صدام غزا اليمن.. لا الكويت
بقلم/ مأمون فندي
نشر منذ: 14 سنة و 10 أشهر
الإثنين 25 يناير-كانون الثاني 2010 06:47 م

صدام حسين لم يغزُ الكويت، بل غزا اليمن، وتلك مقولة أساسية إن لم يتدبرها المؤتمرون في لندن فإن فرصتهم في الإنقاذ اليوم ستكون جد محدودة. في عام 1990 اضطرت العمالة اليمنية الموجودة في الخليج أن تعود إلى اليمن الخليجية، عاد عشرات الآلاف إلى بلادهم وفقدت اليمن مصدرا أساسيا من مصادر دعم الاقتصاد الوطني، وضُرب اقتصاد اليمن في مقتل، ومن يومها واليمن في حروب بين الشمال والجنوب والشمال والشمال، بين القبيلة والدولة، بين الأهل والعشيرة، حروب استنزافية ممتدة نخرت في واحدة من الدول الأساسية الداعمة للاستقرار في منطقة الخليج.

وبالطبع لم يغزُ صدام اليمن وحدها مما جعلها لا تفيق ولا تتعافى من تلك الضربة، بل غزا السودان، والذي زادت تعقيدات حروبه وامتدت من صراع شمال وجنوب إلى ما يشبه حالة الحروب الأهلية، فدخلت دارفور على خط تمزيق السودان. الجزائر أيضا غزاها صدام. وبكل أسف ولسوء الحظ، أن البشر يدفعون فاتورة خيارات حكوماتهم السيئة، ولا يجب، ورغم حرصنا على اليمن ومحبتنا لأهله، أن ننسى أن خيار حكومة اليمن ومعها حكومتا السودان والجزائر، كلها حكومات قررت الوقوف في صف صدام حسين، وها هي تدفع ثمن لعنة صدام. الكويت تعافت بعد الغزو، لكن الدول التي أصابتها لعنة صدام لم تتعاف، وها هي تدفع الثمن وتدمى من أمامنا. أرجو ألا تستخدم مقولة "صدام غزا اليمن" ضد اليمنيين، لابد وأن نستخدم العبارة لصالحهم، بمعنى أننا ندق جرس الإنذار من أجل مساعدة عاجلة لليمن، وننبه أيضا حكومة اليمن، والحكومات العربية الأخرى إلى ثمن خياراتهم السياسية الخاطئة، الذي لا يُدفع أحيانا في ذات اللحظة، ولكن الحكومات تدفع ثمنا مؤجلا أو ممتدا عندما ترتكب حماقات من نوع تأييد احتلال بلد لبلد آخر. أهل اليمن اليوم هم أحوج الناس إلى دعم عربي وخليجي بالذات حتى لا ينحدر اليمن نحو مزيد من الفوضى، وحتى لا يصبح اليمن هو بيشاور الخليج، تنمو فيه فيروسات الإرهاب التي تنتقل عدواها بسرعة بين الدول، وندفع فاتورتها جميعا. الفكرة هي أنه لا بد أن يتنبه المؤتمرون في لندن للأسباب الحقيقية التي تسهم في تعقيد المشهد السياسي في اليمن، فهزة اليمن ليست بسبب الحوثيين، وليست بسبب "القاعدة" كما يدعي أهل المسكنات والحلول السياسية السريعة. مشكلة اليمن أعمق وأكثر تجذرا، وهي مشكلة فقر وجهل في المقام الأول. ويجب ألا ينتهي المؤتمر بمجموعة توصيات وتبرعات على غرار تبرعات العالم لغزة والضفة والتي لم يصل إلى الفلسطينيين منها إلا النزر اليسير. على المؤتمرين أن يكونوا جادين وعلى قدر المسؤولية الملقاة على أعناقهم، ففي استقرار اليمن استقرار للخليج، وفي خلخلة الوضع في اليمن عدم استقرار في منطقة هي شريان الحياة بالنسبة للاقتصاد العالمي المعتمد بالأساس على مصادر الطاقة القادمة من الخليج.

هناك مشكلة فقر في اليمن، إن لم تعالج فلنعد على أصابع يدنا الواحدة كم سنة باقية قبل أن ينحدر اليمن إلى عداد الدول الفاشلة. عندما ذهبت إلى اليمن في أعقاب الحرب الأهلية، وحرب الشمال والجنوب، وكان ذلك عام 1995، لفتت نظري مشاهد عديدة، كانت توحي بأن هذا البلد في طريقه إلى حروب كثيرة، إن لم تحدث له تنمية عاجلة. كان واضحا لي ولمن معي أن حرب الشمال والجنوب هي مجرد عَرَض لمرض، وهذا المرض العضال اسمه الفقر والجهل، وإن لم تتم معالجة جذور هذا المرض، فستأتي بعد هذه الحرب حروب، وستنزلق اليمن تدريجيا إلى عالم الدول الفاشلة. أذكر يومها أن أمين عام "حزب المؤتمر" الحاكم حكى قصة رجال من القبائل التي استحوذت على بعض دبابات الجيش في أيام الحرب، وفي مفاوضاتهم مع الحكومة كانت مطالبهم من أجل استعادة الدبابات هي أن تمنحهم الحكومة سيارات نقل بدلا من الدبابات، وتمنح شيخ القبيلة سيارة مرسيدس، ولم يكن لدى الحكومة سيارات متوفرة. النقطة الأساسية هي أن رجال القبائل لا يريدون الدبابات من أجل الحرب، هم يريدون استبدالها بسيارات تساعدهم على الحياة القاسية في جبال اليمن. الفقر هو أم المشاكل في اليمن، والفقر، لا الحوثيون ولا "القاعدة"، هو الذي سيؤدى إلى فشل الدولة في اليمن، ولو فشلت الدولة في اليمن، ستكون تبعات ذلك وخيمة على المملكة العربية السعودية خصوصا، تلك الدولة المحورية التي ما زالت واقفة في عالم الدول العربية المهتزة، ستكون تبعات ذلك كبيرة أيضا على دول الخليج الأخرى، ففي فشل الدولة في اليمن، حالة من عدم الاستقرار قد تكون معدية للخليج العربي برمته. إذن مشكلة اليمن أعمق بكثير من عبد الملك الحوثي وجماعته المعروفة بالحوثيين، كذلك هي أعمق من رغبة الجنوبيين الملحة في الانفصال، وهي أيضا أعمق بكثير من ذلك الشيطان المسيطر على عقول الغرب لدرجة الهوس والمسمى بـ"القاعدة". في قلب قضية انهيار الدولة في اليمن، قضايا أولية تخص التنمية كعنصر أساسي في بناء الدولة الحديثة. هذا من ناحية.

على الجانب الآخر، أرجو ألا تتخذ الدول الكبرى من موضوع اليمن ذريعة إضافية جديدة للهروب من استحقاقات الشرق الأوسط الأساسية المتمثلة في القضية الفلسطينية، فقد سئم العالم حالة التهرب التي تتبناها الإدارات الأميركية والبريطانية المختلفة التي تتخذ من العراق أحيانا وأفغانستان أحيانا أخرى، والآن ربما اليمن، مبررا لتأخذ الحديث بعيدا عن القضية الفلسطينية. كنت في ورشة عمل منذ أيام مع مجموعة من العقول الاستراتيجية الغربية، وكنت العربي الوحيد في الجلسة، وبالتدريج وجدت نفسي حانقا على ما أسمع، ووجدتني أكرر مقولات من أنتقدهم في الإعلام العربي أحيانا، فكان سؤالي للمجتمعين يتلخص في الآتي: إما أن عقولكم بسيطة ولا تستطيع الإلمام بالمشاكل المعقدة مثل العراق وفلسطين وأفغانستان واليمن، أو أن لديكم سوء نية تجاه القضية الفلسطينية تحديدا؟ قلت لهم إن الكثيرين في الشرق الأوسط يتمنون لكم الفشل في أفغانستان وفي العراق حتى تتعلموا الدرس، لأنه ليس من المقبول تلك العجرفة الفكرية التي تحاول أن تدخل العرب في العملية ( process ) في موضوع "عملية السلام"، وتبعدوننا عن الحل، بينما تريدوننا أن نساعدكم في حل المعضلات التي تؤرقكم في أفغانستان، سنترككم "شويه تجربوا البروسس (العملية) في موضوع أفغانستان حتى تعرفوا ما نعاني منه". لقد جرب العرب الغرب ولأكثر من اثني عشر عاما منذ انطلاق عملية السلام، وهم حتى الآن في وهم "العملية"، ولم يصلوا للسلام، جربوا أنتم العملية لعشر سنوات قادمة في موضوع إيران، وأفغانستان والعراق وغيرها. قلت لهم إنني أشك في أن عقولكم محدودة ولا تستطيع الإلمام بقضايا الاستقرار الإقليمي مجتمعة، ولكن لديكم سوء نية في موضوع القضية الفلسطينية، وأنتم لا تريدون الحل. ضحكت بعد أن خرجت من ورشة العمل لأن آرائي في تلك الجلسة اقتربت كثيرا من آراء من أصنفهم في حواراتي بالعربية بالمهرطقين عندنا في العالم العربي، ولكن لعدم وجود أي صوت عربي في الجلسة كان لا بد لي أن أتبنى وجهة النظر هذه. كان الأمر بالنسبة لي تعليما، أي إنني تعلمت شيئا جديدا، فغرور المفكر الغربي أحيانا لا يطاق، وعرفت لماذا لا تطيق جماعتنا هذه الغطرسة الفكرية الجاهلة، فرغم جهل المتحدثين بمعطيات المنطقة وجهلهم بلغاتها فإنهم لا يتحرجون من إبداء آراء، ليست مدفوعة بالمعرفة ولكن بغرور القوة، وهذا أمر مخيف. ما قلته لا يعني أنني أتفق مع آراء المتطرفين منا، ولكنني بدأت أقتنع بمسألة سوء النية الغربية التي نراها في أحاديث من يسمون أنفسهم بعقول الغرب الاستراتيجية.

إن مسألة الاستقرار في اليمن مهمة جدا، ولكنها لن تعني الكثير إن لم تكن لدينا القدرة على رؤية اليمن في إطار الأمن الإقليمي الأوسع، لا تستطيع السياسة الحالية للإدارات الأميركية والأوروبية إقناع المتشائمين والمتفائلين في العالم العربي بأنها جادة. المصداقية مفقودة هنا، ولن تتغير المعادلة ما لم يثبت الغرب حسن النية تجاه القصية الفلسطينية. لا يمكن لأي استراتيجيات هذه الأيام أن تفشل في ملاحظة أن الشرق الأوسط مقسم إلى متفائلين ومتشائمين وشكاكين حول دور الغرب وقدرته على إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية. للآن لم يقدم الغرب للمنطقة أي حل يساعد المتفائلين على التغلب على وجهة نظر المتشائمين حول الدور الغربي في المنطقة وقدرته على إيجاد حلول، في فلسطين أو لبنان أو العراق. الخوف هو أن يصبح دور الولايات المتحدة ودور الغرب في المنطقة جزءا من المشكلة بدلا من أن يكون جزءا من الحل. بغض النظر، أبقى أنا واحدا من الذين يؤمنون بإعطاء فرصة أخيرة لإثبات النوايا الحسنة. مؤتمر اليمن في لندن هو هذه الفرصة، وأتمنى أن يخيب المؤتمرون ظنون المتشككين. مشكلة اليمن لم تبدأ اليوم بل بدأت بغزو صدام للكويت، وإن لم نعالج المشكلة من جذورها، سيبقى الناس في عالم نظرية المؤامرة، وعالم سوء النية.

*نقلاً عن "الشرق الأوسط" اللندنية