لا تلوموا ماكرون… لوموا من جرّأه على الإسلام
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 3 سنوات و 6 أشهر و 5 أيام
الإثنين 12 أكتوبر-تشرين الأول 2020 07:39 م
 

عندما كانت الكنيسة الأوروبية تطلق الجيوش لضرب العالم الإسلامي باسم الصليب، لم تكن تصريحات حكامهم العدائية تجاه الإسلام أمرًا غريبًا، طالما أنهم يحكمون الشعوب، نيابة عن الرب خلال حكمهم الثيوقراطي.

أما في عصرنا هذا، الذي رفع الغرب فيه شعار العلمانية، فإن هجوم حكامه على الإسلام، والتصريحات العدائية ضده، حتما تضع علامات استفهام، ذلك لأن العلمانية التي تبناها الغرب يفترض أنها في أدنى مبادئها، ومن الناحية التنظيرية تقف على الحياد في مسألة الأديان.

لكن يبدو أن حُلّة الرئيس إيمانويل ماكرون الأنيقة، لم تستطع إخفاء روح الحروب الصليبية التي تسكن العقلية الغربية، فأطلق لسانه بتصريحات نارية ضد الإسلام، لم تدع لأحد مجالا لاعتبارها زلة لسان، على غرار ما حدث مع جورج بوش، عندما تحدث عن حملة صليبية جديدة، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والشروع في غزو العراق وأفغانستان.

ليست زلة لسان لأنها حلقة في سلسلة التصريحات والممارسات العدائية للرئيس الفرنسي ضد المسلمين في ميادين عدة، أبرزها الحجاب وإصراره على الربط بين الإرهاب كسلوك شاذ، والإسلام الذي هو منهج وسطي، وذلك باستخدام مصطلح الإرهاب الإسلامي.

كان ماكرون واضحا للغاية في تصريحاته، فهو لم يتحدث عن أن المسلمين يمرون بأزمة، وإلا كنا اعتبرناه تصريحا موضوعيا، بل تحدث عن الإسلام كديانة تعيش في أزمة في كل العالم، ثم تحدث عن خصوصية فرنسا في نيلها حصتها من هذه الأزمة، وقام بإبراز ملامح خطته في مواجهة النزعة الانفصالية لدى مسلمي فرنسا، ورغبتهم في إقامة نظام موازٍ وإنكار الجمهورية، بل حوّل ماكرون هذه النظرة إلى المسلمين في بلاده، إلى حزمة من الإجراءات والتشريعات التي ستُقترح أمام البرلمان، تدور في فلك التضييقات على المنظمات الاجتماعية والرياضية، والجمعيات الخيرية، والرقابة الصارمة على المساجد.

أتفهم أن الدوافع السياسية لماكرون في الهجوم على الإسلام حاضرة، فالرجل يواجه أزمات اقتصادية فشل في حلها، وهو على أعتاب انتخابات شرسة، في ظل تراجع شعبيته بسبب إخفاقاته المتكررة، سواء في دمج الأحياء الفقيرة في ضواحي باريس، التي يمثل المهاجرون غالبية سكانها، أو في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي ضربت بلاده على إثر انتشار فيروس كورونا، أو مواجهة الانتصارات السياسية لحزب الخضر، الذي فاز مرشحوه في الانتخابات الأخيرة، في عدد من المدن الرئيسية، ما جعل حزب ماكرون الحاكم يخسر أغلبيته في البرلمان، إضافة إلى خسارته لملف استراتيجي مهم وهو، الملف الليبي، الذي تضاءل فيه دور ماكرون مقابل تعاظم الدور العسكري والسياسي لتركيا، والذي جعل الرئيس الفرنسي يقف موقف المتفرج، ولا يحسن شيئا سوى التنديد بالتدخل التركي والتحذير منه.

كل هذه الدوافع ألجأت ماكرون إلى محاولة الخروج من النفق المظلم عبر إلقاء اللائمة على المسلمين، ومحاولة كسب أصوات اليمين المتطرف بالطرْق على المخاوف من الوجود الإسلامي في فرنسا.

بيد أن هذه الدوافع ليست وحدها في ذهنية ماكرون، فهو يعلم يقينا أن هذه الهجمة على الإسلام سوف تجعله يخسر أصوات المسلمين في الانتخابات المقبلة، ومع ذلك لا يبالي، وهو ما ينم عن عنصريته أولًا، ويشير كذلك إلى عنصرية المجتمع الفرنسي، الذي تتجه أغلبيته إلى حيث يلوح الساسة بفزاعة الوجود الإسلامي.

«تصريحات ماكرون الأخيرة تبين لنا مقدار الاحترام الذي يستحقه، وحديثه عن إعادة هيكلة الإسلام هو قلة أدب منه»، بهذا رد الرئيس التركي أردوغان على تصريحات ماكرون، لكنني أضيف إلى قلة الأدب أمرًا أهم، وهو: مَن جرّأ الرئيس الفرنسي على قلة الأدب مع الإسلام؟ إن المسؤولية برمتها تقع على عاتق كل حاكم في أمتنا يُبطّن خطاباته بالهجوم على الإسلام من الداخل، ويُحمّله المسؤولية عن الإرهاب، وأخص بالذكر الثلاثي الرائد في هذا المجال: السيسي وابن سلمان وابن زايد، الذين يحاولون تثبيت فكرة الأزمة الزمانية للإسلام، واتهامه بعدم الانسجام مع متغيرات العصر، والجمود على أحوال وأحداث في أزمان غابرة، واتهام المسلمين بأنهم يهددون السلام العالمي، ويروجون لضرورة تجديد وتحديث الخطاب الديني، وفق أهوائهم السياسية، ومتطلبات تبعيتهم للبيت الأبيض.

فإذا كان هؤلاء يُؤزّمون الإسلام ويسعون لإعادة هيكلته، فهل يبقى مجال لِلوم ماكرون في هجومه على هذا الدين وأتباعه؟ هؤلاء الحكام في محاولاتهم لتحديث الإسلام، وفق ما ذكرنا، يُسهمون في تكوين صورة ذهنية عالمية مشوهة عن ذلك الدين، بأنه بالفعل منهج دموي إقصائي لا يعترف بالتعايش الإنساني، بدلا من بذل الجهود لفصل الدين كمنهج عن الممارسات الخاطئة، والتأويلات الباطلة لنصوصه، والتبرؤ منها، والعمل على نشر الفكر الوسطي بالمفهوم الأصيل، وليس بما تمليه المصالح والأطماع السياسية.

الإسلام يمر بأزمات نعم، لكنها أزمات قد صدّرها إلينا الغرب الأمريكي الأوروبي عندما رعوْا هيمنة الأنظمة القمعية الديكتاتورية في أمتنا، وسلطوا علينا العمالة الفكرية المتمثلة في أذنابهم الذين يعيشون بيننا، وصدّروا إلينا الأزمات عندما قاموا بصناعة التيارات التكفيرية الإرهابية ليتسنى لهم فرض نموذج إسلامي مُهترئ يتفق وأطماعهم الاستعمارية، باعتباره نقيضا للإرهاب والتطرف، والقاصي والداني يعلم أن تنظيم «داعش» إنما يوجه سلاحه في صدور المسلمين، لا في صدور الأمريكيين أو الأوروبيين أو الصهاينة. عندما نتحدث عن استهداف ماكرون للمراكز الإسلامية والمساجد في أوروبا، والتضييق عليها، فينبغي أن نضع إلى جواره تصريحات مفتي الديار المصرية، الذي يمعن في التأكيد على أنه مجرد ورقة سياسية في يد النظام، لقد زعم الرجل أن نصف الجيلين الثاني والثالث من المسلمين في أوروبا دواعش، وتوصل إلى أن المراكز الإسلامية في الغرب تتنازعها أجندات إخوانية، ويتم تمويلها بسخاء لأنها تحمل خطابا معينا يؤدي لتأزيم الموقف، ورأى أن هذه المراكز الإسلامية تحتاج إلى إعادة نظر في التدريب والتأهيل والتكوين العلمي.

إذا كان هذا الاستعداء والتهييج على مراكز ومساجد المسلمين في أوروبا من قبل مفتي مصر وأسياده وأمثاله، فماذا نتوقع من أنظمة غربية تتاجر سياسيا بورقة إسلاموفوبيا؟ وماذا نتوقع من مجتمعات غربية تأخذ فكرتها عن المسلمين من خلال أفلام هوليوود؟

وفي ظل أصداء تصريحات ماكرون العدائية ضد الإسلام، تأتيه صفعة تناقلتها وسائل الإعلام، عن تحرير آخر رهينة فرنسية كانت في مالي، عجوز تخطت السبعين اسمها صوفي بترونين، استقبلها ماكرون بنفسه، فكانت المفاجأة أنها أعلنت أمامه بأنها اعتنقت الإسلام، وصار اسمها مريم، وكأنها رسالة بأن مواجهته للوجود الإسلامي في بلاده ستبوء بالفشل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

*كاتبة أردنية