المتقاعدون كـ"قضية" بين "لف" السلطة و "دوران" المعارضة!!
بقلم/ صحفي/عابد المهذري
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 13 يوماً
الإثنين 10 ديسمبر-كانون الأول 2007 07:31 م

لن يمر وقت طويل حتى يستفحل النسيان بمكونات الذاكرة الوطنية، أربعون عاماً مضت على نصر الاستقلال، وفي كل عيد وطني تشغلنا الاحتفاءات الصاخبة عن التعامل مع المناسبة كما يفترض، ربما ستكون ذكرى 30 نوفمبر هذا العام هي الاستثناء، إذ سيكون إحياء العيد مختلفاً عما درجت عليه العادة.

في هذه الذكرى الوطنية على موعد تأخر طويلاً مع التاريخ، ولأن عام 2007 كان مختلفاً بكل مقاييس التميز، فإن العام هو عام المتقاعدين العسكريين، وحدهم استلهموا معاني النضال ودلالات التضحية، أعادوا قضية الجنوب إلى الواجهة السياسية رغم أنف الغطرسة وغرور الجبروت، ويطل المشهد العام فاغراً فاه الدهشة والإعجاب أمام نضالات سلمية يشعلها المحاربون القدامى من خلال اعتصامات حضارية تطالب بحق دستوري مشروع، بحثاً عن طريق أمثل للخلاص والكرامة.

* أحدث المتقاعدين حراكاً سياسياً داخل المجتمع أزعج السلطة والنظام الذي يحكم البلاد بقوة النار والحديد، يصبح فاقداً للشرعية حينما لا تتوفر شرعيته بالإنجاز التنموي والشرعية الديمقراطية الانتخابية، وفق المفهوم الخالي من شوائب التضليل الإعلامي ونوائب تزوير أصوات المقترعين، عندها يكون الحكم شبيهاً بالاحتلال، كون الأنظمة التي تحكم على هذا النحو، تقع في فخ مشكلة أكبر، والمشكلة اليمنية يفاقمها خلل في التركيبة الاجتماعية، أفرزته سوء إدارة الدولة لشؤون الحياة، فعلى حساب المجتمع تتوغل الدولة في العمق لأنها تخلت عن وظائفها الأساسية في توفير متطلبات الشعب، وصولاً إلى التخلي عن فرض السيطرة المفترضة على القاعدة الاجتماعية بما يكفل إيجاد التناغم بين الأطراف وضبط إيقاع مراكز القوى وقوى السياسة، حتى صار الحال نوعاً من الحكم الأجنبي عبر حكم بالوكالة من الداخل.

* أفضل شيء في بلادنا –الآن- أن هناك شيئاً يحدث، لكن فرصة اليمن في النهوض تتضاءل نتيجة تراكمات المراحل السلبية الماضية، حتى وإن تحققت الخطوط العريضة للتغيير المتمثلة بتنظيم العلاقة المؤسسية بين السلطات وترجمة الديمقراطية المطلوبة بإطلاق الحريات العامة ووقف همجية القمع والاستبداد، يظل جوهر القضية الوطنية مغايراً تماماً لمضمونه، القضية أعمق مأساوية، اليمن –على مدى عقود- تعرضت لموجات عنيفة من عمليات النهب المنظم، الغلاء والبطالة والفقر، ألحقت بالوطن أضراراً جساماً، الفساد الذي تفشى في قلب أجهزة الدولة، أدى إلى الانهيار الذي تعيشه اليوم، نهب الثروة وهبر المال العام والمساعدات الخارجية، ساعد كثيراً على نهب السلطة وهبر المواقع الهامة جداً، ومن حيث لا يفهم أحد، بات من يحكم هو الاسرة الحاكم وليس الحزب الحاكم بادواته وبرامجه.

* الدولة غائبة، المجتمع مفقود، هذه هي الحقيقة، الوضع الراهن يحتاج إلى ولادة الدولة من جديد والعمل على إعادة بناء المجتمع مرة أخرى، وقبل ذلك، يجب دراسة الأسباب التي حولت المواطنين إلى مقيمين، والمجتمع إلى تجمعات بشرية، والشعب إلى مجرد سكان، وما يطفو على سطح الأزمة اليمنية الراهنة، هو الصورة السياسية، فيما وجوه الأزمة متعددة، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، وفوقها معاناة من سلطة ليست سياسية ولا علاقة لأقطابها بالاقتصاد، سوى من الزاوية المحشورة بفكر القبيلي وتفكير العسكري، ومن يخاف الحقيقة، ليس إنساناً على الإطلاق، والإنسان اليمني بطبعه قد خاف إلى حد عدم خشيته من الخوف على شيء يخسره، وها هو الشعب ينتفض، الشارع يتحرك، المريض الذي ظل في غيبوبة طويلة بدأ يستعيد الأحاسيس.

* ما يحصل حالياً، أن الخوف الذي كان جماعياً في السابق، صار بمثابة جرأة جماعية في الحاضر، الخارجية اليمنية تلتهب على شتى الاتجاهات، الغليان الشعبي يسيطر على الساحة، التذمر يعم محافظات الوطن، اعتصامات ومظاهر احتجاجات تنفذها مختلف القوى المدنية: السياسية والحقوقية والعسكرية و "القبلية" أيضاً، لم يعد هناك من هو مقتنع بالوضع عدى دائرة الاستئثار بمغانم السلطة، غير أن وجع الجنوب الذي على جهة الشمال هو الأشد إيلاماً، هناك مساواة في الظلم، لكن بلا عدالة تامة. الجنوبيون مظلومون أكثر، محرومون أكبر، مضطهدون أشد، ولنعترف بصدق دون تواطؤ عنصري لانتماءاتنا المناطقية، أما "الانفصال" الذي يسلط كتهمة للنيل من عدن وأخواتها، فالانفصاليون في صنعاء وما حولها هم أعداء الوطن وعملاء الخارج وليس هؤلاء.

* بين التغيير والتنوير، هناك فرق كبير يبدو أن قوى المعارضة اليمنية لا تستوعبه، الخلط بين المفاهيم المتباينة بالممارسة الفكرية والسلوك العملي، يتضح في مزاحمة اللقاء المشترك لجمعيات المتقاعدين على الأضواء دونما سبب واضح يبرر مثل هكذا تصرفات تدل على تقصير واهتزاز يفضحه عدم اتخاذ هذه القيادة لموقف واضح تجاه تداعيات الجنوب، غير تلك الوقفات "المطاطية" والتي لا تخلو من محاولة سحب بساط قيادة الحراك من تحت جيش الجنوب المسرح ومن ثم التعامل مع القضية بمهادنة على نحو ما أعقب الانتخابات الرئاسية، ومساعدة النظام في تهدئة الاحتقان وامتصاص الغضب الشعبي بالالتفاف على قضية العسكريين المتقاعدين من خلال إشغال الرأي العام بمظاهرات الجوع وسوء المعيشة التي توقفت "فجأة" فيما ارتفاع الأسعار مستمر والوضع المعيشي في تدهور، لكن توجهات المشترك اتجهت إلى عناوين بعيدة عن لقمة العيش.

* الأحزاب التي تدعي أن التغيير والإصلاح السياسي هو هدفها، هي في الواقع لا تقوم سوى بدور تنويري بحجم ما يمكن لأي فريق أدبي أو إعلامي أو دعوي نشط أن يلعبه فالتغيير المنشود هو حركة ميدانية وحضور جماهيري وقوة ضغط شعبية لا نجدها في أجندة تكتل المشترك بالصورة التي تستحق أن يراهن عليها الناس، الرهان الآن صار على تكوينات المتقاعدين العسكريين كقوة سياسية قادرة على التغيير بمعناه الحقيقي والميدان يشهد، ولكي يستوفي المناضلين المحالين للتقاعد "قسرياً" مقومات بلورة أحلام المقهورين إلى حيز الوجود، باتت الظروف المحيطة ومعطيات اللحظة، يدفعان بفكرة التحول من حركة شعبية إلى "حزب" سياسي هو الحل كحتمية ترنو لقيادة المستقبل.

* ما فشلت أحزاب المعارضة على تحقيقه طوال سنوات مضت، أحرزه المتقاعدون في تسعه شهور فقط وبنجاح مضاعف، السلطة تحتقر الشعب والمعارضة تستغبيه، بين هذا وذاك حدث الانفجار الجماهيري بفضل رؤية ومشروع امتلكها المفصولون من وظائفهم العسكرية عقب حرب 94، وفي اليمن، من يمتلك رؤية صائبة ولديه مشروع متكامل يحصد الهدف بسهولة، وهو ما منح الانتصار لإدارة أبناء الجنوب، رغم رياح التهديد وعواصف الوعيد، وما يزال الصمود متواصلاً دون يأس أو تراجع، يسنده إصرار المتحاملين على جروهم في سبيل غايات نبيلة تضحي بالحاضر من أجل القادم، هذا من جانب، أما الجانب الآخر فيجيب على دواعي تمني العامة رحيل النظام، كتفسير للكراهية المتبادلة والإحساس النفسي المتراكم على مدى عمر الحكم الطويل. لا جدال حول افتقاد الدولة لمشروع يحفظ البقاء وديمومة الحكم، التفكك ملحوظ على أداء الحكومة، لم تعد الدولة تملك سوى القوة الأمنية/ العسكرية تضمن لها العرش، ولم يعد لدى اليمنيين غير المواجهة، بعدما سُدت أمام الجميع كافة المنافذ، هروب من جحيم الوضع المتردي نحو الهجرة والاغتراب لاستمرارية الحياة هو الخيار الصعب جداً جداً لطموح الشباب، تعقدت الأمور بمؤشرات مخيفة، ولأن اعتصامات المتقاعدين فتحت ثقوب الفرج على جدار الحلم، أصابت العدوى مناطق شتى حتى شارف الإضراب الوظيفي والاعتصامات المطلبية بلوغ حدود عصيان مدني مرتقب، كما انتقل فيروس العنف الذي تستخدمه السلطة مع المحتجين والمعتصمين في المسيرات السلمية، إلى أفراد الشعب وتكويناته الطبقية، وأصبح العنف يمارس ذاتياً كرد فعل ودفاعاً عن النفس، بلطجة النظام المتزايدة ستتحول ذات يوم إلى الاتجاه الآخر، عندها ستقع الكارثة، وسيتزحزح الجنوب من موقعه على جهة اليسار في صدر الوحدة.