من الكذاب، الحكومة أم الدولة، أم الاثنتان معاً؟
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 17 سنة و شهر و 13 يوماً
الخميس 11 أكتوبر-تشرين الأول 2007 12:18 ص

تعمد الدول والحكومات والمؤسسات والشركات والدوائر الرسمية عادة إلى توزيع الأدوار بين رؤسائها وقادتها ومدرائها للتحايل وخداع الشعوب. وتعتمد هذه الاستراتيجية المفضوحة على إشعار الناس بإن هناك مثلاً خلافاً أو فرقاً في النظرة والمواقف فيما يخص بعض السياسات الداخلية بين الزعيم ونائبه، أو بين الرئيس وقادة الشرطة والأجهزة الأمنية، أو بين رئيس الدولة ورئيس وزرائه، أو بين رئيس الوزراء والوزراء، أو بين الوزير وأحد المدراء العامين، أو بين المحافظ ورئيس البلدية أو أي من الدوائر، أو بين رئيس مجلس إدارة الشركة وأعضاء المجلس.

لا شك أن بعض الخلافات والتباينات في الآراء والمواقف قد تحدث بين أعيان الدول والحكومات والشركات والمؤسسات، لكن ما نحن بصدده هو ذلك التوزيع المتفق عليه للأدوار بين علية القوم ومن ينفذ أوامرهم وسياساتهم. وغالباً ما تمر هذه اللعبة على السذج والبسطاء دون أن يعلموا بأنها مجرد تمثيلية للضحك على الذقون وذر الرماد في العيون.

دخل أحدهم ذات يوم إلى مكتب أحد الزعماء للبت في إحدى القضايا، فاستقبله مدير المكتب بوجوم وتأفف شديدين، لا بل أسمعه كلاماً قاسياً وفضاً بشأن الأمر المطروح، وكاد أن يطرده من المكتب، مما جعل ذلك الشخص يلعن الساعة التي جاء فيها. وكم تمنى في تلك اللحظات أن يهرب بجلده من المكتب ظناً منه أن الأسوأ ينتظره بعد مقابلة الزعيم. لكن العكس تماماً قد حدث، فما أن أدخله المدير إلى بهو مكتب الزعيم حتى استقبله الأخير بابتسامة عريضة وترحيب كبير، لا بل أجلسه بالقرب من كرسيه، وطلب له القهوة. فانفرجت أسارير الضيف، وظن أن المسألة مجرد قلة أدب واحترام من طرف مدير المكتب الفض اللعين، دون أن يدري أن الأمر متفق عليه بين الزعيم ومدير مكتبه: الأخير يقوم بالدور القذر، والأول يظهر بمظهر الدمث واللبق والمحترم والحضاري، مع العلم أنه هو الذي ربما قد أوعز لمرؤوسيه بالتصرف مع الناس بتلك الطريقة القمئية.

وذات مرة دخل مسؤول عربي كبير إلى أحد المطاعم الفاخرة في هذا العالم العربي الواسع، فأعجب أيما إعجاب بجمال المطعم ومأكولاته الطيبه، فسأل صاحب المطعم على سبيل الدعابة، مطعمك عال العال، لكن لا شك "أنهم مرمروك كثيراً، وكادوا أن يجعلوك تلعن الساعة التي فكرت فيها ببناء مطعم قبل أن يعطوك الرخصة". ثم أطلق المسؤول الكبير ضحكة مريرة، وكأنه يتذمر أو يسخر من المسؤولين عن إعطاء الرخص في بلاده، فأجابه صاحب المطعم بلباقة ودبلوماسية: "المهم أن المطعم أصبح جاهزاً حتى لو تعذبنا في الحصول على الرخصة."

لا أدري من نصدق في هذه الواقعة، المسؤولين الذين لا هم لهم سوى تنغيص حياة الناس و"مرمطتهم" بالروتين والرشاوى والعرقلة، أم المسؤول الكبير الذي يتذمر من تصرفاتهم البشعة! إن مجرد قيام المسؤول بسؤال صاحب المطعم عن الصعوبات والعراقيل التي لاقاها قبل فتح مطعمه دليل واضح على أن الكبار والصغار في الحكومة متورطون في لعبة "العكننة" وتوزيع الأدوار. المسؤولون الصغار يؤدون الدور القذر، ثم يأتي الكبير ليشتكي من تصرفاتهم ويذمها. بالله عليك يا سعادة المسؤول إذا كنت تدري بأن مرؤوسيك أناس وسخون وحقراء ولصوص فلماذا لا تتخذ إجراءات صارمة بحقهم، وتجعلهم يسيرون أمور الناس بيسر وطيبة، ولا يحولون حياتهم إلى جحيم بروتينهم وسفالتهم؟ أم إنكم جميعاً وجهان لعملة واحدة، أو على رأي المثل الشعبي: مؤخرتان في سروال واحد؟

هل صحيح فعلاً أن هناك خلافاً في بعض الدول العربية بين بعض الزعماء العرب وحكوماتهم حول بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية، كأن تضيـّق الحكومات العربية، من المحيط إلى الخليج، الخناق على رقاب الشعوب اقتصادياً، ثم يأتي الزعماء ليطالبوا بتحسين ظروف معيشة الناس وتلبية احتياجاتهم؟ أم إنها أيضاً لعبة مدروسة بعناية، بحيث تلعب الحكومات دور الشرير ليظهر الزعماء بمظهر الطيبين، مع العلم أن النتيجة ستكون سيئة في كل الحالات؟

أليس حرياً بنا أن نشك بما يجري من حولنا من ألاعيب سياسية بين الكبار والصغار؟ لقد أتاح لي عملي الإعلامي بين الحين والآخر أن ألتقي بمسئولين عرب كبار. وللغرابة كان معظم من قابلتهم يبدون لي في غاية الكياسة واللباقة والتهذيب والدماثة والثقافة العالية، لا بل إن بعضهم يُشعرك بالخجل لأدبه الجم، وتواضعه الشديد، وخجله المفرط، إلى حد أنك تبدأ تسأل نفسك: هل هذا هو الزعيم أو المسؤول الذي طالما سمعت قصصاً عجيبة وغريبة عنه؟ فقد كان يبدو لي هؤلاء الكبار بأنهم لا يمكن أن يؤذوا نملة صغيرة، فما بالك أن يسيئوا لإنسان، أو يعبثوا بلقمة عيشه، أو يعذبوه، أو يقتلوه، أو يسمحوا لجلاوزتهم "الميامين" بذلك، فهم لا يبدون من ذلك الصنف من البشر الذي يمكن أن يفكر، أو يقدم على مثل هذه الأعمال القاسية والشنيعة. فمظهرهم الخارجي في غاية اللطف، وحدث ولا حرج عن ملمس أيديهم حين تصافحهم، فهو يضاهي نعومة أنامل بريجيت باردو حين كانت في صباها، بحيث تبدأ بتلمس يديك بعد السلام على سيادته أو سعادته أو فخامته آملا أن لا تكون يداك الجلفتان قد سببتا أي حساسية لبشرة الزعيم الذي يحسده الأطفال على طراوتها الحريرية.

كيف يستوي وجود هؤلاء المسؤلين "المتحضرين والطيبين" على سدة الحكم في العالم العربي مع هذا الكم الهائل من القمع والاضطهاد والبطش والملاحقة والتضييق وحتى القتل والجرائم بحق الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج؟

كشف معارض عربي معروف ذات مرة أن سجون بلاده تشهد أعمالاً فظيعة تقشعر لها الأبدان. فقد ذكر كيف يتعرض المساجين والموقوفون إلى معاملة همجية في غاية البشاعة. لكنه أردف قائلا عندما سُـئل عما إذا كان المسؤولون يعرفون عن هذه الأعمال والقائمين بها:" لقد ذكرت هذه الأمور أمام كبار المسئولين، لكنهم تفاجئوا كثيراً، وأعربوا عن أسفهم الشديد، لا بل إن بعضهم انفطر قلبه حزناً عما سمع. وأضاف أن ذلك لا يجوز أبداً". ولا شك أن المسؤلين العرب في الدول العربية الأخرى، زعماء كانوا أو وزراء، سيقولون الشيء نفسه فيما لو واجهتهم بمثل هذه التهم. فهم يتأسفون لحدوث مثل هذه الفظائع، ويعتبرونها مجرد "تجاوزات"، ويعطونك محاضرات مطولة في الإنسانية والرأفة، ويتبرأون تماماً مما حدث ويحدث. لكن هل هم آسفون فعلاً، ولا يعرفون الكثير عما يحدث من انتهاكات وبشاعات ومضايقات وقمع واضطهاد بحق العباد على أيدي من سماهم الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي "كلاب الصيد"؟ أم إنهم على أتم المعرفة، لا بل هم الذين يرسمون سياسات القمع والبطش والتنكيل، ويوعزون لجلاديهم أن ينفذوها حرفيا؟

كم يبعث هؤلاء المسؤولون العرب "المتحضرون والمفكرون والرومانسيون والشاعريون" على السخرية والقرف عندما يلفون، ويدورون، ويزعمون بأنهم بريئون مما يحدث للناس من مصائب على أيدي "كلابهم"! إنهم يذكرونني بأحد قادة العصابات الصهيونية الذين كانوا مسؤلين عن تهجير العرب واقتلاعهم من فلسطين، أو قتلهم في القرن الماضي. فقد جاء إلى هذا القائد مسؤول أدنى رتبة ليأخذ رأيه بإعدام مجموعة من الفسطينين المقبوض عليهم في إحدى القرى المدمرة، فرد عليه زعيم العصابة قائلا: "وهل تعتقد أن لدي وقتاً للبت في مثل هذه الأمور؟" وبالطبع فهم السائل الرسالة، وأعدم الفلسطينيين فوراً، على اعتبار أنها "مسألة لا تستحق حتى السؤال". ولو اتهمت قائد العصابة بأنه مسؤول عن إعدام هؤلاء الفلسطينينن لرد بالنفي القاطع، ولربما اعتبرها أيضا "مجرد تجاوزات"، وأعطاك محاضرة مطولة أيضا في فضيلة الرأفة بالناس والحفاظ على الجنس البشري، تماماً كما يفعل عادة المسؤلون العرب "الدمثون" الكبار الذين يـُخجلونك "بتواضعهم" و"طيبتهم" عندما تلتقي بهم!

يعطونك من طرف اللسان حلاوة، ويروغون كما يروغ الثعلب. وقديما قال الشاعر: "إذا رأيت نيوب الليث بارزةً...فلا تظنن أن الليثَ يبتسمُ". "إن الأفاعي وإن لانت ملامسُها...عند التقلبِ في أنيابها العطبُ."