هل الفيدرالية هي الحل ؟
بقلم/ عبدالاله الانسي
نشر منذ: 12 سنة و أسبوع و 4 أيام
الجمعة 16 مارس - آذار 2012 02:17 م

كشف الربيع العربي بشكل إرادي أو لا إرادي عن كل التناقضات العرقية والطائفية التي يعج بها عالمنا العربي شرقا ومغربا. كل ما كان مستورا، مكبوتا، انكشف للعيان. كل المشكلات العرقية والدينية والمذهبية تنفجر في وجوهنا الآن كالقنابل الموقوتة. أقباط ومسلمون، سنة وشيعة، عرب وأكراد، الخ.. والناس أصبحت مرعوبة من اندلاع الحرب الأهلية. ما العمل؟ ما الحل؟ ما الطريق؟ يرى بعض الباحثين أنه لكي نتصدى لمشروع سايكس بيكو الجديد الهادف إلى تقسيمنا إلى دويلات مصغرة فإن أفضل حل هو الدولة الفيدرالية. ينبغي أن نتخلى تدريجيا عن وهم الدولة الواحدة الموحدة الأحادية المنسجمة التي لا تحتوي على أي تنوع أو اختلاف في أحشائها ومكوناتها. دولة مشكلة من دين واحد أو حتى مذهب واحد وعرق واحد ولون واحد: هذا مستحيل! التماثل النمطي الكامل المطلق شيء طوباوي غير موجود على وجه الأرض. وأصلا غير مستحب. معظم دول العالم تحتوي على مكونات مختلفة إما عرقيا * لغويا، وإما دينيا * مذهبيا وإما الاثنين معا. وهذا ليس شيئا سلبيا بحد ذاته وليس مشكلة مستعصية إذا ما عرفنا كيف نتصرف تجاهه ووسعنا عقولنا قليلا.. فالتنوع يقضي على النمطية والرتابة ويجعل البلد أكثر جمالا وغنى وجاذبية. والتنقل من إقليم إلى إقليم آخر مختلف يشعرك بالارتياح. التنوع نعمة لا نقمة. «اختلاف أمتي رحمة!» ولكننا لا نرى فيه إلا الجانب السلبي بسبب عقليتنا المتحجرة وكرهنا لكل تنوع أو اختلاف. ثقافتنا الاستبدادية على مدار التاريخ غير متعودة على قبول الاختلاف. ومع ذلك فإننا نكابر ونريد إقناع العالم بأننا ديمقراطيون! هل نعلم أن أعظم دول العالم هي دولة فيدرالية؟ قصدت الولايات المتحدة الأميركية. سويسرا أرقى دولة في العالم هي دولة فيدرالية أو كونفدرالية: الاتحاد الكونفدرالي السويسري الذي يجمع بين المكون الألماني والمكون الفرنسي والمكون الإيطالي… الخ. ثلاث لغات أو أربع داخل دولة واحدة لا أحد فيها يعتدي على أحد ولا يحتقره بسبب الاختلاف اللغوي أو العرقي. كل مكون له احترامه وخصوصيته. ألمانيا دولة فيدرالية مشكلة من 16 ولاية وكل ولاية تعتبر دولة بحد ذاتها فلها دستورها وبرلمانها وحكومتها. ومع ذلك تظل ألمانيا دولة موحدة ولا أحد ينظر إليها من الخارج كدولة مقسمة. السياسة الخارجية والدفاعية مشتركة. ما عدا ذلك كل واحد أدرى بشؤونه. أهل مكة أدرى بشعابها..

وبالتالي فبدلا من أن نذبح بعضنا بعضا على الهوية في ظل الدولة المركزية الصارمة، بدلا من أن نجبر بعضنا بعضا على الاتحاد الانصهاري والتوحيد القسري الذي ستقهر فيه حتما فئة معينة بقية الفئات في عقر دارها، لماذا لا نحاول أن نجد صيغة للتعايش لا تكون طلاقا انفصاليا، ولا زواجا كاثوليكيا؟ حتى فرنسا أكثر الدول مركزية ويعقوبية في العالم تخلت مؤخرا عن المركزية الصارمة وتبنت اللامركزية وأعطت الأقاليم صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها الداخلية بنفسها ولم تعد تدار كلها بكبسة زر من باريس.. لو طبق هذا النظام الفيدرالي على دول المشرق العربي لخفت المشكلات والحزازات والحساسيات ولما شعر أحد بالظلم والقهر لأنه محكوم مباشرة من قبل أشخاص بعيدين عن منطقته ولا يدركون خصوصيتها ولا يفهمون مشكلاتها الداخلية جيدا. لكيلا تتحكم الأقلية بالأكثرية طيلة عقود أو لكيلا تتحكم الأكثرية بالأقليات طيلة قرون لا أرى حلا آخر في المدى المنظور. الحل البديل عن هذا الحل الحضاري الراقي لن يكون إلا غلبة أحد مكونات البلد على بقية المكونات الأخرى وقهرها وسحقها واضطهادها. الحل البديل لن يكون إلا الحروب الأهلية، فالمجازر، فالتقسيم! هل هذا ما نريد؟ لماذا لا نوسع عقولنا قليلا ونستفيد من تجربة الأمم المتحضرة؟ لماذا نكذب على أنفسنا ونتوهم أننا شيء واحد أو لون واحد أو حساسية واحدة؟ أو بالأحرى إلى متى سنظل نكذب على أنفسنا؟ هناك مشكلات داخلية حقيقية. هناك خصوصيات وتنوعات. هناك مشكلات طائفية ومذهبية وعرقية * لغوية. وغالبا ما تجعل التعايش إشكاليا أو أمرا صعبا في نفس الحي أو حتى في نفس المدينة المترامية الأطراف. لا أحد يطيق أحدا. أنا شخصيا لم أعد أطيق نفسي! وسوف يظل الأمر كذلك حتى تكون شعوبنا بكافة فئاتها قد تعلمت واستنارت وتطورت وانخفضت عصبياتها الفئوية إلى درجة النصف على الأقل. وهذه هي مهمة التنوير العربي * الإسلامي مستقبلا.. فمن الواضح أن الفكر الموروث عن العصور الوسطى أصبح ضيقا علينا ولا يتسع صدره للجميع. وأصلا لم يتسع في أي يوم من الأيام. ولكن الانفصال عن روحنا أسهل من الانفصال عنه! هنا تكمن المعضلة المرعبة للعصبيات الطائفية والمذهبية التي يستحيل تجاوزها في المدى المنظور.. هنا يكمن الاستعصاء القاتل للأزمة الحالية. هنا تكمن أزمة الوعي الإسلامي في الصميم. العالم العربي والإسلامي كله يعيش حاليا نفس الحروب المذهبية الطاحنة التي عاشتها أوروبا قبل قرنين أو ثلاثة. وأصلا أوروبا لم تنتصر على نفسها إلا عندما تمخضت الأزمة الاستعصائية عن فكر جديد.هناك أزمات خلاقة، والأزمة التي لا تقتلني تقويني كما يقول نيتشه. كل ما نأمله هو أن تكون الأزمة العربية الحالية من هذا النوع. على هذا النحو انتصرت فلسفة التنوير على الأصولية المسيحية وأصبح تشكيل الدولة الوطنية الحديثة أمرا ممكنا. وبالتالي فالنقلة الحقيقية أو الربيع الحقيقي لن يحصل إلا عندما ينتصر الفهم المستنير المتسامح للدين على الفهم الضيق المتعصب القديم. وكذلك عندما تنتصر الفلسفة الإنسانية الحديثة على لاهوت القرون الوسطى وفتاواه التكفيرية التي تخلع «المشروعية الإلهية» على المجازر الاستئصالية. من دون ذلك لا يمكن تشكيل دولة مدنية ديمقراطية حديثة. فالفرنسيون أيضا كانوا يذبحون بعضهم بعضا على الهوية بسبب الصراع المذهبي الكاثوليكي * البروتستانتي قبل أن ينتصر التنوير الفرنسي على اللاهوت المسيحي التكفيري بفضل جهود فلاسفة كبار كفولتير وروسو وديدرو والموسوعيين.. والألمان أيضا دمروا بعضهم البعض مرتين أو ثلاث مرات بسبب نفس الصراع الجهنمي قبل أن تنتصر حركة التنوير الألماني على يد الفلاسفة من أمثال لايبنتز وكانط وفيخته وشيلنغ وهيغل الخ. وبالتالي فبرامج التعليم المدرسية والجامعية والتلفزيونية وبرامج الفضائيات وكذلك خطب يوم الجمعة في المساجد… الخ ينبغي تطويرها أو تغييرها جذريا لأنها تبث الأفكار الطائفية حتى من دون أن تدري.. ولكن هذا شيء مستحيل بشكل فوري ولا يمكن أن يحصل إلا تدريجيا وعلى مراحل. ذلك أن زحزحة الجبال أسهل من تغيير العقليات ..

تثبت الأحداث اليوم بكل تعقيداتها وتفصيلاتها، حقيقة واضحة لا غموض فيها هي أننا بحاجة إلى استقرار سياسي واجتماعي، وكل المجتمع اليمني شمالاً وجنوباً بكل فئاته يتوق إلى الاستقرار، وأن لا يمكن الوصول إلى هذا الاستقرار ، إلا بصنع وخلق القواعد المتينة لبناء المجتمع المدني الحديث في اليمن.

وأن الثورة الشعبية الشبابية كقوة مادية فاعلة في الساحة السياسية تفرض قيام توافق سياسي إستراتيجي فاعل لصنع اندماج اجتماعي جديد لكل مكونات المجتمع اليمني، بعيداً عن الفرع والأصل والحق التاريخي في السلطة.

أن اللذين يطالبون بالحق التاريخي في السلطة سواء في الجنوب أو في الشمال يجب أن يعوا جيداً ، أن التغيرات التي حدثت منذ أكثر من خمسة عقود وحتى اللحظة لا يمكن إزالتها ليعود الجنوب إلى خمسينيات القرن الماضي أو حتى عودة نظام الحزب الواحد، فذلك قد أصبح في ذمة التاريخ، كما يجب أن نعي أيضاً أن هذه الثورة قد صنعت وضعاً جديداً كل الجدة في الشمال، ولا تستطيع أية قوة مهما عظمت قدرتها على أن تعيد الوضع كما كان قبل الثورة، وفي خضم هذا التعارض في التوجهات وتعدد المشارب وتنوعها من الوحدة بالموت إلى دعوة الجنوب العربي إلى فك الارتباط يجعل تكوين الدولة المدنية أمراً ضرورياً في شكل نظام سياسي جديد يتمثل في الاتحاد الفيدرالي، الذي سيشكل ضامناً للخير المشترك ومصالح المجتمع، فحماية المصالح المشتركة للمجتمع هي القاعدة التي يقوم على أساسها النظام الفدرالي.إذن اليوم الشعب هو صاحب السلطة المطلقة، وهو وحده من سيقرر ما يرتضيه من نظام سياسي للدولة المدنية.

لذا فقيام اتحاد فيدرالي يمني قد يكون خيار وطني صائب، او حل أفضل لوضعنا اليوم.حيث ان الجنوب سيحوز على استقلال سياسي تام في إقليم الجنوب، وبذلك ستتأسس دولة الجنوب على أسس وقواعد متينة ضمن القالب الشامل للاتحاد، وبنفس الوقت بهذا المنجز سيتملك كل الجنوبيون الشعور بالاعتزاز لأن تضحياتهم العظيمة والجليلة التي قدموها لأجل وطن حديث ديمقراطي وموحد، لم تذهب هدراً.

وسيجعل الشمال على توازن ديمقراطي وتماسك اجتماعي، وسيجد في الجنوب سنداً مدنياً صادقاً، ورغم أن عملية البناء طويلة ومعقدة، إلا أن اليمن بشماله وجنوبه في إطار الدولة المدنية الفيدرالية، القائمة على مفهوم الحرية وبناء الحياة على أساس الاتفاق المجتمعي، الحر، أقول بثقة كبيرة أنها خلال عقد من الزمن ستقفز قفزة نوعية عظيمة لا تقاس بالسنوات.

مشاهدة المزيد