استراليا.. هدوء الجنة ووطن لمن لا وطن له
الحسن الجلال
الحسن الجلال

ليست المرة الأولى التي أغادر فيها اليمن لأزور أرضاً جديدة، وأرى شعباً جديداً، ولكنها المرة الأولى التي أتجاوز فيها محيط الكرة الأرضية الشمالي، متوجهاً إلى نصفها الجنوبي. إلى أستراليا. آخر القارات السبع اكتشافاً وأحدثها شعباً..

فبعيداً عن سكان أستراليا الأصليين الذين لم يتبق منهم سوى قلة لا يكادون يذكرون. يعد الشعب الأسترالي أحدث شعوب الأرض تأريخاً، حيث لا يتجاوز عمر تأريخ أستراليا السكاني المائتين سنة، وهو عمر صغير لو عرفنا أن أقدم تأريخ مكاني للبشر يقارب عمره العشرة آلاف سنة!!.

قبل ذهابي إلى أستراليا برفقة منتخبنا الأولمبي.. كانت معلوماتي عنها وتحديداً ما تبقى في الذاكرة من دروس الجغرافيا في الصفوف الإعدادية، وكنت أظن أن طبيعة الحياة في أستراليا تقترب من الحياة في معظم دول أمريكا اللاتينية التي تشارك أستراليا وجوداً في نصف الكرة الجنوبي، أو تقترب من الحياة في دول شرق آسيا الأكثر قرباً إلى أستراليا.. وأحياناً كنت أظن أن طبيعة الحياة فيها قد تقارب طبيعة الحياة في الدول الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، حيث تتبع أستراليا التاج البريطاني بصورة شكلية أكثر منها ارتباطية.

ولكنني حين وصلت إلى أستراليا تلاشت في ذهني كل ما كنت رسمته بخيالي عنها وغدا كل ما ظننته عن الحياة فيها ظناً لا يغني عن الحق شيئاً.

ورغم زياراتي للعديد من دول العالم، إلا أنه ما من دولة استطاعت أن تحتل هذا الحضور الكبير الذي احتلته أستراليا في نفسي، حضورًا قويًا يأسرك من اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماك أرضها.. كل شيء فيها يبدو مختلفاً، حتى هواؤها يخال لك أنه هواء آخر، غير الهواء في أي مكان على وجه الأرض.. ومع أن مكوثي فيها لم يتعدّ العشرة أيام.. وربع هذه المدة أهدرت في التنقل من مدينة إلى أخرى، وفي الملاعب متابع لإحماءات منتخبنا ومباراتيه..، إلاَّ أن هذه الأيام البسيطة قلبتني رأساً على عقب، وغيرت نظرتي للحياة وربما للأبد.

أوجه باسمة

أول ما يلفت انتباهك في أستراليا هي تلك الابتسامة الدافئة التي يقابلك كل من يلقاك أو يبادلك النظرات.. سواء كانوا موظفين أو بائعين أو مارة تصادفهم في طريقك وأنت تمشي هنا وهناك.. رجال.. أطفال.. نساء.. الكل يبتسم لك بدفء يشعرك بأنك بين أهلك وأصدقائك, وبأنك واحد منهم.. لم أر طيلة تواجدي هناك وجوهًا غاضبة، أو مستاءة، أو مشمئزة.. أو متعالية..

حتى عندما قام أحد أعضاء منتخبنا الأولمبي -عن دون قصد- بعبور الشارع من غير الأماكن المخصصة لعبور المشاة، نظر إليه الجميع نظرة عتاب دون أن تغادر وجوههم الابتسامة الدافئة.. ولم يكن ما قام به هذا العضو جريمة، إنما مجرد مخالفة، وكأنها عند الأستراليين مخالفة لنظام اختاروه بإرادتهم وارتضوا به نمطاً ينظم حياتهم، لذلك ما من استرالي يقدم عن عمد على مخالفة هذا النظام، ويخيل إليك وأنت ترى تمسك الأستراليين الشديد بالنظام أنه يزرعون في أبنائهم منذ نعومة أظافرهم حب النظام والتمسك به.. بل لا أبالغ إذا ما قلت إنه بات التمسك بالنظام والتقيد به شيئاً من فطرتهم التي فطروا عليها.. وسر من أسرار روعة تلك الأرض وقوة حضورها..

آمال وأعمال

خلال تأريخها القصير نجحت أستراليا في أن تحتل اليوم المرتبة السابعة بين دول العالم، وقبل عقد أو عقدين من الزمان كانت أستراليا في منطقة وسط بين الدول والشعوب ذوات الحضارات العريقة القريبة منها «اليابان- الصين- الهند- دول شرق آسيا»، وبين الدول والشعوب ذوات الحضارة الحديثة والتي سبقت أستراليا في النشوء بقرون قليلة «دول أمريكا اللاتينية», لكنها اليوم تجاوزت منطقة الوسط مخلفة وراءها وبمراحل دول الحضارات الحديثة وعدد من دول الحضارات العريقة، وأية دولة أخرى في العالم ستكون سعيدة جداً بوصولها لهذه المرتبة المتقدمة وقد لا تطمح في أكثر من ذلك لعقود طويلة، أو ربما قرون «ماعدا الدول العربية التي تبدو قانعة تماماً بأمجادها التي أكل عليها الزمان وشرب ولم يبق لها سوى الذكر في كتب التأريخ».

ومع ذلك لم يتوقف الأستراليون عند ما حققوه، بل يتطلعون بإصرار غريب إلى نيل مرتبة متقدمة أكثر في الترتيب العالمي، ويخططون بذكاء وعزيمة للوصول خلال العشرين سنة القادمة إلى أحد المراكز الثالثة الأولى، وعلى أقل تقدير المركز الثالث، حيث يرون أن الصين والهند هما أقوى المنافسين لهم على المركزين الأول والثاني، وحظوظهم في نيل هذين المركزين أكثر من حظوظ أستراليا..!!.

لذلك ترى كل من في أستراليا يعمل جاهداً في مجاله لإيصال البلاد إلى تلك المرتبة، دون ملل أو تذمر أو تعب.. أو حتى تواكل.. حلم يتشارك فيه الجميع، وطموح يأخذ بهم كل مأخذ..

ورغم أن أستراليا دولة رأسمالية تلعب رؤوس الأموال دوراً محورياً في تشكيل ملامحها، إلاّ أن سطوة رأس المال لم تمتد إلى أرواح الأستراليين، ولم تتحكم في تلقائية الناس، وودهم الطاغي، بل على العكس ارتقت بسلوكياتهم..

قيمة الحياة

قرأت قبل مدة ليست بقريبة لأحد رواد عصر النهضة في مصر- لا أذكر هل كان طه حسين، أم عباس العقاد- كيف أنه وهو في باريس ومن مراقبته لسير الناس هناك قد عرف معنى قوله تعالى: {واقصد في مشيك}.. وتذكرت ما قرأته عندما شاهدت الناس في شوارع أستراليا. كل المارين هناك من أمامي أو بقربي كانوا يمرون بسرعة وفي خطوط مستقيمة إلى حد كبير، لم يكن الجو البارد هو ما يدفعهم لتلك السرعة، ولا أي مؤثر خارج آخر..، وتشابه الجميع في سرعة الخطوات تلك واستقامة المسالك يؤكد أنه أمر اعتيادي لدى الجميع، فالمارون في الشوارع يقصد كل واحد منهم مكاناً معيناً محددًا لديه سلفاً، فهو لا يمشي في الشارع لمجرد المشي أو التنزه أو التطفل على من فيه، بل الشارع عنده وسيلة توصله إلى قصده.. أما التنزه والترويح عن النفس فله أماكنه التي هي بكل تأكيد ليست الشوارع، نظام حتى في المشي في الشارع.. ألم أقل لكم إن هذا الشعب مجبول على النظام؟

في قاع العالم

إن كانت روسيا وكندا والدنمارك وبعض الدول الاسكندنافية تحتل قمة العالم جغرافياً, فإن أستراليا بقربها الكبير من القارة المتجمدة الجنوبية «الانتاركتيكا» تكون في قاع العالم.. ووحدها تحيطها المساحات الشاسعة من المياه من كل الجوانب، فهي قارة بوصف جزيرة وجزيرة بحجم قارة.. وهذا الوجود كان حري به أن يفرض عليها قدراً كبيراً من العزلة عن العالم، لكن التمدن الضخم الذي وصلت إليه جعل من عزلتها عن العالم أمراً مستحيلاً.. غير أن العزلة التي وجدت «أستراليا الأرض» نفسها فيها لآلاف السنين والتي نجح شعبها الجديد في القضاء عليها.. تلك العزلة ظلت كامنة فيها خفية لا يشعر بها أحد من سكانها.. لكن الزائر لها حتماً سيشعر بتلك العزلة في أروع صورها.. أو ربما كانت الصورة الرائعة تلك هي كل ما تبقى من عزلتها الماضية.. وتلك الصورة التي أتحدث عنها هو ذلك «الهدوء الطاغي» الذي تشعر به في أستراليا.. هدوء يشعرك بأنك معزول عن العالم بضجيجه وصيحاته المتعالية.. هدوء لم تقو مظاهر المدنية المتقدمة جداً في أستراليا على النيل منه وتعكير صفوه.

هدوء آسر.. يجعلك تدرك أنه ما من شيء في العالم يستحق ما نحيا فيه من ضجيج..

إن سحر هدوء أستراليا في قدرته على التسرب إلى أعماق نفسك غاسلاً كل مظاهر الضجيج فيها حتى ضجيج الأفكار والمشاعر.. ولو لم يكن فيها سوى هذا الهدوء لكان كافياً لأن يجعلها (أجمل) بلدان العالم و(أحلى) قاراته.. ولكنها كذلك به ويشعبها وكل شيء فيها.. فكيف لا أحزن وأنا أغادرها شاعراً بأنني أترك فيها جزءًا من روحي ونفسي، وأعود من «هدوء» النفس، وسكينة الروح، وروعة الحياة إلى ضجيج العالم، وتشتت الروح، واعتباطية الحياة في وطن لا يعرف إلاَّ الجنون والأزمات عنوانًا له..!!!

ولهذا أقول: لابد من استراليا مرة أخرى حتى لو كلفني ذلك مشياً على الأقدام..

*صور عن «استراليا», لاحقًا.


في السبت 13 أغسطس-آب 2011 08:51:50 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=11313