدة سابقة لأوانها يدعو إليها هو نفسه لاحقا، تجد نفسها اليوم أمام أمر واقع جديد يكرس الأمر نفسه تقريبا بمسميات مختلفة.

الحراك الشعبي مدعو اليوم لتقويم الموقف من جديد ليرى ما الذي سيفعله بالضبط بعد قرارات بوتفليقة، فهذا الحراك، ورغم افتقاره الظاهر على الأقل لقيادة محددة، مدعو للحسم ما إذا كان من الأنسب أن يواصل مظاهراته أم يوقفها: إن واصلها فعلى أي أساس وبأي مطالب أو شعارات؟؟ وإن أوقفها فبأي ضمانات أو ثمن؟

هذا الحراك الشعبي الضخم والمنظم والواعي، كما أثبت ذلك، هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الشأن لكنه لن يخسر شيئا إن هو اتعظ بتجارب سابقة حاول فيها رؤساء عرب امتصاص غضب الناس بقرارات ظنوا أنها كفيلة بتهدئة الشارع إلى أن يقرروا هم في وقت لاحق ما يريدون. الأمر هنا يتعلق بالتحديد بكل من الرئيسين السابقين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك.

بن علي خطب قبل يوم واحد من مغادرته البلاد فأبدى تفهمه لاحتجاجات مواطنيه متعهدا بعدم الترشح لانتخابات رئاسية كانت مقررة في 2014، أما مبارك فخرج في أوج اعتصام ميدان التحرير ليقول إنه لم يكن ينتوي الترشح هو الآخر لانتخابات الرئاسية المقبلة. عمليا، كلاهما أراد امتصاص غضب الناس بوعود لم يكن في وارد هؤلاء أن يصدقوها مع أنها كانت جيدة في حد ذاتها وتستجيب للنقطة الأبرز في مطالب الناس وهي تنيحهما.

ما الذي حصل بعد ذلك؟ التونسيون لم يصدقوا بن علي فلم ينزلوا إلى الشارع فرحا بما أعلنه، والمصريون هم أيضا لم يثقوا في ما قاله الرئيس رغم تنازله وقتها عن سلطاته لنائبه عمر سليمان.

العبرة من الحادثتين معا أن لا شيء يجدي إذا انعدمت الثقة بين الشعب والقيادة حتى وإن كان ما أعلنه الرئيس ملبيا لجزء أساسي من تطلعات الناس. خرجت وقتها أصوات في تونس تطالب بأن يعطى بن علي فرصة لتصحيح الأوضاع ونفس الشيء حصل في مصر ولكن الهوة التي حفرت بين الجانبين كانت أعمق من أن تردم بخطاب أو وعود.

الجزائريون هنا هم وحدهم من يقررون، خاصة أن لديهم حسا عاليا للغاية برفض أي تدخل في شؤونهم فما بالك بالوصاية على تحركاتهم أو الزعم بمعرفة مصلحتهم أكثر منهم. هم الآن أقدر من أي كان لمعرفة ما إذا كان ما عـُـرض عليهم في بيان الرئيس يدعو إلى الاطمئنان أم لا، لأن عودة المتظاهرين إلى بيوتهم والتوقف عن تنظيم مظاهرات ضخمة كل جمعة قد تغري بعض الأوساط النافذة في الجزائر بأن المرحلة الأصعب تم تجاوزها وأنه بإمكانهم الآن العودة إلى هندسة الأمور على مقاسهم دون رادع. في المقابل، قد يعتبر استمرار المظاهرات دون هدف محدد جديد نوعا من المكابرة التي لا معنى لها طالما أن «لا للعهدة الخامسة» قد تحقق.

الموازنة بين الأمرين في هذه المعادلة دقيق للغاية، وهنا يمكن لبعض القيادات الحزبية المحترمة ونشطاء المجتمع المدني وقطاعات الصحافيين والقضاة والمحامين والمجاهدين أن تتداعى لبلورة موقف موحد يدعو إلى استمرار الحراك من عدمه وبتبريرات قوية ومقنعة وإلا فقد هؤلاء نهائيا أي قدرة على توجيه وتأطير شباب غاضب لا مرجعية حزبية أو أيديولوجية له. ولا شك بأن جلاء الجدل القانوني والدستوري الآن حول وجاهة ما قام به بوتفليقة سيحدد أكثر طبيعة الخطوة المقبلة للمتظاهرين.

هنا نعود مرة أخرى لعنصر الثقة فإذا ما استقر لدى جموع الغاضبين في الجزائر بأن ما أعلن مساء الاثنين لا يعدو أن يكون مناورة وبأن «مراكز القرار» الحقيقية تتلاعب بهم بنوايا سيئة مسبقة تروم الالتفاف على مطالب الناس و«التذاكي» عليهم بمجرد تغيير وجوه بوجوه، كلاهما مهترأ، فإن لذلك تبعات ليست بالهينة، خاصة أن أسئلة عديدة ما زالت تراوح مكانها دون إجابة تشفي الغليل من بينها: من هم هؤلاء الذين يتصرفون نيابة عن الرئيس وباسمه فكيف يستقيم قول الرئيس مثلا بأنه لم يكن ينوي الترشح ورئيس حملته هو من قدم الطلب وجماعته هم من دافعوا عنه بشكل استفزازي أحيانا وبهلواني أحيانا أخرى؟! وقائمة الأسئلة من هذا القبيل طويلة جدا.

عن صحيفة القدس العربي