لماذا يستعجلون الطوفان
بقلم/ أ.د سيف العسلي
نشر منذ: 13 سنة و 9 أشهر و 28 يوماً
الخميس 27 يناير-كانون الثاني 2011 03:33 م

في ارض الحكمة والإيمان تستعجل النخب السياسية حدوث الطوفان السياسي. ويتجلى ذلك في تصعيدها للمناكفة السياسية فيما بينها. ونتيجة لذلك فقد أوقعت نفسها و الوطن في نفق مظلم. اذ انها تتعمد خلق مشاكل سياسية لا وجود لها بهدف إرباك بعضها البعض، فتنشغل في الحوار لإيجاد حلول لها. وكان الأولى بها ان لا تخلقها ابتداء. وقد ترتب على ذلك إهمال وتجاهل للمشاكل الحقيقية التي يواجهها المواطنون والوطن، والتي ظلت وباستمرار تتفاقم وتنحدر الى مستويات خطيرة تهدد الأمن القومي للبلاد وفي مقدمتها المشاكل الاقتصادية..لقد ترتب على تصرفها على هذا النحو زيادة معدل الاحتباس الحراري في الأجواء السياسية اليمنية. فمن خلال التصعيد المتبادل للمطالب، والإصرار في نفس الوقت على عدم تقديم التنازلات الضرورية، فقد تراكمت سحب الحقد السوداء في فضاءات السياسة اليمنية. وعندما تصل حدة الغليان السياسي الى درجة كبيرة فستتهيأ الظروف المناسبة لحدوث الطوفان السياسي. في الوقت الحاضر يتسبب تكاثف السحب السوداء في انعدام كامل للرؤيا الإصلاحية وتفشي الغازات السياسية السامة التي تعمل على بقاء العقل السياسي اليمني في غيبوبة شبه كاملة.

ألا ترى أنهم لا يفرقون بين المفسد وغير المفسد، ولا بين الضار والنافع ولا بين المشكلة والحل، ولا بين الحق والباطل، ولا بين الممكن وغير الممكن ولا بين المعقول وغير المعقول. ولذلك فقد ضاعت المصلحة العامة الامر الذي ترتب عليه ضياع المواطن و الوطن. .الا ترى أنهم لا يكترثون بالعمل والانضباط والعدل والإحسان وإطاعة القانون والنجاح والأمانة والإبداع و المواهب ولا حتى بالحياة. إنهم فقط يعملون من اجل مصالحهم عملاً بالقول المأثور (أنا او الطوفان).

الا ترى أنهم لا يحتقرون الظلم و البغي والإثم والفواحش والكسل والفوضى والعنف ولا حتى الموت. فكل من يمارس ذلك تفتح له الأبواب المغلقة وتغدق عليه الأموال وتفتخر به المنابر السياسية..ولذلك فإنهم لا يحاولون منع حدوث الطوفان السياسي، بل إنهم يترقبون حدوثه بفارغ الصبر. فهم يعتبرون مؤشرات مقدمه بشارات و كل محاولة لمنع حدوثه عمل غير وطني. ذلك إنهم يعتقدون انه سيحل مشاكلهم جذريا. انه من وجهة نظرهم سيهلك منافسيهم بدون تعب منهم. ولا يهم في سبيل تحقيق ذلك ما سيلحق بالمواطن والوطن من أضرار. فإن لم يكونوا حكاما له فهو ليس وطنا لهم.

الا ترى أنهم منهمكون بالمناكفة السياسية حتى آذانهم حتى لو ترتب على ذلك حدوث الطوفان. فالانفصال في نظر بعضهم سيعيد لهم الكرامة، والفساد في نظر البعض ستحل مشكلة الفقر، والفوضى في نظر البعض الآخر ستحل مشكلة التداول السلمي للسلطة، والعشوائية عند البعض ستعجل من عملية التنمية والجهل عند الآخرين سيحقق المساواة، والشعارات عند البعض ستحقق المعجزات والإهمال لدى البعض سيعزز الوحدة الوطنية. ولا يهمهم ان يتسبب ذلك في استعجال حدوث الطوفان.

فلا مكان في أجنداتهم لإيجاد أي حلول ناجعة لمشكلة الفقر والتنمية الاقتصادية وتحسين مستوى المعيشة وتقوية اللحمة الوطنية، لأن النجاح في ذلك سيقلل من الاحتباس الحراري، وبالتالي سيمنع من حدوث الطوفان. فالنجاح في ذلك قد يدفع بالشعب للتفكير بطريقة جديدة لا تنسجم مع تفكير النخب السياسية الحالية. وقد يترتب على ذلك ظهور نخبة سياسية جديدة. او ليس الطوفان أفضل من وجهة نظرهم من ذلك؟

و لذلك فإنهم يعتقدون انه يجب عليهم العمل لمنع ذلك. و قد اكتشفوا ان من ذلك تقاعسهم عن القيام بأي واجبات عليهم و منع الآخرين من القيام بواجباتهم كذلك بهدف تسريع عملية الاحتباس الحراري. ولذلك فلا بد من إشغال المجتمع بأسره بقضايا مفتعلة و مضرة. فلا يهمهم ان يتعارض ذلك مع الثوابت او القيم او المصلحة الوطنية. و لا يهمهم ان تكون هذه الوسائل سلمية او غير ذلك. فلا صوت يعلو فوق الطوفان. إنه الوحيد القادر على تدمير المنافسين. ولذلك فإنه يجب أن يكون الكل منافسا للكل. فذلك كفيل بجعل الكل يستعجل الطوفان.

لا يهم في نظرهم ان يترتب على الطوفان الهلاك الجماعي او القتل الجماعي او الإبادة الجماعية او الفقر الجماعي او الجوع الجماعي. المهم فقط هو ان نفوز وحدنا او ان يهلك الجميع. لقد ترتب على ذلك وصول الأنانية لدى بعض النخب السياسية الى أعلى مراتبها. فقد تحول عندها حب النفس و كراهية الآخر الى كراهية للجميع. أي الى كراهية شاملة كل أنواع الحياة. وذلك في نظري أهم مؤشر على قرب حدوث الطوفان، فما الطوفان إلا قتل للحياة من خلال إفساد كل مقوماتها ليس في الحاضر فقط وإنما في المستقبل ايضا.

إنهم لذلك يحرصون على نشر ثقافة الكراهية الى أوسع مدى. فما الطوفان إلا كراهية عمياء للحياة. في ظل ثقافة الكراهية لا يتوقع المرء من غيره إلا الشر و بالتالي فلا يقابله إلا بذلك. والأكثر خطورة من ذلك هو صم آذانهم وإغلاق أبصارهم امام أي دعوة صادقة تنبههم على خطورة ما هم عليه وما هم مقبلون عليه. بل إنهم يقولون لكل من يتجرأ على ذلك، إنا لنراك في ضلالة، قال يا قومي ليس بي ضلالة ولكني ناصح أمين لكم. فتعجبوا من ذلك وكذبوه فأغرقوا أجمعين لأنهم قوم عمون. فقد أعمتهم أنانيتهم عن ان يميزوا بين من يصدقهم و بين من يخدعهم. ونتيجة لذلك فإنهم لا يميزون بين صيحة التحذير وصيحة التخويف، وبين مُرّ العلاج ومُرّ السم وبين تكشيرة الحرص وبسمة الخديعة.

 إنهم فقط يرون أخطاء و عيوب غيرهم. و لذلك فإنهم يقولون لكل من يحاول ان يوضح لهم أخطاءهم و يقدم لهم المقترحات البناءة، إنا لنراك في سفاهة قال يا قومي ليس بي سفاهة و لكني اعلم من الله ما لا تعلمون. فتعجبوا من أمره فكذبوه فأهلكهم الله أجمعين لأنهم قالوا ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين.

إنهم لم يدركوا الفارق بين تصرفات المنافقين و تصرفات المؤمنين. و لذلك فانهم لا يفرقون بين من يصدقهم و يتخلى عن مصالحه الشخصية حتى المشروعة منها و بين من يجاريهم و يستغلهم لمصالحه الشخصية غير المشروعة. فالمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف، نسوا الله فنسيهم فأحبط أعمالهم أجمعين، لأنهم لا يضحون و لا يقنعون. فالوطن لا وجود له و لا قيمة له ما لم يتم ضمن عدم التعرض لمصالحهم المشروعة و غير المشروعة. أما غيرهم فإنهم لا يترددون عن التضحية بمصالحهم المشروعة اذا كان ذلك ضروري لخدمة الوطن. ذلك ان الوطن عند هؤلاء هو عطاء بدون حدود و من غير منٍّ او أذى. .فلم تعم أبصارهم و بصائرهم ليدركوا ان الوطن لا يكون وطنا الا اذا كان للجميع. فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر أولئك سيرحمهم الله. ولذلك فهم رحمة لكل من يشاركهم في الوطن حتى لو لم يكن مؤمنا مثلهم. فإن توليتم فما سألتكم من اجر ان اجري إلا على الله، فقالوا لأن لم تنته لنرجمنك فأنجاه الله و من معه في الفلك و اغرق الباقين.

لذلك فعلى الرغم من الإساءة لهم و الاستهزاء بهم فإنهم لا زالوا يقولون إنا حريصون عليكم لأنكم إخواننا في الوطن. فما كان ردهم الا ان قالوا ان أنتم الا بشر مثلنا، وقد تبعكم أراذلنا فإن لم تخرسوا فسنطردهم من هذا الوطن. قالوا لهم أما نحن فلسنا بطارديكم و لا مقاطعين لكم. اما انتم فإن حسابكم على الله فلستم تملكون خزائن الله فعلى الله توكلنا فهو الذي يرزقكم و يرزقنا. قالوا قد جادلتمونا فأكثرتم جدالنا. فقالوا لا ينفعكم نصحنا فالله وليكم يفعل بكم ما يشاء.

لكن عليكم ان تدركوا ان المكر السيئ لا يحيق الا بأهله. فالله سيرحم هذا الشعب وسيجعل له مخرجاً حسناً من حيث لا تحتسب النخب السياسية. أما من تسيطر عليهم الأنانية و تنتشر فيهم ثقافة الكراهية فان الطوفان هو مصيرهم. بذلك فهم الذين يصنعون طوفانهم بأنفسهم. فلن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما يقولون.

عليكم ان تعلموا انه إذا ما فار التنور لعدم توافر ما يخبز فيه و حدث الطوفان فانه سيصيبكم انتم وحدكم. و من اجل عدم حدوث ذلك فان عليكم ان تخرجوا أنفسكم من حفرة الحوار العبثي و التي لن تقودكم الا الى نفق مظلم لا يمكن الخروج منه نتيجة لتفشي الأنانية و سيطرة المصالح الخاصة غير المشروعة.

عليكم ان تفيقوا من إغمائكم فتدركوا ان الانتظار طويلا لبدء الحوار و التوصل الى اتفاق لن يقود الا الى الطوفان السياسي. و بدلا من ذلك فان عليكم ان تتعاونوا لبناء الفلك الذي سينجيكم. و يتمثل ذلك في الحرص على المصلحة العامة و تقديمها على مصالحكم الخاصة. فانه لا بد من التصدي للمشاكل الحقيقية التي يعاني منها المواطنون بدلا من الانشغال بمصالحكم الخاصة.

فلن يقبل الشعب الاستمرار في ملهى الحوار العبثي الى ما لا نهاية. وبدلا من ذلك فانه لا مناص من الاهتمام بمصالحه العامة. ان ذلك يتطلب القيام بالإجراءات الضرورية على ارض الواقع لتحسن من حياته و تعالج مشاكله هو لا مشاكل القوى السياسية. فعلى من يدعي حب اليمن الإسراع في الخروج من مربع الأنانية. ان عليه الا يعول على الحوار والا يستخدمه وسيلة لتسجيل مواقف سياسية. فلن يقبل الناس في المستقبل أي تبرير لأي تقصير. ان تنقية الأجواء السياسية في اليمن يتطلب وبكل بساطة العمل الجاد على معالجة مشاكل الناس بأسرع وقت ممكن. فتحقيق ذلك لا يحتاج الى حوار ولا اتفاق. و لن يتحقق ذلك الا اذا تم ليس فقط التخلي عن الأنانية بل التشمير لمحاربة ثقافتها و بدون هوادة.

 و في هذه الحالة فإذا أصر الباقون على عدم الخروج من حلقة خلق مشاكل لا وجود لها و الانشغال في الحوار حولها فإن الطوفان سيصيبهم وحدهم. أما بقية اليمنيين فإنهم سيكونون قد ركبوا سفينة النجاة قائلين بسم الله مجراها ومرساها. فإذا أمطرت قلوب الأتانين حقدا فإنها لا تصيب سواهم، اما بقية اليمنيين فإن سفينة المحبة والإيثار والتضحية ستساعدهم على النجاة. واذا فاضت أرواح الأتانين بالشر واللؤم فإنه سيرتد حتما الى نحورهم، أما بقية اليمنيين فإن سفينة التسامح ستبحر بهم بعيداً عن الانتقام. وعندما يطهر الطوفان الأرض اليمنية من رجس هؤلاء وأنانيتهم فإن سفينة النجاة ستهبط بهم بسلام. فيبدؤون الحياة من جديد. لذلك فإن الله سيورثهم أرضه لأنهم صالحون لعمارتها والحفاظ عليها. أما الأنانيون فلا نجاة لهم. ان عليهم ان يدركوا ان استعجالهم للطوفان هو في الحقيقة استعجال لهلاكهم و ليس لهلاك اليمن.

يجب على اليمنيين في الوقت الحاضر الضغط على النخب السياسية او على من يستجيب منها ليس فقط للتفكير ببناء السفينة بل البدء الفوري ببنائها. ان بناء سفينة النجاة يتطلب عدم التعويل على الحوار العبثي. لأنه سيكرس البقاء في النفق المظلم. والدليل على ذلك ان المطالب بعد الاتفاق على الحوار قد زادت وكذلك زاد التمادي في صب الزيت على الفتن القائمة ومحاولة إشعال فتن جديدة. اذا ما استمر هذا الامر على ما هو عليه فإن الطوفان لا سمح الله قادم لا محالة.

ان ذلك يتطلب الإسراع بتقديم التضحيات الضرورية لكسب ثقة الشعب كي تنحصر ثقافة الأنانية. فالكلام والوعود لم تعد مقبولة مهما كانت جميلة. أي انه لا بد من التخلي عن الفساد والتسيب والبدء في الإصلاح والبناء على ارض الواقع. ولكي يتحقق ذلك فإنه لا بد من التخلي عن كل من لا يتخلى عن ممارسة الفساد وعن كل من يرفض التحول من الإهمال الى الانجاز كائنا من كان. ان ذلك يتطلب عدم السماح باستمرار نقص المكيال والميزان. ان ذلك يعني ان يكون واضحا للجميع قولا وعملا ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها، فلا تزر وزارة وزرى أخرى. فالذين يعملون الصالحات لهم اجر كبير. والذين يصرون على ممارسة الفساد فلا رحمة لهم. فقط عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا. تلك هي سفينة نجاة اليمن فهل من يصنعها لينقذ اليمن من الطوفان؟