آخر الاخبار

تصريحات مفاجئة لرئيس الأركان الأمريكي: هناك قدرات لا نرغب في تقديمها لإسرائيل! تصريحات مفاجئة لرئيس الأركان الأمريكي: هناك قدرات لا نرغب في تقديمها لإسرائيل! تصريحات مفاجئة لرئيس الأركان الأمريكي: هناك قدرات لا نرغب في تقديمها لإسرائيل! مجلس الوزراء يُغرق وزارة الدفاع بالثناء اللفظي ويتجاهل صرف رواتب الجيش واستحقاقات وزارة الدفاع المالية صناعة القرارات الرئاسية في زمن رئيس مجلس القيادة الرئاسي.. قرارات تعيين رغم اعتراض غالبية الرئاسي وقرات يتم تهريبها بسرية .. تفاصيل لجنة المناصرة والتأثير بمحافظة مأرب تعقد ورشة عمل ناقشت دور السلطة المحلية والأحزاب والمنظمات في مناصرة قضايا المرأة رسالة من أمهات وزوجات المختطفين لقيادات جماعة الحوثي : ''نأمل أن نجد آذانا صاغية'' في اجتماع بقصر معاشيق.. قرارات وموجهات جديدة للحكومة اليمنية خلال رمضان فقط.. رابع حادثة وفاة لمختطفين في سجون الإنقلاب الحوثي قضاة محكمة العدل الدولية بالإجماع يوجهون امرا لإسرائيل .. تفاصيل

الدولة المدنية الشوروية (الديمقراطية) رؤية تأصيلية شرعية
بقلم/ حارث الشوكاني
نشر منذ: 12 سنة و 4 أشهر و 17 يوماً
الخميس 10 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 03:44 م

الشورى في المنظور القرآني ليست أصلاً من أصول الشريعة فحسب بل هي أصل من أصول العقيدة، وليست إطاراً ناظماً للعلاقات السياسية فقط بل إطاراً ناظماً للعلاقات الإجتماعية والسياسية معاً، وكدلالة على أهمية الشورى في القرآن سميت سورة كاملة بإسم الشورى كإشارة ربانية قرآنية لبيان محورية الشورى في تنظيم العلاقات الإنسانية.

ويتعزز هذا الفهم بأن الشورى أصل من أصول العقيدة وفريضة جماعية من فرائض الإسلام ورودها قرينة الصلاة والزكاة في القرآن في قوله تعالى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} الشورى 38 وسورة الشورى مكية لا مدنية وهذا دليل على أن الشورى أصل من أصول العقيدة لا من أصول الشريعة.

ومما يعزز من أهمية الشورى والتشاور والحوار بين الناس كفريضة ربانية إلهية أن الأنبياء والرسل لم يتم إستثناءهم من هذه الفريضة فقد جاء في القرآن التوجيه الإلهي الصريح للرسول –ص- بمشاورة من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران159..

بل إن القرآن الكريم يبين لنا أن الله سبحانه وتعالى شاور وحاور الملائكة في أمر تعيين آدم خليفة في الأرض بما يؤكد أهمية الشورى ليس في إختيار القيادات فحسب وإنما في إتخاذ القرارت أيضاً {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30، فإذا كان الله ورسله يشاورون ويحاورون فمنهم هؤلاء الطغاة المستكبرين الذين يأنفون من مشاورة أهل ثقتهم فضلاً عن غيرهم وما قيمتهم أمام الله ورسله، والقيادات الصالحة للأمم والشعوب {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} الزخرف54.

هذا عن الأدلة المباشرة الصريحة المتعلقة بالشورى، أما من يفهم القرآن فهماً إستنباطياَ موضوعياً تركيبياً فيمكنه معرفة مقام الشورى في القرآن كأصل من أصول العقيدة ولو لم ترد في حقها أدلة مباشرة بمعنى أن يستنبط دليل موضوع فرعي من دليله الأصلي وأم معناه، والفهم الإستنباطي في القرآن هو دليل الفقه والفهم والعلم وليس مجرد الحفظ للأدلة المباشرة دون إدراك علاقة مواضيع القرآن بعضها ببعض لقوله تعالى {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} النساء83.

ولو أدركنا عمق هذا المصطلح القرآني (الإستنباط) لجعلناه بديلاً لكلمة الإجتهاد فنقول بلغ العالم درجة الإستنباط لا درجة الإجتهاد لأن الإجتهاد هو مجرد بذل الجهد والطاقة في محاولة الفهم سواءاً تم الفهم أم لم يتم أما الإستنباط فهي مرتبة علمية تدل على العلم بموضوعات القرآن والكتب السماوية وليس ذلك فحسب بل وعلم العلاقة بين هذه الموضوعات في إتجاهات ثلاثة رئيسية – مقاصد عامة ينبثق عنها قواعد وأسس كلية وكليات يتولد عنها معاني جزئية أي الفهم الموضوعي المركب .

في هذا السياق أقول أن دليل الشورى الكلي وأم معناه كامن في عقيدة التوحيد نفسها (لا إله إلا الله) فقد أوضحت سلفاً بأن كلمة التوحيد مركبة من محورين : الأول : نفي (لا إله) والثاني : إثبات (إلا الله).

وعلى هذا الأساس لا تتم العبودية لله إلا بنفي العبودية لغيره إبتداءً، أي الكفر بالطاغوت والإستبداد أولاً ثم الإيمان بالله بدليل قوله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ)، والكفر بالطاغوت والإستبداد أولاً كشرط من شروط التحقق بعقيدة التوحيد لا مجرد التلفظ اللساني بالشهادة يعني إطلاق حرية الإنسان إزاء الإنسان كشرط لتحقق العبودية لله بدليل قوله تعالى (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)، أي أن العبودية لله ينبثق عنها مقصد الحرية الإنسانية، ولو سألنا أنفسنا وكيف يمكن أن نعبر عن الحرية كإطار نظري بطريقة عملية لأجبت عبر الشورى، لأن العلاقة الطاغوتية الإستبدادية ليس فيها حوار وشورى وتداول آراء وإنما طرف طاغوتي يأمر وينهى وطرف آخر يسمع ويطيع وينقاد دون نقاش أو حوار، فالعلاقة الطاغوتية لغتها لغة الإكراه لغة الإستخفاف بالآخرين لغة الأمر والنهي من السيد ولغة السمع والطاعة والإنقياد من العبيد {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة256

فلغة الطاغوت هي لغة الإكراه ولغة الإكراه وليدة النظرة الدونية للآخرين لغة الإستخفاف (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) أما لغة الأديان السماوية فهي لغة الحرية ولغة الحرية هي لغة الحوار والشورى ولغة الحوار هي لغة تبين الرشد من الغي لا لغة السمع والطاعة العمياء الصماء البكماء (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) والدليل القرآني الصريح الذي يبين أن البديل لمنطق الطاغوت والإستبداد لغة الشورى والحوار هو قوله تعالى (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ{17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{18}) [ الزمر ]..

لقد أوضحت هذه الآية بصريحها أن البديل لمنطق الطاغوت والإستبداد منطق الأوامر والنواهي المطلقة من الطاغية والسمع والطاعة المطلقة من العبيد دون نقاش هو منطق الحوار وتداول الآراء والتشاور ثم إختيار أحسن الآراء بحيث تهيمن الإرادة الجماعية على القرارت {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} النمل32 (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الشورى 38، فهذا دليل صريح على أن الشورى في المنظور القرآني هي الأداة المجسدة لمفهوم الحرية الإنسانية والكفر بالطاغوت الذي هو الشرط الرئيسي للتحقق بعقيدة التوحيد (لا إله إلا الله) نفياً لحكم الطاغوت أولاً ثم إيماناً بالله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) وبهذا يتضح لنا أن هناك علاقة جدلية بين مفهوم العبودية لله والحرية الإنسانية والشورى.

فالعبودية لله لا تتم إلا بشرط إطلاق حرية الإنسان إزاء الإنسان، وحرية الإنسان إزاء الإنسان لا تتم إلا إذا أدركنا أن حرية الآخر مقدسة قداسة التوحيد ومقتضى قداسة حرية الآخر شرعاً إحترام شخصه وعدم الإستخفاف به ومقتضى الإحترام هو إحترام رأيه وإحترام رأيه يقتضي التشاور والحوار معه، ومقتضى التشاور والحوار هو أنه إذا إجتمع ثلاثة فما فوق على أمر وجوب دوران الشورى بينهم والنزول عند رأي الأغلب لا رأي الفرد.

ومن هذا المنطلق أقول أن الشورى في المنظور القرآني ليست إطاراً ناظماً للعلاقات السياسية فحسب بل إطاراً ناظماً للعلاقات الإجتماعية والسياسية بل أستطيع القول أن الشورى السياسية لا يمكن أن تعطي النتيجة المرجوة منها إن لم يبدأ دوران الشورى في مؤسساتنا الإجتماعية إبتداء من الأسرة ثم المدرسة وبقية المؤسسات الإجتماعية ثم الأطر السياسية والسبب في ذلك أن أول عملية إغتيال لحرية الفرد ومصادرة لشخصيته لا تبدأ في المؤسسات السياسية وإنما في المؤسسات الاجتماعية على رأس ذلك الأسرة والمدرسة..

وأول مشكلة يواجهها الطفل بمجرد ولادته هي السلطة الأبوية (الأم والأب) لأن علاقة الطفل بوالديه هي التي تحدد ملامح شخصية الطفل بأبعادها الثلاثة الجسدية والعقلية والنفسية، فمطلوب من الوالدين ليس الإهتمام بالنمو الجسمي للطفل عبر الرعاية الصحية والأكل والشرب فحسب وإنما الإدراك بأن تربية الطفل ثلاثية الأبعاد أي النمو الجسمي والنمو النفسي والنمو العقلي والبعد النفسي والعقلي كثيراً ما يقابلان بالإهمال لا سيما البعد النفسي وهو الذي يحدد شخصية الطفل قوة وضعفاً، فعلماء النفس يؤكدون أن الملامح الأساسية لشخصية الإنسان تصاغ في طفولته، ويفترض في الوالدين أن يكونا على علم بالوسائل التربوية العلمية للتعامل مع الطفل، لأن المطلوب منهم بناء شخصيته لا هدمها وسحقها..

وأسلوب التعامل الذي يقوم على لغة الإكراه والتقريع فضلاً عن الضرب يؤدي إلى إضعاف شخصيته بتعويده على تجاهل رأيه وتحويله إلى أداة تنفذ رغبة والديه بغض النظر عن قناعته الخاصة، أما أسلوب التعامل السليم فهو الأسلوب التربوي العلمي الذي يجعل من هدف التعامل معه بناء شخصيته بناءاً سوياً، شخصية مستقلة ستخرج من إطار الأسرة لتخوض معترك الحياة وهذا الهدف يستلزم التعامل الذي قوامه لغة الحوار والإقناع وإشعاره بذاتيته والتعامل معه وكأنه كبير حتى تنمو شخصيته وإيكال بعض الأعمال إليه لإنجازها حتى يشعر بالثقة بنفسه.... الخ.

والخلاصة في هذا الأمر مع الأسف أن علماء النفس والقرآن يؤكدان أنه بسبب جهل الوالدين فإن أول إغتيال لشخصية الطفل على الصعيد النفسي تتم في إطار الأسرة فالطفل يرضع مع الحليب حليب العبودية وتعود لغة الإكراه والإنقياد الأعمى لوالديه، ثم يسلم الطفل من الأسرة إلى المدرسة ويواجه ألواناً أخرى من الأساليب التربوية الطاغوتية التي تنمي فيه عوامل الخنوع والإنقياد الأعمى للآخرين، فلا يكبر ويصل إلى المؤسسات السياسية إلا وقد قامت المؤسسات الاجتماعية بمحو شخصيته وتعويده لغة السمع والطاعة والإنقياد الأعمى ولو خالف الأمر قناعته.

والقرآن الكريم أكد خطورة السلطة الأبوية التي يواجهها الطفل في المؤسسات الاجتماعية (الأسرة – المدرسة) في أكثر من موضع، بل وحملها المسؤولية الأولى في صياغة الشخصية صياغة قوامها القابلية للإنقياد الأعمى والسمع والطاعة غير المبصرة من ذلك في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} البقرة170 ، فداء الآبائية طرح في القرآن بقوة في العديد من الآيات لأن السلطة الأبوية تعلّم الطفل الإنقياد الأعمى وتربطه بعالم الأشخاص لا الأفكار.

وقوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} العنكبوت8 وقوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لقمان15، فقوله تعالى (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إشارة خطيرة إلى مدى التأثير الطاغوتي على نفسية الطفل من خلال عبارة (جَاهَدَاكَ) فكأن الطفل يواجه معركة متكاملة من أساليب الطغيان والإكراه التي تؤدي إلى محو شخصيته وتعوّده للإنقياد الأعمى لا الإنقياد المبصر (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

وأنا أقول أن هذه الممارسات التي يواجهها الطفل ليست أفعال متعمدة من الوالدين، فلا شك أن الأبوين هما أشد الناس حباً لطفلهما ولكن الجهل والأعراف الاجتماعية الخاطئة والفهم المغلوط أيضاً للبر بالوالدين ديناً يؤديان إلى ذلك.

ولذلك فأنا أنبه أولاً إلى أهمية الإدراك بأن روح الحرية وتجسيدها العملي الشورى ولغة الحوار تبدأ في المستوى الإجتماعي قبل السياسي وإلى أهمية الإهتمام بتعليم الأب والأم حتى يستطيعا أداء دورهما التربوي على الصعيد النفسي والعقلي كما يجب، وإلى ضرورة كتابة كتاب خاص يضعه خبراء في علم التربية وعلم النفس في كيفية تعامل الوالدين مع طفلهما ويصبح مادة ملزمة لكل أسرة، وإلى ضرورة تحويل هذا العلم إلى محاضرات وندوات تعطى للآباء والأمهات الأميين في شكل دورات مكثفة، وقبل هذا وذاك أقول أن الشورى ولغة الحوار لن تصبح تقليداً إجتماعياً وسياسياً في المجتمع إلا إذا وضعت مناهج جديدة يطرح فيها أن أصل الشورى هو الحرية في منظور أديان السماء وأن الحرية في المنظور السماوي مقدسة كقداسة التوحيد لأنها تنبثق عن عقيدة التوحيد مباشرة.

وبعد الشورى الإجتماعية بهذه الكيفية يمكننا الحديث عن الشورى السياسية كنتاج طبيعي للشورى الإجتماعية، وفي هذا الصدد يمكننا القول أن الشورى هي الإطار الناظم لعلاقة المجتمع بالدولة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي أمر سلطتهم وحكمهم شورى بينهم أي بين كافة أفراد المجتمع، وبهذا يتضح لنا أن الدولة والسلطة السياسية في المنظور القرآني هي أداة لخدمة الأمة ورعاية مصالحها وليست الأمة أداة لخدمة الدولة والسلطة وهذا هو الفارق بين السلطة والدولة العادلة والسلطة والدولة الطاغوتية فالولاية العامة والدولة المؤطرة بهدي السماء هي الولاية العادلة التي تخرج الناس من واقع العبودية والإستضعاف إلى واقع الحرية ومن حياة الفقر والجهل والمرض إلى حياة الغنى والعلم والصحة أي الدولة العادلة {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} البقرة257 {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} النساء58.

والدولة والولاية الطاغوتية هي الدولة التي تحكمها فئة ترعى مصالحها على حساب مصالح المجتمع وينقسم فيها الناس إلى طبقتين سادة مستكبرين لهم السلطة والثروة والعلم وعبيد مستضعفين يعيشون حياة الفقر والجهل والمرض {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة257.

وكفكفة طغيان السلطة السياسية في المنظور السماوي يتم عبر وسيلتين : -

أ‌- إنتزاع حق التشريع (السلطة التشريعية) وجعلها لله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الجاثية18 {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} الأعراف3، بجعل الملك والحاكمية والولاية لله عبر إتباع التشريع الإلهي وإعتبار السلطة المقدسة هي السلطة التشريعية ممثلة في الوحي الإلهي ونزع صفة القداسة عن البشر فهناك شريعة مقدسة وليس هناك سلطة سياسية تنفيذية مقدسة، وهناك حكمة تقول: (لا دولة بدون تشريع ولا تشريع بدون دولة).

ب‌- إعتبار السلطة السياسية التنفيذية سلطة مدنية غير مقدسة وإخضاعها لسلطة الشعب والأمة عبر الشورى إختياراً ورقابة.

وعلى هذا الأساس فالشورى هي الكابح الثاني من كوابح السلطة الطاغوتية إلى جوار الشريعة الإلهية.

وتتجلى الشورى في الواقع العملي في شكلين رئيسيين : -

أ‌- حق إختيار القيادات.

ب‌- حق إتخاذ القرارت.

فيجب هيمنة الإرادة الجماعية للأمة في إختيار قياداتها وفي إتخاذ قراراتها.

ويتجلى حق الإختيار في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} النساء59، فقوله تعالى (مِنكُمْ) أي المختارين منكم فالآية دقيقة قالت (مِنكُمْ) ولم تقل (فيكم) إلى جوار النص السابق (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وما يؤكد عدم قداسة السلطة السياسية وحصر القداسة في الشريعة ما ورد في الآية من ذكر النزاع والإختلاف وأنه إذا حصل يتم الرجوع فيه إلى الشريعة ولا يحصل الخلاف مع أولي الأمر إلا إذا تربى الناس على عدم قداسة أولياء الأمر وعلى مفاهيم الحرية والشورى.

أما الشورى في اتخاذ القرارات وهي أرقى تجلياتها في قوله تعالى {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} النمل32

ولو تدبرنا هاتين الآيتين : قوله تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} الجاثية18، وقوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) لأدركنا أن مدار أمر المؤمنين مرهون بهذين المصدرين :

أ‌- الشريعة الإلهية.

ب‌- الشورى.

مفهوم الشورى وعلاقته بالديمقراطية:

جعل الله مدار الإسلام قائم على أصلين: الشريعة الإسلامية والشورى، كما أوضحت سلفاً بما يبين لنا مقام الشورى في الإسلام، ولو توقفنا عند نص الآية التي تقرر مبدأ الشورى لتحديد المعنى الدقيق لهذا المبدأ العظيم في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) لأمكننا إستنباط عدة دلالات ومعاني لهذه الآية كالتالي:

1- قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي أمر حكمهم ودولتهم مرهون بمشاورة وأخذ آراء عموم المؤمنين أو الأمة أو الشعب وهذا المعنى يقتضي إعتبار أمر الدولة حق للأمة لا حق لفرد أو فئة أو جماعة أي أن التكييف الشرعي للدولة والسلطة في المنظور القرآني أنها أداة لخدمة الأمة لا الأمة خادمة للحاكم أو السلطان وأن الولاية العامة عقد بين الأمة والحاكم كأجير أو خادم لها، وللأمة حق إختياره ومراقبته وعزله.

2- إطار الشورى في الآية نص صراحة بأنه بين جميع المؤمنين وأفراد الشعب والأمة بقوله تعالى (بَيْنَهُمْ) أي بين جميع المؤمنين ولذلك لا معنى لحصر الشورى في أهل الحل والعقد كما طُرح ذلك في التراث الفقهي.

3- الآية تنص صراحة بوجوب أخذ آراء ومشاورة جميع أفراد الأمة المؤمنة في إختيار قياداتهم وسلطتهم التنفيذية وهذه المشاورة لا يمكن تصورها إجرائياً إلا عبر إنتخابات عامة، وبهذا يتضح لنا أن الإنتخابات العامة هي الآلية العملية لتطبيق مضمون الآية وبالتالي مشروعية الإنتخابات العامة.

4- لو رجعنا إلى مفهوم الديمقراطية وتعريفها لمقارنتها بحقيقة الشورى في الإسلام لوجدنا التقارب الشديد في الجوهر وفي الآلية والشكل:

أ‌-  فمن حيث المضمون أبرز تعريف للديمقراطية هو حكم الشعب نفسه بنفسه، ولو قارناه بمضمون تعريف الشورى لوجدنا تقارباً شديداً لأن معنى قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي أمر حكمهم ودولتهم يتم باختيارهم ومشاورتهم أي جعل أمر الحكم والدولة حق للشعب والأمة لا لفرد أو فئة أي حكم الشعب نفسه بنفسه عبر الشورى.

ب‌- ومن حيث الإجراء والشكل عادة ما يتم تطبيق الديمقراطية عبر إنتخابات عامة، والقرآن نص صراحة على أن لا يتم إختيار قيادات الدولة إلا عبر مشاورة جميع أفراد الشعب وهذه المشاورة لا يمكن تصورها إلا عبر إنتخابات عامة.

وبهذا يتضح لنا مدى التوافق بين مفهوم الشورى في الإسلام ومفهوم الديمقراطية موضوعياً وإجرائياً.

5-  هناك خلاف بين الديمقراطية والشورى يتوهمه البعض ويتمثل في أن التجارب الديمقراطية في الغرب تسمح بإقرار تشريعات مخالفة لقواعد الإسلام والجواب على ذلك أن الديمقراطية والشورى عملية إجرائية فإذا طبقت في مجتمع علماني لا شريعة له يصبح حق التشريع للشعب، لكن عندما تطبق في مجتمع مسلم فإن المرجعية التشريعية ستكون للشريعة الإسلامية لأن غالبية أفراد الشعب مسلمون وبالتالي لا مجال لإقرار أي تشريعات تخالف نصوص الشريعة لأن النص على سيادة الدستور والتشريع الإلهي سيكون مثبتاً في دستور الدولة الإسلامية.

لكن بعض العقليات الإسلامية المنغلقة ترفض الديمقراطية كلفظ بغض النظر عن المعنى لأن هذه العقلية السطحية تفهم الإسلام لفظاً لا معنى وشكلاً لا جوهراً وحرفاً لا روحاً وتفهم الإسلام رواية وحفظاً لا دراية وفهماً، والإسلام إمتدح أهل الفقه والفهم وفضلهم على أهل الحفظ بقوله تعالى (لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ) والفقه هو الفهم وقوله تعالى (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) وقول الرسول (ص): (رب حامل فقه ليس بفقيه) وقوله (ص): (نضّر الله إمرء حفظ مقالتي فوعاها فأداها كما حفظها فرب مبلغ أوعى من سامع)، ولذلك قد نجد مثل هذه العقليات ترفض أقرب المعاني إلى روح الإسلام لأنها لا تحمل ألفاظ إسلامية وتقبل أبعد المعاني عن روح الإسلام إذا عبرت هذه المعاني عبر أشكال وألفاظ إسلامية، مع أن علماء الإسلام يقولون لا مشاحة في الألفاظ والعبرة بالمعنى لا المبنى وتعاليم ديننا الحنيف لا تدعو للإنغلاق أمام معارف وتجارب الأمم الأخرى وإنما للتفاعل معها عبر وزنها بميزان الإسلام لمعرفة غثها من سمينها لاستخلاص رصيد حكمتها، وصدق رسول الله (ص) القائل: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها) وما الحكمة غير الإنفتاح على معارف وتجارب الأمم من حولنا وأخذ رصيد حكمتها.

وقد إمتدح الرسول (ص) الروم في آخر الزمان وامتدح تجربتهم الديمقراطية التي جعلتهم أمنع الناس لظلم الملوك في الحديث الذي روي موقوفاً على عمرو بن العاص باسناد صحيح عن المستورد الفهري أنه قال لعمرو بن العاص: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو بن العاص: أبصر ما تقول، قال: أقول لك ما سمعت عن رسول الله (ص)، فقال عمرو بن العاص: إن تكن قلت ذاك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأسرع الناس كرّه بعد فرّه وأنهم لخير الناس لمسكين وفقير وضعيف وأنهم لأحلم الناس عند فتنة والرابعة حسنة جميلة وأنهم لأمنع الناس من ظلم الملوك)

والذي أرجحه أن هذه الرواية لهذه الخصال ليست لعمرو بن العاص وإنما هي للرسول (ص) بدليلين أحدهما عقلي والآخر نقلي:

أما العقلي فالرواية إنما هي نبوءة من الرسول (ص) (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) لأن هذا الوصف (أمنع الناس لظلم ملوكهم) لا ينطبق على الروم زمن الرسول (ص) وزمن عمرو بن العاص لأنهم كانوا في ذلك الوقت يعيشون في ظلمات العصور الوسطى وتحت تسلط وجبروت ملوكهم ودولتهم الثيوقراطية.

ويتعزز هذا الدليل العقلي بدليل نقلي بأن هذا الحديث نفسه الذي روي موقوفاً قد روي مرفوعاً إلى الرسول (ص) عن طريق إبن رشدين بأن الرسول (ص) قال: (إنهم لأصلح الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة عند مصيبة وأوشكهم كرّه بعد فرّه وأمنعهم من ظلم ملوكهم)، إلا أن إبن رشدين نسب هذه الأوصاف التي قالها الرسول (ص) إلى قريش وقد إنتقد علماء الجرح والتعديل إبن رشدين في عدة أمور منها قولهم أنه جعل الحديث في قريش وهو في الروم وأنه رفع الحديث إلى رسول الله (ص) وهو موقوف على عمرو بن العاص، وأنا أتفق معهم أنه في الروم وأختلف معهم على وقفه على عمرو بن العاص لأن عمرو لا يمكن أن يصفهم بهذا الوصف في عصره لأنهم كانوا تحت ظلم ملوكهم وقتها ولا يمكن أن يكون هذا الوصف إلا نبوءة ورؤية إستباقية بدليل قول الرسول (ص) (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) أي آخر الزمان، لأن أحاديث قيام الساعة تشير إلى آخر الزمان لقوله (ص) (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم، وقوله (ص) (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات).

ويتعزز متن هذا الحديث في أوصاف الروم بما ورد في القرآن من تفريق بين اليهود والنصارى بقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }المائدة82، ونجد في القرآن وصف لقلوب اليهود وقلوب النصارى:

- في قوله تعالى وصفاً لليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ}المائدة13.

- ووصف قلوب أتباع المسيح بقوله تعالى {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}الحديد27.

وكما تتعزز أسانيد الأحاديث بالروايات من طرق أخرى فإن متونها تتعزز بمتون الآيات، فقول الرسول (ص) (وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف) يتعزز بمتن الآية (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)

وعموماً قد شرحت الشورى شرحاً منفصلاً عن الديمقراطية ومن لم يعجبه هذه المقارنة بين الشورى والديمقراطية فليأخذ بمعاني الشورى وحسبه ذلك وفوق كل ذي علم عليم.