الهروب إلى الأمام
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 12 سنة و 11 شهراً و يومين
السبت 24 ديسمبر-كانون الأول 2011 03:03 م

لم تكن المبادرة الخليجية هي الاستجابة المثلى لمتطلبات التغيير الثوري في اليمن، هذا التغيير الذي اقتضته الثورة الشبابية السلمية وشروط تحقيق أهدافها، لكنها (أي المبادرة) مثلت حالةً مقبولة لتحقيق أحد أهداف الثورة وهو الانتقال السلمي للسلطة (بالرغم من كل التصرفات والأعمال غير السلمية لأركان هذه لسلطة طيلة ما يقارب عشرة أشهر هي عمر الثورة الجديدة)، وهي (أي المبادرة الخليجية) مثلت العلاج المر البديل عن عملية البتر القاسية التي تكلف جراحا ونزيفا دمويا محفوفا بالعواقب الخطيرة، ولذلك ربما تعاملت القوى السياسي معها على إنها أهون الشرين، وأقلهما دموية.

وبالرغم من التعديلات المتتالية التي ظل رأس النظام يجريها على المبادرة وما لاقته من تلبية من قبل المبادرين فقد كان يرفضها بمجرد قبول الطرف الآخر بها، ومع ذلك تحمل الشعب اليمني ونخبه السياسية وطلائعه الفكرية ورواد ثورته الشبابية كل العناء في سبيل الخروج بأقل الخسائر من وضع حافة الهاوية الذي وضع هذا النظام اليمن فيه.

وعندما جرى التوقيع على المبادرة وآليتها التنفيذية من قبل رأس النظام بعد أكثر من سبعة أشهر من المماطلة والتسويف والخداع والتهرب، اعتقد البعض بأن قطار التغيير قد وضع على السكة الآمنة بينما ظل القلق يراود الكثيرين ممن يدركون بواطن الأمور ومهارات رأس النظام في التلاعب وهو الذي عودنا التعهد بالشيء والقيام عمليا بعكسه، وظن بعض هذا البعض بأن الرجل لن يعود من العاصمة السعودية إلا لإعلان الحرب كما جرى في فبراير 1994م أو في سبتمبر 2011م، وهي فرضية ما تزال قائمة.

منذ أيام هدد مصدر رسمي بالحزب الحاكم (الذي لم يعد حزبا ولم يعد حاكما) ـ بعد الاستيلاء عليه من قبل الأسرة وأنصارها ـ هدد بالتخلي عن موافقته على المبادرة الخليجية، بحجج كثيرة لكنها واهية ومنها استمرار الاعتصامات والمسيرات الرافضة للمبادرة واستمرار قناة سهيل في برامجها المؤيدة للثورة وعدم عودة النواب المعارضين إلى البرلمان.

كان من الواضح أن القضية التي يلوح بها أعلام النظام تتصل بالتمسك ببند الضمانات وحده بعيدا عن بقية البنود، وكأنهم أرادوا أن يقولوا أن النتيجة الوحيدة للثورة هي التشريع بعدم محاسبة المجرمين والقتلة ولصوص المال العام على كل ما ارتكبوه طوال ثلث قرن من النهب والسلب والقتل والدمار والتنكيل والفساد مع بقائهم في السلطة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وبذلك تتحول الثورة إلى مكسب إضافي من مكاسب الأسرة الحاكم بعد مكسب استباحة الجنوب وتدمير صعدة وتسليم بعض المحافظات للمنظمات الجهادية وإفراغ الثورة والوحدة والجمهورية من كل مضامينها.

التهديد بالتخلي عن المبادرة يكشف عن النوايا المبيتة التي ظل يضمرها رأس النظام وأنصاره، والتي بسببها ماطلوا طوال هذه الفترة وهي النوايا التي تخفي التنصل من الالتزامات التي تتطلبها المبادرة وأهمها خروج رأس النظام خروجا نهائيا، من السلطة والسياسة اليمنيتين عموما، والتسليم بإرادة الشعب للتغيير والشروع في الإجراءات القانونية والدستورية التي تعيد الدولة إلى الشعب، والأهم من هذا أن الذين يهددون بالتنصل من المبادرة إنما يكشفون تلك الرغبة الدفينة في العودة إلى السلطة التي لم يغادروها بعد، والبقاء فيها إلى ما شاء الله رغما عن إرادة الشعب اليمني الثائر في كل المحافظات والمديريات.

التهديد بالعودة عن المبادرة من المفترض أن نسمعه من شخص آخر ليس رئيسا سابقا وليس متهما بإزهاق آلاف الأرواح وإراقة أنهار من الدماء، لكن العقل الباطن الذي لا يستطيع إخفاء الرغبة في العودة إلى التحكم بمصائر اليمن واليمنيين، خذل أصحابه وكشف عن عدم جديتهم في ما يعلنون وإنهم يقولون ما لا يفعلون .

إن التحجج باستمرار المسيرات والاعتصامات وبرامج قناة سهيل وعدم عودة النواب للهروب من المبادرة وما تتطلبه من التزامات هو تحجج واهٍ لأنه لا المبادرة الخليجية ولا الآلية التنفيذية ولا قرار مجلس الأمن رقم 2014 نص على إيقاف المسيرات والاعتصامات، بل إن قرار مجلس الأمن الأنف الذكر نص على حق الشعب اليمني في التعبير السلمي عن رغباته ومطالبه وتطلعاته السياسية.

أما التحجج بعدم عودة البرلمانيين المعارضين إلى المجلس النيابي فهو يطرح مشكلة أكثر تعقيدا تتعلق بمشروعية المجلس ومشروعية هيئة الرئاسة التي تعمل بمخالفة القانون منذ سنة خلت وما اتخذنه من تشريعات لم يصوت عليها أكثر من خمسين نائب، فضلا عن العمر الافتراضي والعمر الفعلي لهذا البرلمان الذي هو الأطول عمرا في تاريخ المجالس النيابية في العالم وهي أمور لا بد أن تحسم في سياق التعامل مع التغيير الثوري بعيدا عن أسطورة الأقلية والأغلبية التي أوصلت اليمن إلى ما وصلت إليه من تمزق وإفلاس.

برقيات:

* مسيرة الحياة المنطلقة من تعز وإب والبيضاء ورداع وذمار تمثل سلوكا حضاريا خارقا للعادة يبين الرقي الذي وصل إليه الشعب اليمني، مقارنة مع السلطة التي لم تجد إلا البلطجة العائدة إلى سلوك القرون الوسطي وعصر ملوك الطوائف، لمواجهة هذا السلوك العالي الرقي.

* قال شاعر العرب الأكبر المرحوم محمد مهدي الجواهري:

أيا ابن سعيد يلهب الناسَ سوطهُ ويحلف فيهم أن يخطَّ المصائرا

لقد كنت أرجو أن ترى لك عبرةً بمن رامها قبلاً فزار المــــقابرا

ولكنَّهُ بغيٌ وطــــــــــــيشٌ وإثرةٌ وواحدةٌ منـــهنَّ تعمي البصائرا