آخر الاخبار
كرة النار والملعب الدولي
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: سنتين و شهرين و 24 يوماً
السبت 03 سبتمبر-أيلول 2022 07:29 م
 

من الشرق الأوسط إلى أفريقيا وشرق أوروبا، إلى أواسط آسيا وشرقها وأمريكا اللاتينية ظلت كرة النار تتدحرج لفترات طويلة، تركلها أقدام كثيرة في ملاعب تتسع بين الفترة والأخرى، إلى أن تزايدت المخاوف اليوم من أن تدخل تلك الكرة الملاعب الكبيرة، إذ يحدث أن تنتقل الكرة من ملعب صغير إلى آخر أكبر لبعض الوقت، قبل أن تعود إلى الملعب الصغير مرة أخرى، لتنتقل إلى الكبير مجدداً في سيرورة لا تتوقف، ضمن مباريات غير ممتعة في ملاعب تضج بصرخات الموت، لا هتافات التشجيع. وفي مباريات كرة النار يفضل الكبار أن يتباروا في ملاعب الصغار، وفي تلك الملاعب يستمرئ الموكلون ركل الكرة بأقدام الوكلاء، ليستمر اللعب فترة طويلة قبل أن يقدم الكبار على مباشرة اللعب بأنفسهم، إذ ربما يؤدي استمرار لعب الصغار في ملاعبهم نيابة عن الكبار إلى نوع من الرتابة يبدأ على إثرها شوط آخر أكثر إثارة، أول لنقل أكثر دموية، وبقصد أو من دون قصد ينتقل اللعب شيئاً فشيئاً إلى الملاعب الكبيرة. ولفترة طويلة ظلت كرة النار تتقاذفها الأقدام في ملاعب العالم الثالث، وعلى مدى عقود تم ركل الكرة في لبنان والعراق والجزائر والسودان والصومال وأثيوبيا وتشاد ونيجيريا ورواندا وسوريا واليمن وليبيا ودول كثيرة في آسيا وأفريقيا وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية، دون أن تصل الكرة إلى ملاعب اللاعبين الدوليين الكبار الذين يتوخون الحذر في اللعب، لمعرفتهم أن لعبهم المباشر قد يكسر القواعد التي تحكم مباريات الصغار.

وخلال العقد الماضي تحديداً كانت سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا ملاعب واسعة للاعبين دوليين وإقليميين حاولوا عن طريق اللاعبين المحليين أن يجربوا نجاعة تكتيكاتهم العسكرية وأدواتهم القتالية، وكانت تلك الحروب الأهلية بمثابة فرصة لإجراء مناورات تم فيها تجريب أنواع مختلفة من منتوجات السلاح الحديث والتكنولوجيا العسكرية المتطورة والتكتيكات الحربية المختلفة. ومن خلال تلك المباريات أو المناورات أو الحروب الأهلية يطمح بعض اللاعبين المحليين في أن يتخطى نفوذه الحدود الوطنية ليسجل حضوراً إقليمياً، ويستغل بعض اللاعبين الإقليميين الفرصة ليدخل عن طريقها إلى أندية الكبار، فيما يضبط الكبار إيقاع اللعب بالطريقة التي تضمن سيره خلال الأشواط المختلفة في اتجاه أهدافهم المرسومة سلفاً، في الوقت الذي يركل فيه الصغار الكرة في كل اتجاه، ظناً منهم أنهم يحققون أهدافهم الصغيرة. وبعد الحرب العالمية الثانية التي التحمت فيهما القوى الكبرى في معارك رهيبة، مخلفة أكبر مجازر التاريخ على الإطلاق لجأت تلك القوى لنوعين من الحرب البديلة للحروب المباشرة: النوع الأول هو ما عرف بـ«الحرب الباردة» التي شهدت أنواعاً من التوترات والصراعات والتنافس العسكري والاقتصادي والتكنولوجي والاستخباراتي والثقافي والإعلامي والفضائي بين المعسكرين: الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وخلال تلك الفترة اندلعت حروب كثيرة حاولت فيها قوى كبرى استنزاف القوى الكبرى الأخرى في ملاعب أخرى، كما حدث للأمريكيين في فيتنام، وللسوفييت في أفغانستان، وقد امتدت فترة الحرب الباردة بين أربعينيات وتسعينيات القرن المنصرم، وانتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي.

أما النوع الثاني من الحروب البديلة فهو ما عرف بـ «حرب الوكالة»، وهي التي كانت ولا تزال ساحاتها تتسع في بلدان كثيرة. وقد ساعد على ازدهار حروب الوكالة الكلفة الباهظة للحروب المباشرة التي تدفع نحو الابتعاد عن الصدام المباشر الذي يحدث نتيجة لحسابات خاطئة، فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي شعرت الولايات المتحدة بأنها القوة العظمى الوحيدة، وظن من يرسمون السياسات العسكرية والاقتصادية والثقافية أن الحضارة الإنسانية انتهت عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً إلى أيدي الأمريكيين، وأن التاريخ يكتب نهايته المستقرة في «الليبرالية الغربية»، وانطلقت جيوش الولايات المتحدة مستغلة الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفييتي لتغزو أفغانستان والعراق، بعد أن تدخلت في أوروبا الشرقية بشكل مباشر عبر حلف شمال الأطلسي. ومع الحرب الأمريكية المباشرة في أفغانستان والعراق ارتفعت كلفة التدخل المباشر مادياً وبشرياً، وهي الكلفة التي تهيئ دائماً لدعم خيارات حروب الوكالة. وفي الفترة ما بين 1980 و1988 كانت إيران تخوض حرباً مباشرة ضد العراق، الأمر الذي كلفها خسائر عسكرية واقتصادية وبشرية باهظة، انتهت إلى تجرع الراحل الخميني «كأس السم»، في إقرار بهزيمة ضمنية، ولفداحة خسائر تلك الحرب المباشرة فضلت طهران اللجوء لحرب الوكالة بإنشاء ميليشيات مسلحة تتبع الحرس الثوري، وتخوض حروب إيران بالوكالة في بلدان بعينها، إذ تميل القوى العظمى غالباً إلى أن يكون وكلاؤها في الحروب دولاً وأنظمة، في حين أن القوى الإقليمية توظف مليشيات وجماعات مسلحة للغاية نفسها.

ومع الانسحاب التدريجي من الملاعب الملتهبة بالحروب المباشرة يُترك الأمر للاعبين محليين يقاتلون أو يلعبون بحماس كبير، لاعتقادهم أنهم يخوضون حروباً مقدسة دينية ووطنية، فيما هم – أدركوا أو لم يدركوا – ينفذون إرادة قوى لا علاقة لها بالأديان أو الأوطان. وفي حين تبدو حروب الوكالة أقل كلفة للاعبين الدوليين فإن مخاطر توسعها تظل قائمة، إذ قد تؤدي ركلة واحدة لكرة النار في اتجاه معين إلى اشتعال الحريق في ملاعب أخرى، خاصة إذا كان وكيل الحرب يتسم بعدم الانضباط لقواعد اللعبة المرسومة، وهنا قد تؤدي الحسابات الخاطئة للاعب المحلي أو الإقليمي أو الدولي لتوسيع ميادين اللعب، بتدخل مباشر لقوة أخرى تنزع عن وجهها قناع الوكيل، ليظهر الموكل سافراً، وهو يخوض حربه بشكل مباشر بعد سقوط أقنعة الوكلاء.

ولعل في امتداد كرة النار من الملعب الشرق-أوسطي إلى الملعب الأوروبي إشارة إلى تحولات الصراع والاقتراب من حرب مباشرة مريعة بين القوى العظمى، وهي الحرب التي لا يزال العالم يتحاشاها، رغم استعارها في أوكرانيا بشكل غير مباشر، ورغم تأزم الوضع في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، وتوالي المناورات العسكرية، وعودة حالة الاستقطاب، مع محاولات ورثة المعسكر الشرقي إحداث تغييرات في بنية النظام الدولي، تؤدي إلى نوع من توازن القوى، بما يحقق أهدافهم في العودة القوية إلى المشاركة في قيادة العالم.

وبما أن أغلب الحروب تقوم لأسباب خفية حقيقية وأخرى معلنة غير حقيقية، وبما أن كثيراً من الأسباب الحقيقية مبني على الحسابات الخاطئة فإن اندلاع الحروب وتحولها من شكل إلى آخر أمر لا يمكن تحاشيه، ذلك أن الحسابات الخاطئة للإنسان أكثر من حساباته الصحيحة، وهذا يفسر كثرة الحروب في التاريخ البشري إلى الحد الذي يجعل فترة السلام مجرد هدنة بين حربين.