اليمن .. انفصال الشمال وتقسيم الجنوب.
بقلم/ عبدالفتاح الحكيمي
نشر منذ: 5 سنوات و شهرين و 16 يوماً
الثلاثاء 17 سبتمبر-أيلول 2019 05:56 م
 

سؤال كبير جدا .. ماذا لو أن المناطق الشمالية من البلاد سقطت بأيادي أخرى غير الحوثيين , هل ستكون حماسة السعوديين للوحدة اليمنية كما نلمسها اليوم .. حيث يظهرون وحدويين أكثر من اليمنيين أنفسهم..

وفيما لو أن المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون على خط التماس السعودي كانت بيد الرئيس السابق صالح وحزبه مثلا أو مراكز قوى قبلية وسياسية اخرى , لكان فصل جنوب اليمن عن شماله لا يثير حماسة وغيرة الاشقاء ..

كذلك لو أن مشروع الحكم المذهبي السلالي الذي يسعى إليه الحوثيون ظهر بمعزل عن نفوذ الأصابع الإيرانية وولاية الفقيه التي تحرك صبية جبال مران لما رمى السعوديون بكل ثقلهم للتحرك العسكري لمواجهة أدوات طهران تحت غطاء وواجهة إنهاء الانقلاب واستعادة الشرعية ..

 ولحاجة السعوديين لحلفاء الداخل المحليين ندرك ماذا يعني تمسكهم بشرط الحفاظ على الوحدة الوطنية , فهم يكيفون قناعاتهم بالمسألة بالنظر الى قدرة حلفائهم على التحشيد العسكري والاجتماعي ضد الحوثيين تحت سقف هذه الرمزية (المقدسة) في معركة مصيرية خطيرة تهدد استقرار وأمن المملكة أكثر من اليمنيين أنفسهم.

لعل اليمن الموحد جغرافيا مع هشاشة وضعف نسيجه الاجتماعي أهون بمليون مرة حتى من وجود كيان إيراني تابع على حدود الاشقاء الجنوبية وغيرها , ولو كان بمساحة دولة (الفاتيكان) ..

وبقدر ابراز السعودية عناوين تأييدها الإعلامي اللا محدود للوحدة الوطنية لليمنيين إلا أن ممارسات المملكة على الارض في جزء منها تقسيمية (غامضة) تتماهى مع الإماراتيين كما هو حال الجنوب وتعز والحديدة , حيث يتبادل الطرفان الادوار بمسوغات تقاسم جغرافي للمطامع يكرس بطريقة غير مباشرة لتفكيك تماسك نسيج المجتمعات المحلية من الداخل ..

    * المطامع أولا *

تقسيم المناطق القتالية بين السعوديين والاماراتيين هو نفسه خارطة تقاسم المطامع

من الساحل الغربي الى المهرة وسقطرى مرورا بسواحل أبين شبوة , حضرموت والمهرة وما بينها من موانىء ومطارات وداخلها من مناطق ثروات.

اليمن الموحد بالنسبة للملكة ضرورة حتمية في مواجهة كماشة خطر التوسع الإيراني القادم من العراق واليمن , وذلك لا يهم الإماراتيين جغرافيا أكثر مما تفعله بهم نقاط تماس حدودهم مع البعبع الإيراني ذاته.

تكتفي أبو ظبي بما ظفرت به من ثمار ومكاسب إدارة المعركة العسكرية السهلة في مناطق اليمن الساحلية .. فعلى الأقل ضمنت لنفسها أدوات محلية طائعة تتحرك وقت الحاجة والطلب , بما فيها أدوات مكافحة (الإرهاب) بتأييد وغطاء من الدول الكبرى .. لكن ثمرتها غير الصالحة افسحت للمليشيات تصفية بقايا سلطة الدولة في الجنوب وليس الإرهابيين !!.

اليمن الآن في وضع اللا دولة وتسيد الفوضى وحكم الفراغ .. وسطوة المليشيات الآن تتقاسم وتحجز لنفسها هي الأخرى مربعات جغرافية من البلاد شبيهة بما تفعله دول التحالف بفارق مواصفات ومزايا ما يسيطر عليه كل طرف ..

يشبه الوضع الى حد ما حالة اللا وحدة واللا انفصال ليس بين جنوب البلاد وشمالها فقط اذ يتعدى التفكك كل محافظة ومنطقة غالبا ..

شجعت حالة التشظي الجغرافي وضعف (تلاشي) سلطات الدولة اليمنية على بروز كيانات راديكالية متطرفة بسقف مطالبها المرتفعة .. أبرزها تيار الهيمنة الشاملة على الدولة والسلطة والثروة (الحوثيون) يليه تيار فرض الانفصال بالقوة (الانتقالي) في بعض الجنوب , وأقلها مربعات طارق صالح بين المخا والحديدة , وحزب الاصلاح في جزء من تعز وبعض مأرب وأبو العباس وحلفاؤه المؤتمريين والناصريين والاشتراكيين بين الحجرية والمعافر والوازعية , وأخيرا تشكل فصيل جبهة الإنقاذ غير المعلنة في بعض المهرة وسقطرى وحضرموت وشبوة.

* الامريكان والوحدة *

يقاتل الحوثيون السعودية على حدودها , وتفتك صراعات المتحالفين مع الشرعية ببعضهم البعض أكثر مما يفعلونه مع الحوثة .. فتبدو معركة الأخير وتمكين والمشروع الإيراني أسهل بكثير من استعادة الشرعية وإنهاء انقلابات صنعاء وعدن.

لو أن الجنوب كان متعايشا مع نفسه من قبل لما غامر قادته بطلب وحدة اندماجية كاملة شاملة مع سلطة صنعاء التي بدا الإبحار نحوها مغريا وأقل كلفة من تعايش الرفاق المستحيل.

رمت المملكة السعودية عام 1989 م بكل ثقلها الديبلوماسي نحو الجنوب للحيلولة دون تقاربه مع الشمال , وعاد وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الى بلاده يضرب اخماسا في اسداس بعد ان رفضت حكومة عدن عروضا بمليارات الدولارات لمشاريع تنمية خيالية ضخمة تضخ الحياة لاوصال الجنوب المنهك ..

بعدها حسم الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب قرار قيام الوحدة بمكالمة هاتفية استغرقت من وقته الثمين 3 دقائق فقط ..

 قال للملك فهد بن عبدالعزيز : لا تعترضوا على الوحدة بين جنوب وشمال اليمن , فهي مصلحة للأمن القومي والاقتصاد ) .. ثم أمر الرئيس صالح الذي كان مذهولا بجانبه بالتوجه لمقابلة ملك السعودية !!.

وحصلت شركة (النمر) السعودية بعد

الوحدة على امتياز استثمار نفطي في شبوة وحضرموت , لكن الرئيس صالح لأسباب كثيرة لم يوافق على أهم مشروع استراتيجي سعودي لمرور خطوط إمداد النفط عبر الربع الخالي والمهرة الى بحر العرب .. وصعدت السعودية تحفظاتها المقابلة على استثمارات اليمن لنفطها في محافظة الجوف .. وحاولت دعم انفصال 1994 م بمعدات قتالية عبر الوديعة.

* تشابك المخاطر*

قد تبدو دولة اليمن الموحد هاجسا مرحليا للاشقاء لكنه لا يرقى إلى أهمية مواجهة التمدد الإيراني الحوثي أولا .. وقد يتراجع اهتمام السعودية ايضا بوجود منافذ حيوية لصادراتها النفطية عبر بحر العرب قبل تأمين إنتاجها المهدد حاليا بهجمات صواريخ وطيران الحشد الشعبي في العراق على مصافي نفط وانابيب ارامكو ألتي يتبناها الحوثيون إعلاميا.

وتغري الأوضاع الداخلية المفككة والمتناثرة في اليمن مراكز النفوذ والقوى الدولية بالتنافس على ممراتها البحرية وإعادة التموضع العسكري لللاعبين الكبار قرب الجزر والمياه الإقليمية ومضيق باب المندب والبحر الأحمر وإشراك أدواتها المحلية والوكلاء العرب في ذلك أو بالتواجد والتدخل المباشر , وابرز المتنافسين , بريطانيا , روسيا , إيران , أمريكا , إسرائيل , مصر ..

وكلما ضعف وتأخر تأمين سيطرة معقولة لحلفاء السعودية ( الحكومة الشرعية) على الأرض استقوت أدوات إيران وتمادت في صلفها كما حصل منها في مصافي بقيق , و خريص قبل أمس , فالمعركة العسكرية الحقيقية مفتوحة اكثر على حدود المملكة بشمال اليمن , صعدة , حجة , الجوف ..

وقد ظهر توقيت التواجد العسكري السعودي المفاجئ بمطار عتق في محافظة شبوة أواخر الشهر الماضي وكأنه ليس ضمن سيناريو تبادل ادوار محكم (مقصود) لذاته بل وكأنه اقرب الى إسناد وانقاذ طارىء للشرعية في معركتها الصعبة مع مليشيات النخبة!!.

* أوراق مكشوفة*

يصطدم تقاسم المطامع بين تحالف الاشقاء(جنوبا) بتبلور وعي شعبي مستنكف ومستفز بدأ في عدن وسقطرى ضد الامارات ولن تنتهي حالة استنفاره المتوقعة في شبوة وحضرموت والمهرة ضد الجميع .. فالذي يزعم دعم الشرعية لا يضع نفسه بديلا عنها ولا يضعفها في مناطق نفوذها على الأرض.

وعلى طريقة ونهج بريطانيا الكولينيالي نفسه قضت الإمارات على سلطة الحكومة الشرعية وركنت على أدواتها المحلية وتسييرها لتحقيق مطامعها من وراء حجاب .. فيما تجرب الرياض حظوظها بنفسها لثقتها المهزوزة بالأدوات ولتأخر تواجدها كثيرا على الأرض ..

وتركن الإمارات الى دعم ومدد بريطاني عندما تريد لا توفر أمريكا مثله لحليفتها , فتبدو بذلك المملكة مرتبكة ومترددة في قرار الحسم النهائي عسكريا او سياسيا في اليمن , وبما تمثله لها أيضا تداعيات الاستهدافات المتتالية لمنشآتها الحيوية في شرق المملكة وجنوبها.

يقول أحد الامثال : لا يمكن مطاردة ارنبين في وقت واحد) .. فهل يكون هدف استعادة الشرعية في اليمن خيارا مقدما على الأهداف الخاصة الأخرى غير المعلنة لتحالف ( دعم الشرعية).. أم إن اليمن سينزلق أكثر مع باقي دول المنطقة لما هو أسوأ والعياذ بالله ويتمكن المشروع الإيراني من الهيمنة وضرب الجميع بأدواته الجاهزة في العراق واليمن على حد سواء.

مشروع الإنفصال الحقيقي ألأخطر ليس في الجنوب بل في الشمال بتبعيته الفكرية الصارخة التي تضع الجميع في سلة أطماع التوسع الإيراني وتهديد مستقبل الهوية الإسلامية والعربية لليمن.

فهل من مدكر ؟.