مأرب.. مدينة بعبق الماضي
بقلم/ د. سعاد الحدابي
نشر منذ: 12 سنة و 4 أشهر و 16 يوماً
الجمعة 06 يوليو-تموز 2012 08:18 م
 
 

الطريق المتجه إلى مأرب يبدأ من بداية بني حشيش المنطقة التي تتزين بظلال أوراق العنب المنتشر بصورة لافتة على جانبي الطريق ، حركة المشاه مزدحمة جداً فالموقف يتجمع فيه كثير من المسافرين المتجهين إلى مناطق مختلفة ، كان اتجاهنا إلى مدينة مأرب ثم إلى مدينة حريب ، جميع المسافرين يتزودون بالماء وبعض العصائر وكثير منهم يتزود بشراء القات ،وقليل منهم يفضل أن يشتريه من الباعة الذين يقفون على جانبي الطريق السريع .

نتجاوز بني حُشيش ، والتي تُعد آخر محطة في صنعا، لتبدو لنا الجبال التي غرست جذورها العريضة في أرض صخرية زحفت عليها الرمال ،وتلوح جبال الفرضة بانحداراتها المروعة ، لتذكرنا أن الرحلة لن تخلو من ملتويات لا تخلو من خوف وترقُّب ، فالطريق لا يتسع لأكثر من سيارتين ، وسلسلة الجبال تحجب بعضها بعضا ،فلا تكاد السيارة تنتهي من انعطافات الجبل السابق حتى تبدأ في انعطاف جديد !

ويبدو تقزم الإنسان أمام عملقة جبلية وضخامة صخرية توحي بعظمة الخالق البديع ، وأما هذه القدرة الإلهية تبدو إرادة الإنسان متحدية صلابة الصخر وعنفوان الجبل ، فهاهو الطريق الاسفلتي الممتد بين سلسلة الصخور يؤكد ذلك ، فجبال هذه المنطقة ممتدة باتجاهين طولا وعرضاً ، مما يدل على أننا مع طريق محفوف بالخطر ، غير أن مرآى الجبال وقد حجبت في معظمها أشعة الشمس تعيد إلى الذاكرة كيف كانت هذه الأرض جنات وظلالاً حتى قال أهلها (ربنا باعد ين أسفارنا) ، وهاهي الانحدارات الجبلية ارتفاعاً وانخفاضاً تدل على أن من سكن هذه الأرض كان قادراً على تحدي عوامل الطبيعة منذ أن استحالت الجنات إلى تصحر !

وصار لزاماً على أهل هذه الأرض العيش في القمم الشاهقة ، فههي أغنامهم ترعى في مناطق لا تصل إليها قدم البشر وعلى مسافات متباعدة بعض الرعاة والراعيات من صغار السن على بعض المنعطفات وبعيداً عن حركة السيارات ،وقد وضع بعضهم قبعات الخزف للوقاية من حرارة الشمس .

وعند بداية الانحدار إلى الأسفل أخذت السيارة في الانعطافات المتعدددة ليصير الامتداد الاسفلتي أكثر انحناءً كأفعى زاحفة بين الجبال الشاهقة ، وعند الاقتراب من نهاية الالتواءات بدا الخط الأسفلتي في امتداد لا نهاية له وبدت بعض القرى على جانبي الطريق . وربما استمر السير في تلك المرتفعات الجبلية ساعة ونصف تقريباً ، لتظهر عند نهاية الالتواءات الثعبانية لوحة جغرافية مختلفة تماماً.

إذ يبدو للعيان صحراء شاسعة ممتدة مد البصر يقطعها من الوسط الامتداد الأسود الذي صار على مستوى واحد مع الرمال الصفراء التي زادها توهج الشمس صفرة ولمعاناً ؛ ليترآى السراب على مسافات متباينة ، فتجد نفسك أمام لوحة جمالية ،تتجلى في رمال ذهبية لامعة وامتداد لا نهاية له تحيط بها كثبان رملية تغري الناظر بالسير على منعرجاتها التي صنعتها الرياح بدقة متناهية .

وهنا يتشعب الخط الاسفلتي ونجد مفترقاً للطرق ويبدو مفترق الجوف الذي نتجازوه لنتجه يميناً في الامتداد الصحراوي ، و المنظرذاته صحراء مترامية الأطراف يسير في منتصفها ثعبان أسود لا نهاية لذيله .

وتلوح لنا منازل بلاد الجدعان وبلاد جهم ، وكمب آل كعلان وكمب آل جمعان ،وجميعها مناطق آهلة بالسكان الذين تبدو منازلهم على جانبي الطريق .

 

وتمثل القرى المتناثرة هنا وهناك تجمعات بشرية وجدت في عمق الامتداد الصحراوي وكأنها تتحدى عوامل التصحر والزوال ،، وتوحي بصلابة الانسان وووقوفه أمام الزحف الأصفر والأعاصيرالرملية .

وبعد مسافة ليست بالقريبة تبدو مدينة مأرب بتاريخها المرتبط بالأصالة والحضارة ، بدت لنا مدينة هادئة تسترخي في قيلولة تحت أشعة شمس يوم حار من أيام شهر سبتمبر .

وبدا الرجال المارين بلباسهم الشعبي (الإزار اليمني ) وقد حمل كل واحد منهم سلاحه على ظهره ، وبدا بعضهم متحدياً حرارة شمس الطهيرة ،فلا السلاح أرهق كتفه ولا الشمس نالت منه ، يقفز الواحد منهم إلى ظهر السيارة في خفة ونشاط .

كثيرة هي السيارات التي تمر دون لوحة مرقمة ، ومعظمها من نوع (تويوتا) ، ويبدو أن كل الراكبين من الرجال ، فلا وجود لأي امرأة إلا من تبحث عن فاعل خير ليعطيها بعض المال .

وبدت مأرب مدينة للرجال حاملي البنادق .

وعندما اقتربنا من المجمع بدا يعض الرجال من غير هذه المدينة بدليل أنهم لا يحملون البنادق وبعضهم يلبس السروال ، فالمجمع يحوي خليطاً من أبناء المدن الأخرى ، الذين يفدون بحثاً عن أعمال حرفية بسيطة أو يعملون في مطاعم المدينة أو في معسكراتها .

توجهنا إلى السد القديم الذ يلم يبق منه سوى بقايا صخور ضخمة لاتزال النقوش فيها بارزة للعيان ، ويبدو الاهمال الشديد لتلك المنطقة الأثرية التي لم أجد فيها سوانا في تلك الساعة من النهار ، بحثنا عن مكان للظل أو استراحة أو شيئ يقينا حر الشمس ، ولاأثر لحس إنسان أوحيوان ، غادرنا آثار السد القديم ياتجاه السد الجديد ، الذي بدا أكثر اتساعاً مما تعكسه شاشات التلفاز أو الصور السياحية .

أخذنا طريقنا نحو القمة وإذا بعسكري يطلب منا تصريحاً بالدخول ، كان الأمر غريباً إذ لا يوجد أي حاجز أمنى يدل على أن المكان سياحي ويحتاج الأمر فيه إلى تذكرة دخول أو تصريح بالزيارة ، رجونا العسكري أن يسمح بالدخول فوافق السائق ثم عاد إلى مكانه وقد حذرنا من السباحة إذ لا يوجد فرق إنقاذ .

وعند القمة بدا السد كبحرهادئ تحيط به الجبال من الجانبين أما الواجهة ففيه خط اسفلتي تسير عليه السيارات ، وللوصول إلى السد ، كان هناك سلم من الدرجات الاسمنتية المتقاربة يتجازو عددها السبعين درجة ، هذا من ناحية اليمين أما ناحية الشمال فتبدو منافذ السد وقنوات الرَّي ، وبدت الخضرة تكسو المكان ، كانت أشجار البرتقال هي الأكثر انتشاراً ، ومعها عدد من المزروعات التي تمتد مد البصر ،وبالقرب منها بعض المنازل الشعبية .

، وقفنا قيلا خارج السيارة وبدا الهواء أكثر حرارة والشمس أكثر اقتراباً وكأننا نقف على خط الاستواء ، أوكأن الشمس عمودية على رؤوسنا 

أخذنا اتجاهنا في الخط الممتد الذي لا نهاية له باتجاه مدينة حريب لنجد سلسلة جبلية أشد انحداراً من جبال الفرضة ، وجبالها تتميز بأنها جبال صخرية لا تنبت فيها الشجر ، وبدا لي أن هذه الجبال الجرداء المصمته هي تحقيق الدعوة القديمة ( قالوا ربنا باعد بين أسفارنا ) ، جبال مصمتة وصخور نارية ترتفع إلى الأعلى بشكل خنجري تتخلله بعض التجاويف التي أثرت فيها عوامل التعرية على تطاول القرون وبعد السنين.

وعند بعض المرتفعات التي لا تصل إليها يد البشر ترى النحل وقد بنى بعض خلاياه في أمانٍ تام وربما سال بعض العسل من تلك الخلايا المعلقة .

وفي مرتفعات "ملعا" يخيل إليك أنك تعانق التأريخ القديم للرجل الحجري ، وكأن أحدهم سيظهر من أحدى المغارات والكهوف المنتشرة .

وبعد أن قطعنا مسافة بين تلك المنحنيات والجبال الصخرية ازداد تقارب المنحنيات واشتد انحدارها لتنفرج السلسلة الجبلية عن صحراء بمد البصر وخط اسفلتي يقاوم الرمال الزاحفة عليه في مشهد من مشاهد الطبيعة النادرة. وقفنا لبعض الوقت وكانت أشعة الشمس الحارة تنعكس على الرمال فتزيدها توهجاً والكثبان الرملية تعطي الأرض منظراً جمالياً لا مثيل له وكأن يد رسام نقشت تلك النمنمات الصغيرة باتجاه واحد متدرج .

وعلى طول المسافة التي قطعناها من جبال ملعا وقبيل الاقتراب من سوق مدينة حريب لم نلمح إلا راعياً يسير خلف غنمه وقد حمل سلاحه وهويسير بتثاقل شديد ، حتى بعض القرى التي تبدو على جانبي الطريق لم نلمح فيها أحداً ، فحرارة المقيل لا مثيل لها في تلك الساعة من الظهيرة .

وعند سوق حريب بدا الرجال حاملوا البنادق أكثر عدداً ، وكانت السيارات مزدحمة بشكل عشوائي ، فلا قانون للسير داخل السوق والأولوية لمن يسير أولاً ، وعلى الآخر انتظاره .

لا أثر للنساء إلا من كن مسافرات ، فالكثرة هنا للرجال ، والسوق لاترتاده نساء هذه المدينة تبعاً للأعراف القبلية السائدة، فالمرأة لا تمر هنا إلا إذا كانت على سفر مع أسرتها.

خرجنا من السوق بعد شراء بعض الضروريات ، وعدنا للطريق الاسفلتي الممتد إلى شبوة وبيحان وغيرها من مدن شرق اليمن ،وهنا وجدنا أنفسنا نترك الخط الاسفلتي الذي صحبنا من صنعاء وعبر مأرب وسيتجه إلى شبوة التي تعد بداية تقع بين مدن الشمال والجنوب ، لتكون مدينة مأرب آخر مدن الشمال ومدينة شبوة أول مدن الجنوب ، وكأن مأرب على قدر مرة أخرى لتربط بين الشمال والجنوب وتصل بين أهل البيت الواحد .

غادنا الخط الرئيسي واتجهنا شمالاً قاصدين قرية جراذا ، والتي يقال في تسميتها أنها سميت نسبة إلى الجرذ الذي تسبب في ثقب في سد مأرب القديم مما أدى إلى انهياره، حسب الرواية الشعبية .

وجراذا عبارة عن قرية كبيرة تسكنها عدّة قبائل ولكل قبيلة كبيرها (الشيخ) ، وفي القرية تتعايش القبائل فيما بينها وتحتكم إلى قيم متعارف عليها ، وممارسات يمكن أن تُوسم بالعرف القبلي ، فالزواج له تقاليده والولائم لها تقاليدها ، والحقوق مصانة ، ولذا نجد أن للثأر نصيبه الوافر من حظ العادات والقيم المتوارثة ، فالنفس لها حرمتها ، والقبيلي لا يترك دمه هدراً ، فلا قانون يعلو على عُرف القبائل التي تحتكم إليه سلماً وحرباً .

وكثيرة هي تفاصيل الحياة القبلية التي لاتزال تحافظ عليها وتمارسها وتورثها للأبناء .

ولا تزال العديد من القيم العربية موجودة في هذه الأماكن ، ومن هذه القيم قيمة إكرام الضيف ، التي لاتزال ذات سيادة في قيم جميع قبائل مأرب ، ومن العادات المحافظ عليها حفظ الجوار وإغاثة الملهوف، والتعاون في الملمات وغير ذلك من عادات وتقاليد وقيم سوف نتناولها في موضوع آخر.

 *شاعرة يمنية – ليفربول-بريطانيا