آخر الاخبار
من حفر حفرةً لمرسي وقع فيها
بقلم/ بلال الشوبكي
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 4 أيام
السبت 18 أغسطس-آب 2012 09:43 م

لم تكن سوى دقائق معدودة تلك التي فصلت وقوع جريمة إغتيال الجنود المصريين في سيناء عن تسارع العديد من وسائل الإعلام المصرية لاتهام الفلسطينيين، وذهب التحديد أكثر إلى غزة ثم إلى حماس، وقد كان في المقابل إعلام فلسطينيّ بوجهين، أمّا الأول فقد بالغ في الدفاع عن الفلسطينيين وتقديم الدلائل على الحب الفلسطيني لمصر وهو بذلك وقع ضحية الإعلام المصري فقبل أن يكون في موقع الدفاع والتبرير، والأصل أن يقوم الإعلام المصري بتبرير موقفه وموقف شريحة من الشعب التي بدأت تتحدث بعدوانية تجاه أهل غزة. الوجه الثاني فقد بالغ في التهويل والتحذير من مخاطر تلك الجريمة على أهلنا في غزة، وعلى العلاقات المصرية الفلسطينية مشاركاً في اتهام حكومة غزة أنّها خلقت البيئة المناسبة لمن ارتكبوا الجريمة.

كَثُرت التحليلات حول هذه الحادثة، وجلّها ذهب إلى اتهام إسرائيل بالوقوف خلف الجريمة هادفة بذلك ضرب العلاقات المصرية الفلسطينية بعد تحسّنها مع تولّي محمد مرسي. ربّما أصاب المحلّلون باتهام إسرائيل فقد يكون لها دورٌ جوهريّ في الجريمة، لكن الهدف لم يكن أبداً ضرب العلاقات المصرية الفلسطينية، لأن إسرائيل أول من تدرك أن مثل هذه الجريمة لن تحقّق لها هذا الهدف، فالعلاقة المصرية الفلسطينية لا يمكن تخريبها بهذا الشكل لأنها تجاوزت النفعية والمصلحة المشتركة، فالعلاقة تغيّرت بحيث دخل إليها عنصران جديدان زادا من متانتها. سابقاً كانت العلاقة قائمة على توافق بين نظام مبارك والسلطة الفلسطينية على مشروع إقليمي، بمعنى أن الرابط في العلاقة برنامج سياسي فقط. أما اليوم فقد أصبح الرابط توافقاً في الرؤية السياسية بين تيارين سياسيّن منتخبين، أي أنه قد دخل إلى العلاقة عنصر الدعم الشعبي، وهو ما لم يظهره الإعلام، والعنصر الثاني هو التقارب الفكري والأيدولوجي بين الشارعين المصري والفلسطيني وكذلك النخب السياسية الجديدة، وهذا ما ظهر في انتخابات 2006 فلسطينياً وانتخابات 2012 مصرياً.

إن الجريمة لم تكن إلا ضمن حملةٍ ممنهجةٍ من أجل تقويض حكم مرسي أو تجريده من معظم صلاحياته السياديّة. الإعلام المصري الذي تطاول مراراً على الرئيس مرسي هو ذاته الذي هوّل من حجم جريمة سيناء ووجّه الأنظار إلى خطر مصطنع متمثل في غزة. لم يكن المقصود من هذه التغطية الإضرار بأهل غزة وإنما الإضرار بمرسي، فتضخيم الجريمة وتصويرها على أنها اعتداء خارجي على جمهورية مصر من بلد ناكر للجميل هو فلسطين كان يصبو إلى الآتي:

أولاً: إحراج مرسي سياسياً وإعلامياً وضرب القاعدة الجماهيرية للإخوان من خلال الإيحاء بأن السبب في مثل هذه الجرائم هو العلاقة الجيدة بين من يحكم مصر ومن يحكم غزة. هذا الهدف كان واضحاً في التغطية الإعلامية للجريمة وما بعدها، وخصوصاً أثناء التشييع الذي غاب عنه مرسي "المتهم" وحضره رموز العسكري حينها. ليس هذا فحسب، بل إن تغطية الجريمة بهذه الطريقة المثيرة كانت تهدف إلى خلق مزاج عام متوتر يربط حكم الإخوان بالعنف وغياب الأمن، ويربط علاقة الأخوان مع حماس بانبثاق التهديد للأمن القومي المصري، بما فيه من لمزٍ واضح لضرورة إدارة الظهر لغزة.

ثانياً: إحدى أهم استراتيجيات الاحتلال في العالم الحديث هي خلق الشيطان والتعهد بمحاربته، فقد خلقت أميركا شيطاناً في كلّ من أفغانستان والعراق وقد تعهّدت بمحاربتهما مما برر وجودها وسيطرتها على تلك البلدان والانتفاع بمقدّراتها. يبدو أن بعض القوى المصرية قد حاولت استيراد هذه الاستراتيجية على المستوى المحلي، ومن الواضح أن رموز العسكري السابق قد حاولوا خلق الشيطان بالقرب من غزة كي يجدوا المبرر لزيادة النفوذ العسكري في مصر وتحجيم دور الصفوة السياسية المنتخبة حديثاً، وليس مستبعداً أن تكون إسرائيل قد أمدّتهم بشكل غير مباشر على أقل تقدير بما يعجّل من ظهور ذلك الشيطان، فالأخرى لها في إسقاط مرسي منفعة فإن زاد نفوذ العسكر طال عمر كامب ديفيد.

ثالثاً: كثير من حكومات الدول المستبدّة والتي كانت لا ترضى الإصلاح أو محاربة الفساد، اختلقت خطراً خارجياً بحيث تحوّل أنظار الشعب عن الفساد الداخلي إلى التهديد الخارجي، وهو ما يضمن تعطيل التنمية والتغيير دون أن تكلّف الحكومة نفسها عناء مواجهة الشعب. المشهد المصري مختلف جزئياً، فالحكومة والرئاسة المصرية تطمح للتغيير والإصلاح ومحاربة الفساد، لكن بعض النخب المصرية الفاسدة والمرتبطة بنظام مبارك حاولت اللجوء إلى مبدأ اختلاق التهديد الخارجي، ليس من أجل تحويل أنظار الشعب من الإصلاح إلى الدفاع كما هو التقليد، وإنّما من أجل تحويل اهتمام الرئيس وحكومته إلى ملف وهمي (الخطر الخارجي) وإكراههم على التعاون من أجل حماية البلاد من ذاك الخطر، فيما يعني تجاهلاً تلقائياً لملفات حقيقيّة مثل التعليم والصحة والاقتصاد.

جريمة سيناء كانت الحفرة التي تم تجهيزها بإتقان كي يكون سقوط مرسي فيها حتميّاً، فتلقى الأهداف سابقة الذكر طريقها للتنفيذ. من وقف وراء هذه الجريمة يبدو أنه انخدع بما ظهر عليه مرسي منذ دخوله القصر الرئاسي، فالرجل كان يدير خده الأيسر لمن يصفع الأيمن، كان سلبياً في تجاهله الخصوم، مهادناً لا مصادماً لكل من خالفه بل لكل من حاربه، حتى أن بعضاً من مؤيديه فقدوا الثقة به واتهموه بالضعف. هذا الانطباع الذي تكرّس في الأذهان عن مرسي ساهم في تشجيع أعدائه على المضي قدماً في محاربته إلى الحد الذي أصبحت فيه دماء جنود مصر أداة لمحاربة مرسي.

هذا الانطباع تكرّس أكثر بعد حصول الجريمة، وأظهر طنطاوي على أنه الشخصية الأكثر أهمية، فيما مرسي يقف عاجزاً أمام هذه التطورات. لكن ذلك لم يطل، فما هي إلا أيّام قليلة حتى ظهر فيها مرسي القائد المبادر. أقدم مرسي في البداية على إقالة مراد موافي ومحافظ سيناء واكتفى بذلك حينها، وهو ما أظهرها كخطوة تقليدية تحفظ ماء وجه مرسي أمام الشعب وتزيح عنه عبء مواجهة رموز العسكري. لكن الخطوات التي تلتها بأيام جعلت المشهد أكثر وضوحاً، فمرسي حين أقال موافي كان واثقاً من صمت طنطاوي الذي ربما أسعده هذا التعامل التقليدي مع المشكلة، ورضي بموافي كبش فداء له ولزمرته.

مرسي حين فصل بين قرار إقالة موافي ومحافظ سيناء وما بعدها من القرارات كان يهدف إلى إيصال فكرة لبعض رموز العسكري أن اتحادهم مصطنع وواهن وأنهم قد يضحون برموزهم ورجالاتهم في أي وقت، وهي خطوة تضمن تلكؤ رموز العسكري من اتخاذ أي ردود أفعال على ما قد يفعله مرسي لاحقاً. لم ينتظر مرسي كثيراً حتى فاجأ طنطاوي ومقربيه بإحالتهم إلى التقاعد أو تغيير مواقعهم، حدث ليس أقل أهمية من خبر إسقاط مبارك، فجذور نظام مبارك كانت تضرب في قلب الدول المصرية وصولاً إلى قيادة الجيش، وإحالة تلك القيادة للتقاعد يعني خلعاً للجذور.

لم يكن باستطاعة مرسي أن يخطو تلك الخطوات الواسعة إلا في ظرف كهذا، وهو ما يدفع للقول أن جريمة سيناء ما هي إلا سحر انقلب على الساحر، وما هي إلا حفرة نبشها أعداء مرسي له، وسرعان ما سقطوا فيها. مرسي ذهب مع طنطاوي وأعوانه في المجاراة إلى أبعد حد، فوافقهم على أن هناك تقصيراً من جانب الدولة المصرية في حفظ الأمن فأقال موافي ومحافظ سيناء، ووافقهم أن هناك خطراً يهدد الأمن القومي المصري والذي يعني من وجهة نظر طنطاوي عسكرة الحكم في مصر، فيما كان يعني من وجهة نظر مرسي ضخ الدماء الجديدة في قيادة الجيش المصري وإحيائها من حالة الخمول التي عاشتها على مدى سنين.

إضافة لذلك، فإن مرسي حقق إنجازاً آخر في طريقة تعامله مع جريمة سيناء، فهو لم يتهم من ضخموا من حجم هذه الجريمة بإثارة الفتن، ولم يصادمهم في شيء، بل توافق معهم في الحديث عن ضرورة حفظ الأمن القومي المصري. لقد تركهم حتى أتوا بكل ما لديهم ففاجأهم بقرارته المتعلقة بتغيير قيادات الجيش، ولم يقف عند هذا الحد، فقد استغل ما قام به خصومه وأعداءه حين هوّلوا من حجم الحدث في سيناء، فهذا إعلان صريح أن الدولة المصرية تعجز عن حفظ الأمن في سيناء، ومن أسباب العجز كما رآها مرسي، حاجة المجلس العسكري وقيادة الجيش للتّغيير وضخ دماء جديدة كما أشرنا، بالإضافة إلى حاجة مصر إلى إعادة تقييم اتفاقية كامب ديفيد التي تحد من سيادة مصر مما يجعلها عرضة للتهديد الخارجي.

هناك من رأى في تلك الخطوات الجريئة تسرّعاً قد يجلب الفوضى لمصر، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أسوأ السيناريوهات لن تكون أخطر من بقاء مرسي رئيساً كرتونياً، فيما العسكري -وهو الوجه الحقيقي لحكم مبارك- يعيث في البلاد فساداً. كما أن مرسي لم يكن متسرّعاً في قراراته بقدر ما كان حاسماً فيها، فالتدرج في القرارات كان موجوداً، وتغيير قيادة العسكري والجيش تمثلت في شكلين الأول: إحالة للتقاعد وتكريم يخفف من ردّة فعل أنصار طنطاوي، أما الشكل الثاني فتمثّل في إتباع أسلوب إعادة التوزيع بدل الإطاحة بحيث يضمن تشتت الرؤى داخل المعارضة لحكمه، وعدم اجتماعهم على كلمةٍ سواء.