العلاقة بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 14 سنة و 3 أسابيع و يوم واحد
الخميس 04 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 07:35 م

تتلخص فكرة هذه الحوارية في تعقيب أحد الأصدقاء ويرمز له باسم ناصر على كاتب هذه السطور بعد ذات حوار صحافي تناول جملة من قضايا الفكر والتربية و بعض إشكالات العمل الإسلامي، فكانت هذه المحاورة للصديق ناصر في سلسلة حلقات، متمركزة حول العلمانية وما إذا كانت مخرجاً لمجتمعاتنا أم كارثة جديدة؟!

عزيزي ناصر:

لعلك مطّلَِع على بعض الأطاريح أو الدراسات أو التقارير أو المقالات التي تناولت علاقة الدّين بالدولة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى تأثير العامل الديني على صانع القرار السياسي هناك؛ إلا أني لا أدري إن كنت قد اطّلعت على أطروحة الدكتوراة التي تقدّم بها الدكتور يوسف الحسن عن البُعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني؛ وفي ظني أنها تعدّ من أوفى تلك الدراسات وأعمقها، حيث خلصت – وأستميحك لقراءة بعض نتائج الدراسة- إلى أن الاتجاه الصهيوني مترسّخ في المسيحية الأصولية بالولايات المتحدة، وأن نظرة هذه الحركة تقوم على قانون لاهوتي توراتي يتلخّص في ضرورة إيمان كل مسحي مخلص بالعودة الثانية للمسيح( Second Coming of Christ ) وأن قيام دولة (إسرائيل) واستيلاءها على مدينة القدس إشارة إلهية تعني أن العودة الثانية للمسيح على وشك الحدوث. وبناء على ذلك فإن مسألة دعم إسرائيل مادياً ومعنوياً ليس أمراً اختياريا، أو إنسانياً، بل قضاء إلهي لأنه يسرّع في قدوم المسيح، ومن ثم فإن من يقف ضدّ إسرائيل فإنما يقف ضدّ إرادة الله! ( يوسف الحسن، البُعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، 1990م، الطبعة الأولى، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 186).

وفيما يتعلّق بدستورية فصل الدّين عن الدولة في الولايات المتحدة تخلص الدراسة إلى أنّه " وعلى الرغم من دستورية فصل الدّين عن الدولة؛ فإن الجدار بينهما كان واهياً، وإن الفصل كان مقصوداً به حماية الدّين من تدخّل الدولة في شؤونه، وإن تنفيذه عملياً ظل عرضة للتغيّر تبعاً لموازين القوّة داخل المجتمع، ولأطماع الدولة والكنيسة، وقدرة أحدهما على أن تسود على الأخرى، فتتجاوز حدود المستوى النظري لعملية الفصل.

وقد تبيّن أن الكنيسة الأمريكية نظام شمولي في أغراضه وأنشطته وعلاقاته، وتمزج الدين بالتعليم وبالخدمات الاجتماعية، وبالطب وبالسياسة وبالفنّ وبالحرب والسلم...إلخ ولا يفلت من شباكها شيء يتعلّق بالحياة اليومية للإنسان. وقد استنتجت الدراسة أن البروتستانتية هي التي تمثّل الأكثرية الغالبة للشعب الأمريكي، وتكمن فيها مصادر النفوذ السياسي، ليس بسبب كثرة عددها فحسب، بل لكونها طبقة الكنيسة العليا، أو ما يسمّى كنيسة الانكلوسكسون البيض التي تختصر عادة بكلمة "واسب" ( WASP ) . وقد استخدمت الكنيسة الوسائل والأساليب نفسها التي تستخدمها المنظمات والمؤسسات المدنية، من حيث التأثير في السياسة العامة للمجتمع، وخاصة ممارسة أساليب الضغط المنظّم المسمّى اللوبي، ووسائل استطلاع الرأي العام، وأجهزة الإعلام الحديثة، وأدوات الاتصال الجماهيري. كما ملكت وأدارت جامعات ومؤسسات تربوية وتعليمية وإعلامية واستثمارية، مما وفّر لها إمكانات مالية ضخمة، وملكت بذلك عقول الملايين من الأمريكيين وجيوبهم، وقد وجدت الدراسة أن العقدين الأخيرين ( يقصد السبعينات والثمانينات) شهدا توسّعاً في التعليم الديني في الولايات المتحدة، الأمريكية، سواء من حيث عدد المؤسسات التعليمية أو عدد التلاميذ، فضلاً عن انتخاب رئيسين للجمهورية يؤمنان بأهمية الدّين وبدوره في المجتمع، فالرئيس السابق جيمي كارتر أعلن عن عقيدته وإيمانه بشعار ( الولادة الثانية) كمسيحي أصولي، وجسّد ما في هذه العقيدة من اتجاهات صهيونية نظرياً وعملياً. كما عبّر عن ذلك ومارسه الرئيس رونالد ريغان، واعتبر أن للدّين دوراً أساسياً في الحياة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية. وفي النتيجة فإن حركة المسيحية الصهيونية التي هي في غالبيتها بروتستانتية، هي أهم ظاهرة سياسية في العقدين الأخيرين من هذا القرن" ( المرجع السابق، ص 188-189). 

 وتأمّل في زمن هذه الدراسة فإنها كانت في التسعينات من القرن الميلادي المنصرم، أي قبل عقدين من الآن، وقارن ذلك بالسياسات التي جاءت بعد ريجان، ناهيك عن عهد بوش (الابن)، وما جرى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مطلع الألفية الثالثة، حيث ما برح بوش (الابن) يكرّر مقولته بأن الرب أوحى إليه أن يتخذ قراره المصيري أو الكوني هنا أو هناك، ولذلك ارتكب كثيراً من الحماقات المدمّرة، في سياسات إدارته الخارجية، ومنها قرارا الحرب في أفغانستان والعراق، وبوش (الابن) هو أول من أعلن -من بين رؤساء الولايات المتحدة- عنوان الحرب الصليبية ( Crusade War ) عند إعلانه الحرب على أفغانستان في 2001م، وقد ظن البعض ذلك منه زلّة لسان، بعد أن عاد فاعتذر، نظراً للتداعيات المدويّة لمقولته، إلا أن التحليل النفسي (السيكولوجي) لشخصيته في ضوء مواقفه الأخرى وانتمائه الفكري والوجداني المعروف إلى اليمين المسيحي ( Christian Right Wing )، أو ما يُعرف بـالمسيحية الصهيونية ( Christian Zionist ) يقود إلى نتيجة فحواها أن الرجل يعني ما يقول، وليست زلّة لسان، بل تعبير عن ذهنيته ونفسيته واتجاهاته تجاه الآخر (المسلم). ومن المعلوم أن المحافظين الجّدد ( The Neo Conservatives ) ذوي المنزع الاحتلالي للعالم باسم نشر القيم الأمريكية في العالم يمثلون الأغلبية في عهد إدارته، وقد تأكّد ذلك أكثر مع تزايد نفوذهم داخل البيت الأبيض وفي قرارات إدارته، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بذريعة أن غياب الديمقراطية عن جزء من العالم سيؤدي إلى تهديد بقيّة العالم، ومنه العالم الغربي، والولايات المتحدة بوجه أخص، وإذا لم يكن من سبيل سوى القوّة لفرض ذلك، فلِمِ لا؟ (راجع: عبد الناصر المودع، مرجع سابق، ص 125-126). وسنتابع في الحلقة القادمة- بإذن الله – مناقشة هذه المسألة بدلائل أخرى.

وفي سياق مناقشة العلاقة بين الدين والدولة في الولايات المتحدة قامت قناة الجزيرة مؤخراً وتحديداً في (17/8/2010م) عبر برنامجها الأسبوعي (من واشنطن) في إطار موضوع (دعم الكنائس الإنجيلية الأميركية للسياسات الإسرائيلية) الذي يقدّمه الإعلامي عبد الرحيم فقرا باستضافة (بورتر سبيكمان) المخرج والمنفذ للفيلم السينمائي With God on Our Side أو "الله معنا" واستهل مقدّم البرنامج حواره بوضع التساؤل التالي:" ماذا يحدث عندما يتمعن إنجيلي أميركي في مسلماته بشأن العلاقة بين المنظمات الإنجيلية الأميركية وإسرائيل؟" وقبل أن يبدأ الحوار مع المخرج استعرض البرنامج بعضاً من المشاركات المسجلة في الفيلم على النحو التالي: 

[مشاهد من فيلم الله معنا]

جون هاغي: إن خمسين مليوناً من البروتستانت الإنجيليين وخمسة ملايين من اليهود في أميركا الشمالية متشابهون إلى حد بعيد.

مشارك: إن الارتباط بين اليهود وأرض وإسرائيل هو حجر الزاوية للمسيحية الصهيونية.

القس جورج موريسون: لا تستطيع أن تفصل الأرض عن الشعب، عندما وعد الله إبراهيم وإسحق ويعقوب وكافة اليهود فإن الوعد تضمن قطعة من الأرض تسمى إسرائيل، إنها في الواقع البلد الوحيد في العالم الذي وضع الله حدوده ومعالمه. وأعطى تلك الأرض، ولو كنت لأنظر بدقة في الكتاب المقدس وحدود الأرض فإنني أرى أن المعالم تذهب إلى أبعد شمالا أكثر مما هي عليه الآن حتى تصل إلى دمشق وجنوبا إلى نهر مصر وفوق البحر الأبيض المتوسط، وبعد ذلك بالطبع عبر الجانب الشرقي من نهر الأردن الذي يضم الأردن.

مسيحيي فلسطيني: لقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن هناك خطأ ما في لاهوت الإنجيليين، إن لاهوتهم أدى إلى أن يرفضوا وأن يتعرضوا إلى أخ لا يناسب لاهوتهم وهذه هي خطيئة.

جون هاغي: نحن ندعو وزارة الخارجية الأميركية والرئيس جورج بوش إلى عدم الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات من شأنها أن تؤدي إلى تدميرها" .

ثم بدأ عبد الرحيم فقرا بتقديم أسئلته لـ( سبيكمان) على النحو التالي، وإليك الجانب الأهم منها بنصها لأهميتها في هذا السياق:

عبد الرحيم فقرا: يسعدني أن أرحب في الأستوديو بالمخرج والمنتج التنفيذي لفيلم With God on Our Side الله معنا، بورتر سبيكمان، مرحبا بك. أريد أن تحدثنا أولا عن مصدر هذا الفيلم، من أين جاءت فكرة هذا الفيلم؟

بورتر سبيكمان: الفكرة هي في الأساس رحلتي الشخصية وهي رحلة رأيتها تتكرر لدى عدد كبير من الإنجيليين، أنا نشأت في عائلة مسيحية في الولايات المتحدة ولقنت نظرة معينة تجاه الشرق الأوسط وإسرائيل وكيف أن الإنجيل ونظرة عقائدية معينة يقع تسخيرها لدعم تلك النظرة وذلك كان يشمل كل شيء من حيث كيف يجب علينا أن ندعم الشعب اليهودي وما هي النظرة السياسية التي يتعين علينا أن نكرسها، ولكن لا نسمع وجهة نظر مختلفة أبدا. ثم ذهبت مع زوجتي لقضاء بعض الوقت في الضفة الغربية في منطقة القدس فتعرفت على فلسطينيين ورأيت الأوضاع بأم عيني، وسرعان ما تساءلت لماذا لم يحدثني أحد عن هذا من قبل، ثم ترى بعض ما يجري على الأرض ويصعب عليك موافقة ذلك مع ما تعلمته من دروس المسيح، فهذا الفيلم يستكشف بعض تلك التساؤلات التي تواجه بعض الناس عندما يلتقون بوجهة النظر الأخرى.

عبد الرحيم فقرا: كيف غير هذا الاكتشاف السياسي كيف غير شخصيتك وكيف غير المنظور العقائدي للعالم حولك؟

بورتر سبيكمان: لقد أصبحت الأمور أكثر عملية، فأنت تنظر إلى الأمور من منطلق أوسع فبدل استخدام وجهة النظر العقائدية عبر ما يقوله الإنجيل لدعم جهة معينة أي اليهود في هذه الحالة وكل ما يفعلونه ساعدني على رؤية الناس في الشرق الأوسط وبالأخص الفلسطينيين بأكثر قدر من الرحمة والرأفة ولفهم بعض المعاناة والضيق الذي يعانونه وهذا يرجع إلى إيماني بتعاليم المسيح الذي علمنا الرحمة بالأرملة واليتيم والمظلوم يصبح من الصعب فهم بعض الأشياء التي تحصل فما نحاول قوله هو أنك لا يمكنك تقديم فريق من الناس على فريق آخر بل إذا كنت تزعم أنك مسيحي عليك أن تتعاطى مع المنطقة وشعوبها بشكل عادل ومنصف للجميع.

عبد الرحيم فقرا: هل كانت هناك أية أصداء معينة لهذا التحول في تفكيرك السياسي والعقائدي في الأوساط الكنسية أو الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة خاصة فيما يتعلق بمنظورها لإسرائيل؟

بورتر سبيكمان: لقد كان الجمهور المستهدف هم أناساً مثلي أنا وكريستوفر الذي يظهر في الفيلم وآخرون ممن كانت لهم تجربة السفر إلى هناك ورؤية الأمور كما هي، أغلبية المسيحيين الإنجيليين ينشؤون على دعم إسرائيل استنادا على ما يقوله الإنجيل ولكن عندما يرون وجهات النظر المختلفة يتوقفون فجأة ويطرحون على أنفسهم وجوب تغيير نظرتهم، وكلهم يطرحون نفس السؤال، لماذا أخفي عني كل هذا؟ هناك أيضا ردة الفعل الأخرى من أولئك الذين ينحازون إلى إسرائيل بقوة وهم غير قادرين على استيعاب أي نظرة أخرى يعتبرون هذا زندقة ويقولون لا يمكنك طرح هذه الأسئلة وما يترتب على ذلك من تبعات سلبية للفيلم، ولكن بشكل عام الجمهور الذي استهدفناه يستوعب الرسالة المضمنة في الفيلم.

عبد الرحيم فقرا: الآن بالنسبة لنفوذ الكنائس الإنجيلية هنا في الولايات المتحدة في موقع ما من الفيلم وردت إشارة إلى إيباك وفحوى تلك الإشارة إن أمكن أن ألخصها هو أنه إذا كان الناس يعتقدون أن تأثير إسرائيل في المجتمع الأميركي يتم عبر إيباك لكان ذلك أهون، هناك ما هو أدهى وأقوى من ذلك وهو تأثير الكنائس الإنجيلية في النظام السياسي الأميركي، حدثنا عن هذا الجانب؟

بورتر سبيكمان: هذا الأمر مرتبط بالناخبين في الولايات المتحدة فهم في معظمهم مسيحيون أو يعتبرون أنفسهم مسيحيين، عندما يكون لك مرشح سواء للكونغرس أو للرئاسة فإن الاختبار الحيوي الأول هو موقفك من إسرائيل، إيباك لها أجندة سياسية لدعم إسرائيل وهذا أمر مشروع، هناك مجموعات ضغط عديدة في الولايات المتحدة ولكن بالنسبة للمسيحيين هذا يتعدى الموقف السياسي ليلامس العقيدة وبالتالي السؤال أصلا غير مقبول، أنا أعرف العديد من المسيحيين الذين يحبون مرشحا معينا على أسس سياسية ولكن عندما يساورهم أي شك أن المرشح لا يكون داعما لإسرائيل بالحد المطلوب فهم يحجمون عن دعم ذلك المرشح، فالناخب الأميركي الذي هو داعم لإسرائيل له تأثير دراماتيكي على المشهد السياسي.

عبد الرحيم فقرا: إنما قوة الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة ما مصدر هذه القوة هل هو مصدر عددي من حيث أتباع عدد هذه الكنائس؟ هل هو من حيث الموارد المادية المتاحة لهذه الكنائس، كيف يتم لها كل هذا التأثير على المجريات السياسية في الولايات المتحدة؟

بورتر سبيكمان: أعتقد أن كل هذه النقاط تتضافر فهي الأعداد والموارد وهي أصوات الناخبين في نهاية الأمر، كما قلت الكثير من المسيحيين لن يصوتوا لمرشح رئاسي أو لمجلس الشيوخ أو لأي وظيفة منتخبة طالما لم يشعروا أنهم يدعمون إسرائيل دون تردد. وبخصوص الموارد، الكنائس تجمع ملايين الدولارات كل سنة لدعم النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة وعندما كنا بصدد إنتاج هذا الفيلم زرنا كنيسة القس جون هاغي "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل" في تلك الليلة فقط سلموا ثماني ملايين دولار لعمد وممثلين عن مستوطنات مختلفة ولجمع تلك الأموال هم يتحدثون عن بناء حدائق للأطفال ودور يتامى ومساعدة الفقراء بالإضافة إلى ما يشبه الوعيد الإنجيلي الذي مفاده أن من واجبك كإنجيلي مساعدة الشعب اليهودي بالرجوع إلى الآية 12 من سفر التكوين والوعد الإبراهيمي، وبالتالي هناك وعيد عقائدي من جهة ووعد المباركة وفي غياب خيار آخر يصبح هذا موردا هائلا ا.هـ.

أوباما والإرهاب الإنجيلي:

على أنه تأكّد لي شخصياً من خلال زيارتي -مع بعض الزملاء- مؤخراً ( في شهر يوليو 2010م)، للولايات المتحدة الأمريكية في إطار برنامج الحوار الديني( Inter Faith Dialog  ) الذي تنظمه وزارة الخارجية الأمريكية سنويا؛ً أن الحديث المركّز الذي تلقيّناه في أكثر من مؤسسة ومركز أبحاث ونحوهما عن نظرية الفصل بين الدين والدولة في الولايات المتحدة؛ أظهر لنا مدى التناقض بين ذاك التنظير وبين ما كنا نشاهده من مظاهر الدين المنتشرة في الشوارع والجامعات والمؤسسات الأمريكية الرسمية المختلفة، ولا سيما ما يتصل منها بالتماثيل الخاصة ببعض رجال الديِّن، أو بأسماء بعض الشوارع ذات الطابع الديني. ولعل من أبرز ما لفت نظر الوفد الزائر ما شاهده في الكنيسة الوطنية الكبرى بالعاصمة واشنطن (وهي الثانية على مستوى الولايات المتحدة، والسادسة على مستوى العالم، وقد استغرق بناؤها 83 سنة، أي من 1907-1983م) من مظاهر التماثيل اللافتة ولا سيما تمثال ضخم على بوابة الدخول للرئيس الأسبق إبراهام لنكن، مع نصّ رسالته التي تركها لأصدقائه وأنصاره، حين ترك ولايته (الينوى) مغادراً إلى البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، لتولّي مقاليد الحكم، وتمثال آخر لايقل ضخامة عن سابقه وغير بعيد عنه للرئيس الأمريكي الأسبق جورج واشنطن، وفي المقدّمة تمثال ثالث تحته (ضريح) بارز يرمز إلى أحد أبرز الطيارين المقاتلين الذين دافعوا عن الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، والسؤال الذي يفرض نفسه ما علاقة الكنيسة بذلك كلّه، إذا كان حقّاً ثمة فصل كامل بين الديني والسياسي، مع أنّها كلها مظاهر سياسية بامتياز؟ وحين وضعنا هذا السؤال على من يعنيهم الشأن في الكنيسة لم نجد ما يقنع!. ويبقى ما هو أبرز من ذلك وهو ما حدثتني وزملائي دليلتنا في الكنيسة السيدة الديبلوماسية (آنا كوكي) التي عملت لمدة ثلاثين عاماً – كما أخبرتنا- مع الخارجية الأمريكية منها بضع سنوات في تل أبيب بفلسطين المحتلة( لاحظ عدم الشعور بالحرج بين مهمتها السياسية السابقة وعملها الديني (المتواضع) الحالي) ومع أن معلومتها التي ذكرتها لنا وأكّد عليها رجال الدين الذين التقيناهم بعد ذلك معروفة نقلتها وسائل الإعلام الأمريكية وسواها في ذلك الحين؛ إلا أن دلالتها الآن غدت أمامنا بعيدة تستأهل التوقّف والمراجعة، بعد أن صُخّت آذاننا بالمباهاة في الفصل الكامل بين السياسة والدين، حيث أكّدت أن الرئيس الحالي باراك أوباما حرص منذ اليوم الثاني لإعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2008م، أن يتجه إلى مقرّ الكنيسة الوطنية، بحيث لايبادر إلى تنفيذ أي مهمة له داخل البيت الأبيض أو خارجه، على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية، حتى يُمنح (صكّ) المشروعية عبر مباركة الكنيسة الوطنية، وكأنّه بذلك يقدّم أوراق اعتماد عهده وسياساته من قبل الكنيسة وسلطة رجال الدّين، ولعلّه بذلك يؤكّد أكثر براءته مما كان – ولا يزال- ينبزه به خصومه الجمهوريون-خاصة- منّ أنّه مسلم أو ينتمي إلى سلالة مسلمة، ربما تجعله قريباً إلى الأقلية المسلمة، أو متعاطفاً مع قضايا العالم الإسلامي، رغم تبرؤه المتتابع لذلك، ووضع نافذة على موقعه أثناء الانتخابات الرئاسية تبدّد (الشبهات) حول مسألة إسلامه، وأن لا حقيقة لذلك، بل هو كيد الخصوم! وهكذا فالعلمانية التي يدّعون أنها لا تنظر إلى مسألة الدّين باتت واحدة من أكبر الاتهامات التي مورست ضدّ أوباما، - ولا تزال في تصاعد- ولولا نفيه المتكرّر وممارساته العملية، وبالأخص إعلانه أن مسألة العلاقة الوثيقة مع الكيان الصهيوني، ووقوفه ضدّ حماس وحزب الله، وجملة القضايا العادلة لأمتنا، مسألة ثابتة في السياسة الأمريكية، وهو ليس استثناء في ذلك؛ لأثّرت عليه تهمة ( إسلامه) سلباً في نتائج الانتخابات الرئاسية، ولكن جريرة أصوله البيئية الإسلامية تأتي عليه بالويلات كلما ظهرت قضية للمسلمين فيها صلة، فيسلّط عليه سيف (الإرهاب الإنجيلي) أو العلماني الاستئصالي، فيعود متراجعاً، كي لا تتأكّد تهمة تعاطفه مع المسلمين، ولعل آخرها موقفه الذي كان قد نظر إليه البعض بإعجاب من بناء مركز (قرطبة) الإسلامي قرب موقع البرجين في (نيويورك)، لكنه سرعان ما أعلن تراجعه عن موقفه على الخلفية ذاتها. وهكذا حتى إدانة أوباما للقس (المعتوه) تيري جونز الذي كان قد أعلن اعتزامه حرق المصحف الشريف في ولاية (فلوريدا) يوم الحادي عشر من سبتمبر 2010م، وأوباما في موقفه هذا ليس حالة خاصة بل يكاد يمثِّل إجماعاً من جمهور رجالات الدين المسيحي واليهودي، كما الساسة والعسكريون وسواهم من صنّاع القرار في أمريكا، لكن موقف أوباما استغل كذلك للتذكير بأنّه إنما ينطلق في موقفه من اعتناقه (الخفي) للإسلام!! ولا حظ أن جانباً كبيراً من مواقف أوباما تتلك تتعلق بالسياسة الداخلية للولايات المتحدة، أمّا خارجها فم يعد ثمة – في اعتقادي – ما يستأهل الجدل حول سياسة إدارة أوباما، إذ لا تختلف جوهرياً عن سابقاتها- إن لم تكن أسوأ- في بعض المواقف، ولا سيما بعد مرور أكثر من عام على انكشاف زيف خطابه (الخادع) في جامعة القاهرة، وهو ما سجّل لطمة جديدة للمخدوعين وما أكثرهم، وفي مقدّمتهم كثير من أهل الدّين والسياسة على حدّ سواء!!

 بتعبير آخر أكثر مباشرة : هل نتوقّع في مجتمع يفاخر بالعلمانية أن يأتي يوم يصبح فيه رئيسه مسلماً مادامت كل هذه الحرب قد قامت على أوباما، رغم أن ليس بينه وبين الإسلام نسب إلا انتماء بيئي قديم لعائلته، لطالما أعلن براءته منه!! وهكذا فالحديث عن حياد العلمانية في الولايات المتحدة تجاه الدّين أضحى مجرد خرافة، فضحتها المواقف العملية للعلمانيين بدءاً من بلد المنشأ وانتهاء ببلدان الاستدراج المعلّب في مجتمعاتنا الإسلامية!

الورقة الدينية:

وبعد ذلك كلّه لا مناص من الإشارة إلى حقيقة عامة وهي أن لاعلاقة لذلك بالدين المسيحي في أغلبيته في العالم، ولا سيما في الشرق، فينبغي أن لا يغيب عنّا في حمأة هذا الصراع أن عناوين كالإنجيليين، أو الأصوليين المسيحيين، أو اليمين المسيحي، أو الصهيونية المسيحية، لا تختلف من حيث المضمون عن الحركة الصهيونية ( Zionism Movement )، ومن المعلوم أن هذه الأخيرة حركة علمانية لاعلاقة لها بالدين اليهودي، بدليل أن أغلب مؤسسيها الذين اجتمعوا في مدينة بال بسويسرا عام 1897م كانوا غير متدينين أو ملحدين من الأساس، لكنها وجدت في الورقة الدينية أفضل السبل لتحقيق مشروعها في الاحتلال والعدوان، وهذه ظاهرة عامة لاتستثني ديناً سماوياً أو غير سماوي، حيث يتم (تسييس) الدّين أحياناً لأغراض يعلم كل باحث جاد أن الدين الحق بريء من الظلم والقهر والعدوان وانتهاك حرمات الآخرين و سحق كرامتهم باسم السماء، !! .

*أستاذ أصول التربية وفلسفتها بجامعة صنعاء