مقتدى الصدر و. صراع ملوك الطوائف في العراق
بقلم/ فاضل الربيعي
نشر منذ: 17 سنة و 4 أشهر
الثلاثاء 24 يوليو-تموز 2007 04:40 م

تثير مواقف "التيار الصدري" على المستويين السياسي والعسكري، كما تثير خطب وتصريحات زعيمه الشيخ مقتدى الصدر، وإلى حد ما بعض مواقفه الفقهية الدينية، الكثير من الأسئلة الحائرة في العراق.

وتتضاعف هذه الحيرة حين يجد العراقيون أنفسهم وجها لوجه مع مواقف وسياسات لا يكاد يجمعها جامع، وهي تصدر بوجه الإجمال عن قادة وأعضاء بارزين في التيار نفسه الذي يخوض صراعا مسلحا مزدوجا؛ ضد القوات الأميركية في شرق بغداد (مدينة الثورة) من جهة، وضد قوات الشرطة العراقية في جنوب ووسط العراق (البصرة والديوانية والناصرية والسماوة) من جهة أخرى؛ في حين أن هذا التيار نفسه ينغمس أكثر فأكثر في أعمال إجرامية ذات طابع طائفي صارخ؟.

يقال إن الألغاز لا تصبح ألغازا إلا حين تختلط الكلمات التي تؤلف اللغز بعضها ببعض، تماما كما تختلط فصول الملهاة بفصول المأساة، بحيث يحار نظارة المسرح: هل هم يشاهدون شيئا مثيرا للسخرية أم يشاهدون أمرا محزنا يدمي القلب؟.

ولئن كان هذا البلد ذو الحظ التعيس يعج اليوم بالألغاز السياسية والأمنية والأخلاقية مع ارتفاع وتيرة "الجثث مجهولة الهوية"، وتدهور أوضاع المدنيين بصورة مأسوية مع تصاعد أعمال التهجير في معظم المدن والقرى وبلوغها معدلات مثيرة للفزع؛ فإن تيار الصدر مع كل ساعة تمر من عمر الاحتلال الأميركي للعراق يغدو أكبر هذه الألغاز قاطبة.

ولذلك ليس ثمة من لغز محير ومشوش لعقول العراقيين مثلما هو الحال مع لغز مقتدى الصدر، حتى إن رئيس الوزراء نوري المالكي وهو حليف التيار وجد نفسه مضطرا لمهاجمة جيش المهدي ووصفه بأنه "جيش المجرمين".

وبالفعل، فإن الكثير من مواقف وتصرفات القادة السياسيين والأمنيين لتيار الصدر، لا تبدو مفهومة ولا قابلة للتفسير حتى بالنسبة للحلفاء، وهي في وجه العموم لا تكاد تتماثل أو تتشابه مع مواقف سابقة ولا أخرى لاحقة.

مصدر الحيرة يكمن في أن هذا التيار يفعل الشيء ونقيضه، فهو يصارع قوات الاحتلال وهو في الوقت نفسه "أداة" في يدها، آخر هذه المواقف المتناقضة الإعلان ثم التراجع عن تسيير مظاهرة مليونية تزحف نحو سامراء، احتجاجا على تدمير ما تبقى من منارتي ضريحي الإمامين العسكري والهادي، وذلك بعد ساعات فقط من التفجير الإجرامي الذي أثبتت التحقيقات الأولية أن منفذيه ينتمون إلى قوة المغاوير التابعة لوزارة الداخلية وليس لأي جماعة "إرهابية".

جاء الإعلان عن تسيير المظاهرة ثم التراجع عنه في ذروة "احتقان طائفي" غير مسبوق، ساهم في تأجيجه وتصعيده إصرار مقتدى الصدر نفسه على المضي قدما في حشد مليون زائر من مختلف المدن الشيعية، للزحف نحو مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها "من أهل السنة" عن 350 ألفا؟.

وبمقدر ما أثار قرار التراجع عن المسيرة "الطائفية" المليونية الارتياح والشعور بالأمل؛ فإن العراقيين الذين حبسوا أنفاسهم وهم يترقبون ساعة انطلاقها، ظلوا يتساءلون بمرارة حتى بعد الإعلان عن التراجع، عما إذا كان هذا التناقض ناجما عن التهور وضعف الخبرة و"المشاعر الطائفية"، أم أنه جزء من إستراتيجية لنشر "الفوضى" يلعب فيها التيار دورا محوريا؟.

وفي الأسبوع الماضي فقط، بلغ هذا التناقض في المواقف ذروته من جديد، حين أعلن تيار الصدر عن "اعتراضه" على بعض بنود قانون النفط والغاز، وبشكل أخص على المواد التي تتيح للشركات الأجنبية الدخول كشريك في صناعة النفط، بينما كانت المعارك في السماوة تحتدم بين جيش المهدي من جهة وقوات فيلق بدر والشرطة من جهة أخرى، وفي الآن ذاته كانت "قطعان" هذه المليشيا المجرمة تهاجم المواطنين الآمنين في قلب بغداد.. إنه شيء لا يشبه شيئا آخر كما يقال.

مصدر التناقض في كل هذا الموقف أن الحليف الوثيق للتيار، رئيس الوزراء هو من وقع مرسوم إحالة القانون على مجلس النواب، وهو من أعطى أوامره بنشر قوات الشرطة ومواجهة جيش المهدي في أحياء السماوة الناصرية والديوانية.

ومن غير شك؛ فإن انضمام الصدر إلى "جبهة" المعترضين على تمرير قانون النفط والغاز، وبصرف النظر عن أي محاولة لتفسير الموقف، سوف يساهم في التأسيس "لتحالف" برلماني عريض يضم الصدريين إلى جبهة التوافق "السنية"، وقد يضعهم بسرعة في مواجهة مكشوفة مع الائتلاف الشيعي الكردي وربما مع حليفهم المالكي.

إن أي تفسير للتناقض في سلوك التيار الصدري سياسيا واجتماعيا، يجب أن يلاحظ حقيقة أن هذا التيار رهن مصيره كليا بثلاثة محاور إستراتيجية.

الأول محور التحالف الداخلي: إذ ولد التيار وهو لا يملك خيارا للتحالف مع أي "قوة شيعية تاريخية" سواء من داخل الائتلاف الحاكم أو من خارجه، يمكن أن يساهم في تقديمه للجمهور الشيعي كقوة "سياسية"، سوى حزب الدعوة.

وفي الواقع؛ فإن الجماعات الشيعية الأخرى ولأسباب كثيرة ومعقدة تكن للصدريين مشاعر عداء وكراهية، وحتى مشاعر ازدراء واحتقار.

إن الخصومة المستفحلة بين الصدريين وآل الحكيم من جهة، وبين حزب الدعوة والمجلس الأعلى الذي يقوده الحكيم من جهة أخرى، هي التي ساهمت في توثيق حلف الصدر/المالكي.

بكلام آخر؛ فإن تيار الصدر ولد وهو محكوم بشرط الخصومة مع آل الحكيم، تماما مثلما ولد المجلس الأعلى وهو محكوم بشرط الخصومة مع حزب الدعوة. وإن التيار الصدري في هذه الحالة، ولهذا السبب وحده أو لأسباب أخرى كثيرة، لا يملك من خيار سياسي سوى "تقاسم الأدوار" مع المالكي تارة والدخول في صراع خفي ضده تارة أخرى.

ولذلك، حين يجد المالكي نفسه تحت ضغط الأميركيين وتهديدهم المستمر بإقالته مرغما على التعجيل بتوقيع قانون النفط والغاز، وإحالته إلى البرلمان قبل سبتمبر/أيلول القادم؛ فإن الخيار الوحيد المتبقي أمامه سيكون في هذه الحالة، أن يطلب من الصدريين تشكيل تكتل برلماني معارض لتمرير القانون أو على الأقل "تقبل" وجود هذا التكتل.

لهذا السبب قد يبدو سلوك الصدريين متناقضا، فهم يعارضون قانون النفط والغاز لا لحساب موقف وطني صادق وجريء، بل لحساب الحليف المحاصر بالضغوط، والذي يدخلون ضده في صراع شبه مكشوف؟.

لا يعني هذا بأي صورة من الصور، أن المالكي لا يريد أو لا يرغب في تلبية مطالب الأميركيين؛ بل يعني أنه بات على قناعة تامة بأن آخر قانون يوقعه كرئيس وزراء؛ إنما هو قانون النفط والغاز، وأن الأميركيين سوف يقومون في اليوم التالي لتمرير القانون بالتخلص منه وإرساله إلى "المتحف السياسي لرؤساء وزراء الاحتلال".

إنه يلعب آخر أوراقه من خلال "تمرير القانون في الحكومة ومحاولة مقاومته في البرلمان"، وذلك من أجل ترضية الإيرانيين الساخطين عليه، وربما تهدئة خواطر حلفائه الصدريين الهائجين، عسى أن تكون هذه الترضية كافية لإنقاذه من السقوط.

الثاني محور التحالف الإقليمي: إذ ربط التيار نفسه بشكل وثيق بتحالف إقليمي مع إيران التي تكره المالكي، ولذلك بات، بفضل الروابط مع طهران على الأقل منذ سنتين، يعتمد كليا في تمويله وتدريب عناصره على المعونة الإيرانية المباشرة وغير المباشرة.

وفي إطار هذه العلاقة وجد التيار نفسه منساقا إلى الصدام "والمماحكة" مع الأميركيين والبريطانيين، لا لحساب موقف وطني صلب وجريء، بل لحساب الحليف الإيراني الذي تحاصره هو الآخر، ضغوط الأميركيين وتهديداتهم بضربه في العمق.

وبهذا المعنى، يغدو الصدام شبه اليومي بين تيار الصدر وقوات الاحتلال الأميركي مصمماَ لأغراض وحسابات إيرانية خالصة، ومن أجل تحسين شروط التفاوض على "مستقبل العراق"، بأكثر مما هو "عمل من أعمال مقاومة الاحتلال".

الثالث محور الصراع مع المنافسين: في سياق التطورات الراهنة من المرجح أن يتجه التيار بقوة نحو التحول إلى قوة بديلة عن المجلس الأعلى.

ويبدو من معلومات متواترة، أن الإيرانيين أبلغوا قيادة المجلس، برغبتهم في "تراجعه إلى وراء" داخل المسرح السياسي العراقي، لحساب تقدم الصدريين كقوة بديلة.

وتشير معلومات أخرى إلى أن إيران في مرحلة ما بعد المالكي، سوف تستثمر في قوة الخصومة الفقهية والسياسية لآل الحكيم، للتعجيل بفك ارتباطهم بها والسماح للصدريين بلعب دور أكبر في الوسط الشيعي.

هذه المحاور الثلاثة التي يتجه التيار الصدري صوبها بسرعة، سوف تساهم في المرحلة المقبلة في تبلوره نهائيا، كقوة "جماهيرية" مسلحة تتلاعب بها السياسة الإيرانية كيفما تشاء، تماما مثلما تتلاعب بها تحالفات وحسابات وخصومات داخلية، وهو ما سيكون من شأنه تحول سلوك مقتدى الصدر السياسي إلى لغز محير غير قابل للحل.

إن التحالف مع حزب الدعوة، والخصومة المستفحلة مع آل الحكيم، والارتباط الكلي بإيران، ثم التحالف فالصراع مع رئيس الوزراء الحليف للتيار، هي عوامل وعناصر متناقضة بطبيعتها، ولأن التيار محكوم بشروطها وتفاعلاتها، فإنه سيبدو غدا –كما يبدو اليوم- لغزا محيراَ.

وكما هو واضح في ضوء تصرفات وسلوك أعضاء هذا التيار؛ فإنهم يبدون "كطائفيين" يرتكبون أعمال قتل وخطف وتهجير واسعة النطاق، وفي الآن ذاته يبدون كمقاومين للاحتلال؟.

وهذا هو بالضبط لغز التكتيك الإيراني في العراق، فالأميركيون يلحون على تصوير إيران كمصدر للسلاح والذخائر وأنها تمول "وتساعد المقاتلين والمقاومين"، بينما يجري اتهامهم "بتأجيج الفتنة الطائفية".

فهل إيران شريك في الاحتلال أم هي طرف "يدعم المقاومة" كما يزعم الأميركيون؟ أليس من المنطقي القول إن لغز الصدر ولد من رحم لغز آخر هو لغز السياسة الإيرانية في العراق؟.

وبالطبع، فمن الصعب على المرء، الجمع بين هاتين الصورتين؛ إذ كيف يكون المقاوم للاحتلال هو نفسه مرتكب الجرائم؟.

وهكذا؛ ومع دخول حكومة نوري المالكي طورا جديدا من أطوار الأزمة المستعصية، بتعليق جبهة التوافق مشاركة وزرائها الستة في أعمال الحكومة -وهو قرار يستكمل من الناحية الإجرائية خطوة إقالتها- سوف يستعد "ملوك الطوائف" في العراق الجديد لخوض جولة جديدة من الصراع.

ولنقل إنهم استعدوا فعليا وبما تبقى أمامهم من وقت، لخوض آخر المعارك حول السلطة والنفوذ وتقاسم ثروات البلاد، ولكن، من بين هؤلاء جميعا سيبدو "ملوك التيار الصدري" الأكثر تأهبا واستعدادا للدخول في حقبة جديدة من حياة التيار.

لقد أصبحوا، بفضل قوة التناقض في شبكة تحالفاتهم وارتباطاتهم، وحتى بفعل قوة خصومتهم لمنافسين آخرين وربما "حساباتهم" السياسية أيضا، ذراعا إقليمية لإيران، أو امتدادا إداريا طبيعيا لمؤسستها العسكرية.

وهم يتأهبون اليوم للعب دورهم الجديد كقوة ضاربة في صراع طائفي تختلط فيه شعارات الوطنية بتكتيكات التملق للاحتلال، تماما كما يختلط فيه الدم بالنفط. وفي هذا الاختلاط يكمن اللغز المحير لمقتدى الصدر!.

هل هو زعيم وطني شعبي معاد للاحتلال؟ أم أنه، كما يراه كثيرون، مجرد أداة إيرانية طيعة في لعبة إقليمية كبرى؟ أم أنه "مؤسسة" يتلاعب بمصيرها المستثمرون وأصحاب الأسهم الكبيرة؟.

وهل حقا ما يشاع عن "اختراق" أميركي واسع النطاق سوف يحول التيار برمته إلى عنصر واحد من عناصر ملهاة ساخرة اختلطت فصولها بمأساة مرعبة.

كاتب عراقي / عن الجزيرة نت