فتاوى تحريم التظاهرات والمسيرات: كيف يُصنع التطرف؟
!
لاغرابة أن تأتي مواقف الأنظمة السياسية ومن يدور في فلكها متباينة في شأن الأحداث الكبرى تبعاً لمدى استقلالية أو تبعية أيّ منها للقوى الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن ما يستغرب –إلى حدّ ما- أن يدسّ فئة من أهل العلم الشرعي أنوفهم في تبرير سياسة حكامهم على نحو مكشوف وغير أخلاقي. ولعل كل متابع للشأن العام لايزال يتذكّر ذلك الموقف المؤسف لبعض أبرز المرجعيات الشرعية في بلاد الحرمين التي انبرت في تموّز\يوليو عام 2006م لتقدّم فتواها بعدم جواز الوقوف مع حزب الله اللبناني أو الدعاء له في حربه مع العدو الصهيوني، نظراً لكونه حزباً شيعياً (رافضياً) لا صلة له بأهل السنة، وصارت غاية المنى لديهم أن ينتصر العدو الصهيوني، لكي لا يحقق خصمهم الطائفي(المسلم) انتصاراً يحرجهم، وهذا ما يفسّر سرّ إصرار بعضهم حتى اليوم، على أن حزب الله لم ينتصر، رغم كل حقائق الأرض، وشهادات الخبراء والعسكريين الصهاينة –قبل العرب والمسلمين- و(على عينك) يا(فينو جراد)(كمان)! وهم بذلك إنما يمثلون –من حيث يدري بعضهم أو لايدري – أنهم حلفاء أوفياء لحكامهم ذوي السمعة المعروفة من حيث العلاقة بالأمريكان والصهاينة، ولا سيما حين صرّح بعض أولئك الساسة والحكام منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على لبنان أن حزب الله مغامر، لايدرك العواقب الوخيمة من جرّاء تهوّره...إلخ
ما أشبه الليلة
:
واليوم تخرج علينا فتاوى التخذيل إياها، تلك التي تمثّل موقف حكام أصحابها على نحو أكثر فجاجة واستهجاناً، لتصخّ أسماعنا بتحريم المسيرات والتظاهرات المعبِّرة عن مشاعر الأمة المكلومة، تجاه مجازر الصهاينة وحلفائهم ،والوقوف مع الصامدين والشهداء والجرحى، الذين يصطلون بنار النازيين الجُدد في محرقة غزة بفلسطين السليبة، تحت ذرائع متهافتة مكشوفة من مثل أنها وسائل بدعية غير مشروعة، لم يعرفها المسلمون عبر تاريخهم، وأنها تقليد غربي، وينتج عنها صد عن ذكر الله، وفساد أخلاقي من مثل اختلاط الرجال بالنساء، وهلاك اقتصادي من مثل تخريب المحلات والمصالح العامة! ولم يفُت أحد هؤلاء أن يذكّرنا باللجوء إلى القنوت في المساجد بدلاً عن ذلك! ومع أنّه لا تعارض بين انطلاقة المسيرات والتظاهرات وإقامة القنوت والدعاء في الصلوات؛ بيد أننا لاندري هل سيخجل سماحته ويراجع فتواه بعد أن يرى العدوان الأخير بلغ ذروته، بعد مضي قرابة الشهر ثمّ لم نسمع أو نرَ قنوتاً واحداً في الحرمين المكي والمدني –، ناهيك عن غيرهما من مساجد بلاد الحرمين-؟ بل توجيهاً سلطانياً(سامياً) يجرّم ذلك، والحجّة الحاضرة هي أن (ولي الأمر لا يرى مصلحة في ذلك) أي أن القنوت سيتسبب في فساد عريض كذلك! هذه هي الحقيقة، وإلا فما ردّ سماحته على عدم تنفيذ مقترحه، والتزام السنة النبوية، عوض الإفساد في الأرض عبر المسيرات والتظاهرات -كما زعم-؟ . أم أن المصلحة لم تتوافر أركانها وشروطها، على نحو ما حدث عام 1991م، حين اجتاحت جحافل الصليبية الجزيرة العربية -بموافقة رسمية من حكامها وفي مقدّمتهم ولاة الأمر أنفسهم- بعشرات الألوف من المجنّدين والمجنّدات، المدجّجين بأصناف الأسلحة - بما فيها المحرّم دولياً-، حينها سمعنا أحد أئمة الحرم المكي المشاهير يصدح بالدعاء الملّح وبالقنوت في الصلوات جميعها لينصر الله (قوات التحالف)؟
!!!
ولي الأمر: اسطوانة مستهلكة
:
لست بصدد المناقشة العلمية التفصيلية لهذه الشنشنة المخزية- ولا أقول الرأي العلمي أو الوجهة المخالفة- ، فلقد تولى القيام بذلك الإمام يوسف القرضاوي وبعض من طلبة العلم، كما نقضت خيوطها الواهية جبهة علماء الأزهر، وثلّة من رجالات السلفية الحقّة في أكثر من قطر، ولا سيما بعض أفذاذ السلفية في الكويت
.
ومع أن كاتب هذه السطور يتفهم الدوافع النبيلة لأولئك الكرام من الفقهاء والعلماء الذين تصدّوا لتفنيد شبهة تحريم المسيرات والتظاهرات تلك؛ كي لا يبقى لمتوهِّم أو مضلَّل ذريعة للتخاذل عن نصرة إخوة الدين والعقيدة في غزّة الجريحة بكل وسيلة متاحة؛خاصة مع ما يُمارس من إرهاب فكري بات مبعثاً -لدى الراسخين والنابهين – للتقزّز والاشمئزاز- حين الإكثار من التلويح بشعار الالتزام بنصوص الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح- أستغفر الله- ليصوّروا محققي علماء الأمة ورجالاتها الفكرية الكبيرة، وكأنهم صدى غوغائي، لمكفّرة جماعات العنف، الذين هم صناعتهم الأصلية بالدرجة الأساس، إذ لم يكن وقتذاك قد وقع الفأس على الرأس. مع تفهم ذلك كلّه إلا أن الحقيقة التي يدركها كل من يمعن النظر في شأن هذه الفتاوى وما جرى ويجري على شاكلتها في هذا القطر أو ذاك؛ أنها ليست فتاوى نزيهة دفع إليها البحث العلمي الحرّ- أيّاً كانت نتائجه من حيث الصواب والخطأ، أو الموافقة والمخالفة-؛ بيد أنها مواقف مسيّسة بامتياز،دون أن يعني ذلك حكماً بالضرورة على نوايا بعض من يكلّف بتقديمها، أو يطلب منه وضع اسمه، أو توقيعه عليها، إلى جانب آخرين ممن عرفوا عَلَماً على الفتاوى (السلطانية)- ولا كرامة- ، تلك الفتاوى التي قد تتقلب بين لحظة وأخرى، بحسب رغبة (السلطان) وهواه، مما يجعل المرء لايعدم أن يجد الفتوى ونقيضها ليعضهم، و(شماعتهم) السخيفة في ذلك ترديدهم مقولة أنهم إنما يدورون مع ما (يراه وليّ الأمر محقّقاً للمصلحة الشرعية.
على فرض التسليم بحق ولي الأمر في أن يبدي وجهة نظره في مسائل تقدّر فيها المصالح والمفاسد وفق الضوابط والشروط المرعيّة شرعاً؛ فإن من المعلوم بداهة في الوسط العلمي الشرعي والفقهي أن عبارة (ولي الأمر) في هذا السياق إنما كان يقِصد بها من أطلقها الإمامَ الشرعي، ممن تنطبق عليه صفات الإمام العادل ، المؤهل بشروط الاجتهاد المطلق، وليس أيّ أحد ممن حصل عليها بالوراثة، أو عبر الدبابة، أو بالشرعية الثورية، أو بتزوير إرادة الأمة في انتخابات صورية، يعلم الجميع كيف جَرَت، مع جهالة تضحك، وشرّ البلية-حقّا- ما يضحك؟
.
نأمل أن يفسّر لنا أصحاب هذا المنطق المتدثِّر برداء الشرع والفتوى صمتهم المطبق مع مسيرات وتظاهرات لا حصر لها، منها ما يخرج تأييداً للحكام الذين تصف الولايات المتحدة أنظمتهم بـ(الاعتدال)، وآيتهم الدامغة في ذلك، وقوفهم ضدّ حزب الله وغزّة وحماس والجهاد الإسلامي ومن على شاكلتهم في فلسطين أو خارجها كفاحاً وممانعة
.
كما أننا لا نعلم موقفاً مستنكراً يبرُز، أوفتاوى عنيفة تذاع، عبر وسائل الإعلام وشبكات المواقع الإلكترونية، إزاء من يعبّر عن تشجيعه لفريق بلده الرياضي بمثل هذه الطريقة -وفيها من الهستيريا والخروج عن المعقول أحياناً ما لا يخفى- تماثل ما تلوكه الألسنة الحِداد لهؤلاء، وتخطّه أناملهم المرتعشة اليوم، تجاه المسيرات الداعمة لما مايجري على أرض غزّة! وهل يمكن أن يقال ذلك عن تلك التظاهرات والمسيرات التي خرجت قبل حين نصرة للنبي- صلى الله عليه وسلّم- في وجه الإساءات المتكرّرة لشخصه الكريم-فداه أبي وأمّي- مثل ذلك الوصف بالبدعة والصدّ عن ذكر الله والإفساد في الأرض؟!! ولماذا لم نسمع بفتاواهم تلك في ذلك الحين؟
وحسناً ماذا لو تم التأكّد من أن أية مفسدة متخيّلة، مما أوردها أصحاب الفتوى لن تقع فالاختلاط –وفق مفهومهم- لن يحدث، والتخريب للمؤسسات والمحلات التجارية وسواها، سيضبط- وهو ما لم نسمع به في بلداننا قط في شأن مسيرات غزة-؟
أمّا الوصف بالبدعة والشنشنة بأن الأسلوب غربي جديد، فأقرب جواب عليه: إنه مع التأكيد على أن وسائل الدعوة غير توقيفية بل مفتوحة مباحة في أصلها، فإنا لمنتظرون جواب السادة المفتين لتحريم وسيلة المسيرات والتظاهرات للتعبير الوجداني عن الموقف التضامني مع الأمة في بلائها: هل كان يوجد تلفاز أو مذياع أو صحيفة أو شريط(كاسيت) أو شبكة معلومات دولية(انترنيت) في عهد النبي- صلى الله عليه وسلّم- وسلف الأمة، يستعملونها في بيان الحكم الشرعي والدعوة إلى الله –كما يفعل دعاة اليوم وعلماؤهم ومن بينهم هؤلاء أنفسهم، وفتواهم هذه بوجه خاص-؟.! أم أن هذه ليست وسائل غربية جديدة؟! و يأتيك الجواب الحق: أن لا مشكلة في أيّ من تلك الوسائل – بصرف النظر عن موضوع المشروع من عدمه – بل لأنها لا تمثّل عامل قلق لمخطّطات دول الهيمنة – وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية- كما لا تمثّل حرجاً للأنظمة التابعة لها، وذلك بخلاف الموقف من المسيرات والتظاهرات التي تكشف الموقف الفاضح لدولة الإرهاب الكبرى: الولايات المتحدة، وربيبتها الصهيونية، وتعرّي تواطئ الأنظمة التابعة لها، على نحو مكشوف وغير مسبوق
.
فتاوى الضرار تتكرّر
:
لو عدنا بالذاكرة إلى عام 2000م حين دعا أبرز علماء الأمة الأحرار- وفي مقدّمتهم الإمام يوسف القرضاوي- وبعض الدعاة و والمفكّرين والمثقفين إلى مقاطعة البضائع الأمريكية- بوصف أمريكا الداعم المطلق علانية للكيان الصهيوني على خلفية انتفاضة الأقصى في رجب 1420هـ- سبتمبر2000م في فلسطين- وما نتج عن ذلك من أضرار بالغة محقّقة بالاقتصاد الأمريكي والشركات التابعة له ،مما دفع ببعض كبريات الشركات والمؤسسات التجارية والمحلات والمطاعم وسواها إلى الإفلاس أو التراجع اللافت في حجم مبيعاتها، فيما راحت بعض السفارات والقنصليات الأمريكية تمارس ضغوطاً تارة وتوسلات تارة أخرى إلى الحكومات في البلدان التي تمثل بلدانها فيها بضرورة الضغط على الخطباء والمرشدين بأن يكفّوا عن هذه الدعوة، نظراً للأذى البليغ الذي لحق بالمنتجات الأمريكية؛ لوجدنا أن فتاوى الضرار ذاتها تخرج من تلك الأصوات النشاز إياها – ونحن هنا لسنا معنيين بنوايا بعضهم - لتدعو إلى عكس التوجّه الحضاري السلمي الموجع للولايات المتحدة، الداعي إلى مقاطعة البضائع الأمريكية، أمّا (الإكليشة الجاهزة) فهي ( إلا أن يرى ولي الأمر أن المصلحة في ذلك
) .
و على سبيل المثال هاك السؤال التالي المقدّم إلى بعضهم بهذا الشأن وتأمل في إجابتهم بالنص
:
السؤال: "يتردد الآن دعوات لمقاطعة المنتجات الأمريكية مثل بيتزا هت وماكدونالدز..الخ. فهل نستجيب لهذه الدعوات؟
الجواب: (يجوز شراء البضائع المباحة أيا كان مصدرها ما لم يأمر ولي الأمر بمقاطعة شيء منها لمصلحة الإسلام والمسلمين
..."
ويأتي جواب آخر ليزيد على ذلك بأن ينزع صفة العلم عن الذين دعوا إلى المقاطعة لتبقى تلك الصفة (كهانة) تحتفظ بحق الامتياز لمن يدور في فلك الأنظمة السياسية الموالية وحدها
:
"
هذا غير صحيح ، العلماء ما أفتوا بتحريم الشراء من السلـع الأمريكيـة ، والسلع الأمريكية ما زالت تُورد وتباع في أسواق المسلمين، ولا هو ضار أمريكا إذا لم تشتر من سلعها. لا تقاطع السلع الأمريكية إلا إذا أصدر ولي الأمر منعاً ومقاطعة لدولة من الدول فيجب المقاطعة أما مجرد الأفراد أنهم يسوون هذا، ويُفتون بالتحريم، فهذا تحريم ما أحل الله لا يجوز
".
كيف يُصنع العنف؟
أخيراً للبيب أن يتساءل: لمصلحة من تقدّم مثل هذه الفتاوى الغريبة؟ ولماذا يتباكى بعض من ينتسب إلى المؤسسة الدينية في بلاد الحرمين على وجه الخصوص على حال الشباب الذين تتخطفهم جماعات العنف؟ وهل ننتظر من كثير منهم أن يتجّه إلى غير ذلك السبيل إذا كان هذا هو موقف بعض الرموز الدينية في أقدس بقاع الله ؟ وهل تجدي محاولات أساليب التربية المدنية والحضارية، والدعوة إلى منهج الحوار، وعقد المؤتمرات والندوات، الداعية إلى مكافحة ما يصفونه بـ(الإرهاب)، والصدع بالصوت مجلجلاً في الخطب والمحاضرات تحذيراً واستنكاراً من تفشّي هذه الظاهرة، ورفع العقيرة، في كل اتجاه بضرورة تجفيف منابع العنف، وقطع أسباب انتشاره، وعوامل تفاقمه، في حين نسدّ منابر التعبير السلمي في موقف إنساني، خرجت فيه أعداد هائلة من النصارى وبعض اليهود واللادينيين تجوب شوارع مدن بلدانها استنكاراً لمجازر الصهاينة ووقوفاً مع أبناء غزّة؟
!
ولنا أن نسأل – ثانية- ذلك المفتي الذي دعا إلى التزام الدعاء للفلسطينيين في غزة والقنوت لهم في الصلوات : ما بال المسجد الحرام والمسجد النبوي لايلتزمان بتوجيهه، ويبادران إلى إحياء سنة القنوت في الصلوات جميعها، عملاً بالهدي النبوي في النوازل الكبرى، وكما تفعل معظم مساجد العالم الإسلامي ؟! أمّا أن يجتمع العسران: الحظر للمسيرات والتظاهرات والمنع من القنوت والدعاء لأهل غزة فذلك هو العنت بيقين، بل هو إسهام كبير في التحضير لأعمال عنف، تجد منطقها واضحاً، بعد أن تسدّ كل القنوات السلمية المشروعة، في ظل شعار(فارغ المحتوى) يستمر في رفع (لافتة) عنوانها (الكتاب والسنّة وهدي السلف) !! واللهمّ غُفراً
.
لقد كاد شعري يقفّ وأنا أستمع إلى أحدهم متحدّثا في قناة فضائية إلى مؤتمر (علمي) يزعم أنه يبدّد في (ورقته) البحثية شبهات (التكفيريين)، ويخلط الأمور خلطاً معيبا، إذ يصوّر نفسه فقيهاً محقّقاً، ومخالفيه جهلة تكفيريين أغراراً، بحيث يكون الاستخلاص الأولي من قبل الشباب الغضّ المحتار بين تحريف الغالِين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، أن كل متحدّث عن الوسطية والاعتدال إنما هو من جنس علماء السلاطين هؤلاء!. ولا عزاء للعلماء العدول الأحرار المحقّقين، والمربين المعتدلين الوسطيين، فلقد ضاعوا بين هؤلاء وأولئك. ولولا ثقتنا ببشرى النبي – صلى الله عليه وسلّم –القائل في حديثه الصحيح " يخلف هذا العلم من كل خَلَف عدوله ينفون تحريف الغالين، وتأويل المبطلين، وتأويل الجاهلين"( أخرجه ابن عدي والعقيلي والخطيب البغدادي)، وما نراه من إقبال لافت على أولئك العلماء العدول الأحرار والمربين الوسطيين؛ لقلنا ضاعت الحقيقة، وذهب حزبا الغلاة والولاة بالدين وتأويله، ولكن صدق الله:( فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )( الرعد:17
).
addaghashi@yemen.net.ye
*أستاذ أصول التربية وفلسفتها المشارك – كلية التربية- جامعة صنعاء