مكالف اليمن
بقلم/ د.أحمد عبدالله القاضي
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 14 يوماً
الأربعاء 08 أغسطس-آب 2012 10:06 م

اعتذار

أتقدم بداية باعتذاري الشديد للمرأة اليمنية التي تؤلف نصف المجتمع اليمني وتتولى الرعاية والعناية بنصفه الآخر ، عن كل مالحق بها من جور وظلم من رجال لا يدركون مقدار ماعندهم من لؤم !!

**********************

في عام 1992 ، في صحيفة " صوت العمال " التي ظهرت يوم الخميس الموافق 16/7/1992م ، نشرت عموداً تحت عنوان " مكالف اليمن " ؛ وكانت فصائل المكالف قليلة حينئذٍ تُعد بأصابع اليد !

أما اليوم فقد تعمقت ظاهرة " مكالف اليمن " وتنوعت ألوانها وأطيافها ؛ ومع هذا التعمق والتنوع تعاظمت كلفتها على المجتمع اليمني !

ومواكبة لمسيرة هذه الظاهرة الخبيثه وتتبعاً لتطورها ،عُدت إلى الكتابة عنها . بأسلوب آخر ..

**********************

كلمة " مَكْلَفْ " هي صفة تُنعت بها المرأة في اليمن والكلمة لعلمي المتواضع من مصطلحات اللهجة المحلية اليمنية ولا تُستخدم في الأقطار العربية الأخرى .

تحمل الصفة " مكلف " مزيجاً من المعاني في وعى الرجل اليمني المتخلف ويصف بها في العادة " ربة البيت " التي لا تعمل ولا يتيسر لها أي دخل من أجر أو ورث أو ماشابه وبالتالي .. لا تعول نفسها !

ويمكن لهذا المتخلف في أحوال أخرى أن يُوظِف صفة " المكلف " في توبيخ المرأة كأن يخاطبها .. " ما أنتي إلا مكلف " ! سواء أكانت المرأة ربة بيت أو موظفه ؛ وهذا التوظيف للكلمة " مكلف " ينطوي على خطورة إنسانية كُبرى .. فكأن المرأة التي يوبخها هي عبارة عن " شيء" !

هذه النظرة " الشيئية " للمرأة لا ينفرد بها اليمني المتخلف وحده إذ يشاطره فيها الرجل اليهودي المتخلف هو الآخر ؛ والأرجح أن نظرة اليمني هذه متأثرة بنظرة الرجل اليهودي للمرأة، فالنظرة الشيئية للمرأة هي من التراث الديني اليهودي الذي ساد في اليمن في غابر الزمن؛ بعكس الإسلام الذي لا ينظر إلى المرأة " كشيء " بل يساويها بالرجل بقوله تعالى ..." يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " ( الآية الأولى من سورة النساء ) .

وقد لخص أهم مفسرٍ للتوراة في المجتمع اليهودي ، الرابي بحيياي نظرة التوراة للمرأة بقولة : المرأة لا تعتبر من الخليقة لأنها ليست أكثر من شيء أُخذ من الجوهري وألُحق به لحاجته الاستعماليه لتكون مكرسة لاستخدامه كأحد الأعضاء المخصصة لاستخدامه ، ولذلك فإن المغفور لهم حاخاماتنا دعوها " ذيلاً " (مقتبس من كتاب " حمار المسيح " للكاتب اليهودي سفي رخلافسكي / مترجم ص 186) ومع ذلك يوصفون حاخاماتهم بـ " عظماء إسرائيل " ( المصدر نفسه ).

موضوع هذا المقال ليس النظرة " الشيئية " للمرأة ..... ، فالمرأة بتفوقها على الرجل في كثير من حقول المعرفة والعمل قد أغمضت هذه النظرة .

ولكن موضوع النقاش هو الدلالة الأخرى من مفهوم كلمة " مكلف " .

فعندما يقول الرجل اليمني المريض في معرض كلامه بأن ... " البيت ملان مكالف " ! فهو يعني بذلك أن البيت ينوء بجملة من " الأعباء " ،" الأحمال " و " التكاليف " و" المشقات " !!

فالمكالف عبارة عن " مخلوقات أعباء أضحت لأسباب نفسيه واقتصادية بل وحتى بدنية عاله على الرجل ويتوجب عليه وحده أن يوفر لها سبل العيش والحماية والآمان .

هكذا خلق منها الرجل اليمني المتخلف كائنا لا حول له ولا قوه ؛ على الأقل في خياله المريض !

هل نساء اليمن .... مكالف ؟!

الكلمة " مَكْلَفْ – وجمعها مكالِفْ " مشتقة من الاصطلاح المالي " كُلفة ... Cost " وجمعها " تكاليف " ، ومن منظور لغوي بحت تعني " حِمل burden "... نفقات ، مصاريف أو خسارة وبعبارة أخرى عندما يطلق المرء صفة مكلف على أية امرأة فأنه يقصد بذلك أنها عالة وحمل ثقيل عليه فهي معتمدة عليه في لقمتها ومعيشتها ومسكنها وملبسها ... الخ .

ولكن هل المرء منصف في وصف المرأة اليمنية بـ" المكْلَفْ"من هذا المنظور؟!

نساؤنا في اليمن لسن مكالِفْ !

حتى اللواتي لا يعملن في الوظيفة العامة أو في أي عمل يتحصلن منه على راتب أو أجر للتحرر من عباءة الرجل ، حتى هؤلاء لا يجوز أن نصفهن بالمكالف !

نساؤنا القاعدات في البيوت يعملن في البيوت من الساعات الأولى للفجر حتى ساعات متأخرة من الليل وبدون توقف وبدون كلل وبدون احتجاج أيضاً ؛عملهن في البيوت يفوق كثيراً عمل الرجال في المكاتب أو في الورش أو في المحلات التجارية أو حتى في جبهات القتال .

أما في الريف اليمني ، فإعاشة الأسرة الريفية تقع في الأساس على كاهل المرأة. فعلاوة على ترتيب البيت وتنظيفه وطباخة وإعداد الوجبات الثلاث وتربية الأطفال والعناية بهم ، تتولى المرأة في الصباح الباكر توفير ماء البيت وإحضاره في غالب الأحوال من الجبل أو من أماكن بعيدة حاملة على كتفها مالايقل عن ستين لتراً من الماء وعليها تقع مسؤولية رعي المواشي وحلب البقرة وتحضير مشتقات الحليب من الحقين والسمن وتنظيف مكانها من الروث وماشابه !

وليس على الرجل إلا الخروج في الموسم لحرث الأرض وزرعها وحصد المحصول وفي هذا أيضاً تساعده زوجته وعلى كتفه البندقية ليقاتل بها " طواحين الهواء " ... وهذا هو الأهم في وجوده في البيت ... إنها البندقية ... التي تخول له بعد كل ما قدمته زوجته أن يطلق عليها رصاصة " المكلف " بكل قُبح وأنانية و من دون أي اعتراف بالجميل !!

وان قسنا قيمة ساعات عمل المرأة الريفية أو ربة البيت في المدينة بمقياس قيمة ساعات العمل في القانون ، سنواجه جدولاً نظامياً يحدد قيمة ساعة العمل الأصلية وساعة العمل الإضافية وتزايد أجر الساعة كلما دنا الوقت إلى المساء وقيمة ساعات العمل الليلية وساعات الراحة والعطل الأسبوعية وقيمتها في الأعياد الدينية والوطنية والرسمية عندما تستمر النسوة بالعمل ويتعطل الرجال !!

ألا تشفع للمرأة هذه الساعات الطويلة من العمل الشاق وتؤهلها بأن تتحرر من هذا اللقب الجائر ... وهل قيمة هذه الساعات غير كافية لتغطية كُلفة إعاشتها ؟!

المرأة لا تستحق هذه الصفة وليس من الإنصاف أن نتداول نحن الرجال هذه الصفة كلما تطرقنا في أحاديثنا عن المرأة !

ولكنه من الإنصاف والحق بمكان أن نتداول هذا المصطلح في مكان معاكس تماماً.... وذلك عند الحديث عن شرائح كثيرة من رجال اليمن المكالف !

بلى .. فاليمن حُبلى برجالها المكالف و" التكلفة " الاجتماعية العالية التي يتحملها المجتمع اليمني ابتداءاً بتبديد الثروة القومية والتفريط بمقدرات اليمن واستنزاف المال العام وانتهاءاً بإزهاق الأرواح البريئة سواء في الحروب الداخلية أو بأعمال التفجيرات العشوائية ، وكافة المصائب التي أحاقت ولازالت تحيق باليمن هي في التحليل الأخير من فساد رجالها " المكالف "! .

ومن بين حشد من هذه المصائب ذلك العنف السياسي الذي شهدته اليمن منذ قيام الوحدة ويتعايش معها الشعب على مشقة حتى يومنا هذا هي أيضاً من صناعة أيادي هؤلاء الرجال " المكالف " !

وبأيادي هؤلاء " المكالف " أو برفقتهم يستحيل بناء دولة مدنية ولكن يسهل انقراض ماتبقى من معالمها في اليمن ؟

هذا الشعب ، يستحق الاعتذار من هؤلاء المكالف على ماكبدوه سنوات عجاف طويلة وذلك بالرحيل الهادئ عنه بدلاً من التنافس الزائف على زعامته !