في ذكرى جمعة الكرامة
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 12 سنة و 8 أشهر و 7 أيام
السبت 17 مارس - آذار 2012 04:33 م

ربما كان يوماً استثنائياً من أيام اليمنيين التي هي في معظمها استثنائية عندما احتشد الشباب والكهول والشيوخ من الجنسين لأداء صلاة الجمعة ككل جمعة في ساحة التغيير في صنعا،. . . كانت صلاة الجمعة ككل الصلوات تقرباً إلى الله وتضرعاً إليه لقبول توبة التائبين واستغفار المستغفرين ورفع الظلم عن المظلومين ورد كيد الكائدين في نحورهم، والقصاص من الفاسدين وآكلي المال العام وكل من أجرم في حق الشعوب ونكل بشرفائها ومناضليها، لكنها فضلا عن ذلك كانت حشدا لأكثر من مليون ثائر وثائرة من أبناء صنعا وحدها غير الملايين الذي احتشدوا في أكثر من 16 ساحة أخرى في معظم محافظات الجمهورية، . . .كانت هذه الملايين تعبر عن رفضها لاستمرار الوضع المعوج القائم على قمع الشعب ومصادرة حريته ونهب ثرواته والتحكم في مستقبله، وكان تعبيرا عن وحدة إرادة هذه الملايين المصممة على التغيير والذهاب إلى مستقبل أقل فسادا وأقل قمعا واستبدادا وأكثر أمنا وانفتاحا على العصر الذي مضى حثيثا وتأخرنا عنه كثيرا بسبب انصراف حكامنا لتدبير شئونهم على حساب قضايا وحقوق المواطنين.

أثناء خطبة الجمعة وأداء الصلاة كانت هناك طائرة هيلوكبتر تحلق فوق منطقة المخيم وتحوم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ثم تعود إلى فوق رؤوس المصلين، بينما كان المصلون منشغلين بسماع خطيب الجمعة وهو يتحدث عن منكرات النظام وما ألحقه باليمن من أضرار على مدى ثلث قرن، . . وقد خمن البعض أن هذه الطائرة كانت تقل رئيس الجمهورية الذي أراد أن يرى بأم عينيه عدد المعتصمين ومنطقة انتشارهم، لكن الأغلبية لم تعر الموضوع اهتماما يذكر.

كنا قد فرغنا للتو من أداء الصلاة عندما ارتفعت هتافات الشباب مرددة "الشعب يريد إسقاط النظام" ، و "يا ألله يا ذا المن، أسقط طاغية اليمن" وفجأة سمعت أصوات انفجارات وارتفعت سحابة من الدخان من الجهة الجنوبية لساحة التغيير ناحية جولة القادسية التي تقع عند تقاطع الدائري الغربي وشارع الرباط، . . اتضح في ما بعد أن الحادث كان عبارة عن إحراق لعدد من إطارات السيارات، . . .معظمنا اعتبر أن الحادثة انتهت عند هذه النقطة، لكن لم تمر دقائق حتى دوت أصوات الرصاص الآتي أيضا من الجهة الجنوبية التي انطلق منها قبل قليل دخان الحرائق.

كان الجميع يتوقع حصول عدوان على الشباب المعتصمين إذ سبقته عدة اعتداءات ومحاولات إطلاق رصاص ومحاولات اقتحام الساحة بسيارات تحمل أسلحة وإطلاق نار من بعض مداخل الساحة فضلا عن اعتداءات البلاطجة على المسيرات المختلفة التي غالبا ما خلفت أعدادا من القتلى والجرحى، لكن لم يتوقع أحد أن يتم الاعتداء على النحو الذي جرى.

كان القناصة يتمركزون في بعض المنازل المجاورة لجولة القادسية والواقعة غالبا خارج السور الصغير الذي بناه الشباب عن تقاطع الدائري الغربي الرباط، وقد اتضح أن القناصة قد تجمعوا سلفا في خطة رسمت بدقة، تكون فيها لحظة إشعال الإطارات هي البداية وهي وسيلة أيضا للتغطية على الكاميرات التي قد تصور مكان القناصة وأشكالهم.

أظهر الشباب بطولة منقطعة النظير تقترب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة، . . . لقد كان الرصاص ينهال كالمطر على الشباب في حين كانوا يتقافزون لإنقاذ زملائهم الذين يسقطون أمام أعينهم، . . . كان القتلة يتلذذون وهم يرون الجثث تتساقط على الأرض، والدماء تسيل وهم يواصلون صب مطر الرصاص على الشباب.

بعض الشباب تجرأ واجتاز حاجز الدخان واقتحم العمارة التي يتمركز فيها القناصة حتى روى البعض أن الشباب وصولا إلى أماكن تخندق القناصة والقبض على بعضهم وسلبهم ما بحوزتهم من السلاح.

لم ينتقم الشباب من القتلة بل جردوهم من الأسلحة وقبضوا عليهم واقتادوهم إلى غرفة خاصة بالقرب من مستشفى الميداني على طريق تسليمهم للنيابة العامة، رغم يقينهم أن هؤلاء قتلة بلا أي شبهات.

لقد تجلى هنا بوضوح الفرق بين نوعين من القيم الأخلاقية: قيم الثورة والثوار، وقيم الطغيان والطاغية، عندما تكون الثورة في موقف أضعف من حيث العتاد والوسائل لكنها ترفض الانتقام حتى وإن أتيحت لها فرصه بينما يمتلك القتلة كل أدوات القانون والوسائل الدستورية لكنهم يضربون بها عرض الحائط ويختارون القتل وحده لأنه الأقرب والأسهل لتحقيق ومآربهم القائمة على الإرهاب والتنكيل والتصفيات الجسدية.

يومها سقط أكثر من 58 شهيد، وأكثر من 300 جريح، ومكث المنقذون حتى ما بعد الخامسة يوزعون الجرحى وجثث الشهداء على مربعات ساحة المستشفى الميداني التي لم تعدد تتسع للمصابين والشهداء وحدهم ناهيك عن مئات المتنافسين على محاولات الإسعاف، ولا بد هنا أن نسجل ذلك المستوى العالي من الإقدام الذي أبداه العديد من منتسبي بعض المستشفيات الأهلية كمستشفى العلوم والتكنولوجيا والمستشفى الأهلي والمستشفى الألماني الحديث ومستشفى الكويت ومستشفى المتوكل وغيرها من المراكز الصحية والهيئات الطبية التي لا تسعفني الذاكرة باستحضارها، في عمل لا يقل فدائية وإيثار عن نشاط الثوار المتنافسين على محاولات الإنقاذ.

علينا ونحن نستعيد ذكرى جمعة الكرامة أن نقف إجلالا وإكبارا لأرواح الشهداء الأبطال وأن نستحضر من تضحياتهم معاني الفداء والإيثار والإقدام والتمسك بالحرية والعدل والنقاء ورفض الظلم مهما كان اللباس الذي يرتدي مرتكبوه.، وعلينا أن نجعل من جمعة الكرامة درسا للعزة والكرامة وإباء الضيم والانتصار للمظلومين وضحايا الاستبداد والسلب، وإن لا نسمح للثورة أن تتحول إلى أداة لحماية اللصوص والنهابين والمحتالين والقتلة والمجرمين أينما كانوا ومهما كانوا، وأن لا نسمح بتحويل قانون الحصانة إلى سابقة تليها عدة حصانات في المستقبل لمن قد ينوي السير على طريق الطاغية والدائرين في فلكه.

برقيات:

 * لست أدري إلى أي مدى يشعر القتلة بالطمأنينة وهم يعلمون أن أرواح ودماء الضحايا ما تزال تستصرخ العدالة التي غيبها قانون الحصانة الذي انتزعه المجرمون بالإكراه من ذوي الضحايا وأولياء دمائهم لكن المؤكد أن هذا القانون لم ولا ولن يمنحهم صكا بالبراءة من ما ارتكبوه من جرائم.

* يقال والعهدة على الراوي أن أحد القتلة ما يزال محافظا لإحدى المحافظات وأن الآخر كان حتى وقت قريب مديرا للأمن في إحدى المحافظات، ناهيك عن قادة الحرس والأمن المركزي والمباحث الجنائية الذين خططوا ووجهوا بارتكاب المجزرة، ثم نالوا الحصانة على كل ما ارتكبوه.

* قال أبو الأحرار الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري

الشعبُ أعظمُ بطـشاً يومَ صحوتهِ *** من قاتليهِ، وأدهى من دواهيهِ

يغفو لكي تخدعَ الطـــغيانَ غفوتُهُ ***   وكي يُــجَنَّ جنوناً من مخازيهِ

وكي يسيرِ حثيثاً صوبَ مصرعهِ  ***  وكي يــخرَّ وشيكاً في مهاويهِ