أنا الشعب زلزلة عاتية
ناجي منصور نمران
ناجي منصور نمران

كنت شغوفاً – ولا أزال- بمطالعة ما يقع بين يدي من أدبيات سواءً كانت كتباً أو مجلات أو دوريات تنشر تفاصيل المد القومي العربي والذي تراجعت حدته وزخمه برحيل الزعيم عبدالناصر رحمه الله في سبعينيات القرن المنصرم كونها تعكس بجلاء كيفية اندلاع ثورات الشعوب العربية المكلومة على الأنظمة الديكتاتورية والاستعمارية في تلك الحقبة التاريخية، وما عانته تلك الشعوب في مواجهة تلك الأنظمة.. ولكم كنت أتمنى أن عاصرت تلكم المرحلة الوضاءة من تاريخ أمتنا العربية العظيمة لما فيها من تبيان وتجلي لقدرات الشعوب على التغيير إن هي أرادت ذلك، وفرض أجندتها المناهضة للذل والهوان حتى وإن كانت في وجه أعتا الترسانات العسكرية القمعية، ولأشهد بأم عيني كيف أن الشعوب تصنع التاريخ.

ولكن بدا لي- ولكثير غيري- أن تلك الأمنيات باتت واقعاً نعيشه أيامنا هذه مع إطلالة العام 2011 والذي أعاد المشهد مرة أخرى وجعل من ثورات الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها عنواناً بارزاً لعام ميلادي جديد هبت معه رياح التغيير التي طالما طال انتظارها. عام اهتزت فيه عروش مصاصي الدماء، لذا فهو بحق عام (الزلازل الشعبية)-إن جاز لنا التعبير- والتي فاقت قوتها التدميرية الثمان درجات بل وأكثر بمقياس من نوع آخر هذه المرة يختلف البتة عن مقياس ريختر الذي تعودنا عليه لقياس الزلازل والهزات الارضية، مقياس غضبة الشعوب الحرة، غضبة شهدت تطوراً أشبه بتطور أحداث رواية تاريخية أبطالها شباب الوطن العربي الكبير، والتي بدأت أحداث فصلها الأول في تونس الخضراء وليستحوذ الشهيد البوعزيزي على لقب بطلها الأول وبلا منازع، ولتمتد أحداث فصولها المتلاحقة الثاني والثالث والرابع..إلخ لتشمل مصر، البحرين، اليمن، ليبيا، وسوريا، رواية تسرد حكاية أمة أفاقت من سُبات عميق وانتفضت شوقاً للحرية والكرامة لعلها تنفض غبار ما لحق بها من ظلم وطغيان طيلة عقود خلت، كانت أحداثها إلى وقت ليس ببعيد ضربٌ من خيال الكُتاب ونسج الرواة، كانت إلى وقت قريب مما يُعد في غياهب الأحلام بعيدة التحقق والمنال، ولكنها أضحت منذ زهاء سبعة أشهر مضت حقيقة على الأرض نلمسها جميعاً ونعيشها واقعاً، وليس ذلك إلا نتاجاً طبيعياً للسياسات الخاطئة التي دأبت على ممارستها الأنظمة المستبدة والمتلاعبة بمقدرات وخيرات الأمم والشعوب، علاوة على التوغل البوليسي في حياة الناس، وتفشي سرطان الفساد الذي أتى على الأخضر واليابس، ولهذا فإن المد الثوري الذي اتقدت جذوته بتونس لتتبعها العديد من البلدان العربية أصبح مرشحاً وبقوة أن يهز وبلا هوادة عرش كل ديكتاتور وطاغية قطع على نفسه عهداً إلا أن يتشبث بتلابيب كرسي الحكم مهما كلفه الثمن وألا يتنازل عنه إلا إذا تقاعد على يد عزرائيل بعد انتزاع روحه بمشيئة الله، وياليته يفسح المجال لغيره بعد موته ولكن تجده قد أعد خليفته وولي عهده "النجل الأكبر حفظه الله ورعاه" ليواصل ما بدأه سلفه من تعسف وظلم واستبداد.

ولكننا نقولها وكلنا فخر بما حققه شباب هذه الأمة أن ذلك أصبح محالاً لاسيما بعد اندلاع شرارة الثورة التونسية والتي دقت نواقيس الخطر على هؤلاء المستبدين، وكسرت حاجز الخوف لدى الشباب العربي الذين يسطرون أروع الدروس النضالية التي أرعبت العدو قبل أن تُبهر المحب للسلام والمتطلع للحرية، في المقابل فإنه من البديهي بل وليس من المستغرب أن كانت ردة فعل الأنظمة العربية المغضوب عليها بحجم الحدث وهي التي تعي جيداً حقيقة وضعها أمام شعوبها فتجد منها من سارع بضرب إبر مخدرة هنا وهناك تعودت على استخدامها كلما حلت بها الملمات اعتقادًا منها أن ذلك سيجدي نفعاً في إخماد الانتفاضات الشعبية، فتجدها تارة تبادر برفع المرتبات والأجور وتنهال بالمكرمات والهبات والعطايا على المواطنين، وتارةً أخرى تعمد إلى إقالة حكوماتها القائمة محملة إياها أوزار أخطائها وهفواتها، ومنها من تعامل بكرم منقطع النظير مع أفراد شعبه فذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بعد أن أدرك عدم جدوى وفاعلية تلك الحقن المهدئة وآثر أن يعقد العزم على استئصال ما يروج له هو وأعوانه من أنه ورم خبيث ينبغي استئصاله مبكراً قبل استفحاله بمبضع جراح نُزعت من قلبه الرحمة ولا يهم حتى وإن كان ثمن نجاح تلك العملية روح ذلكم المريض وكل ذلك في سبيل البقاء على سدة الحكم أطول مدة، وليس أدل على ذلك مما يرتكبه النظام السوري بحق شعبه من مجازر يستنكرها كل العالم جراء استخدامه القوة المفرطة، وما ارتكبه نظام العقيد القذافي بحق الشعب الليبي والذي ما وهنت عزيمته ولا انكسرت شكيمته أمام ضربات كتائب العقيد المجنون ومرتزقته ليتوج ثورته المباركة بدخول العاصمة الليبية طرابلس معلناً بذلك بداية عهد جديد لهذا البلد الشقيق الغني بموارده البشرية وثرواته الطبيعية، وكاشفاً الغطاء في ذات اللحظة عن هشاشة نظام أقل ما يمكن أن يُقال عنه أنه ديكور من الورق سرعان ما تتهاوى أعمدته الضعيفة بمجرد تعرضها لأدنى موجة ريح ،وليذكرنا بما حصل مع النظامين البائدين في كل من تونس ومصر من انهيار سريع، إلا أن ما عكر صفو ذلك الانتصار الليبي من وجهة نظر الكثيرين ونحن نشاطرهم إياها أن جزءاً من تلك الرياح التي سرعة بسقوط نظام العقيد كانت غربية تسوقها وتحركها مطامع اللاهثين خلف الذهب الأسود والتي كنا نتمناها ليبية عربية خالصة، ولا يزال يحدونا الأمل أن لا يتكرر ذلك التدخل الأجنبي مرة أخرى في أي بلد عربي آخر..

فهل يا تُرى سيستوعب ويعي من تبقى من الحكام العرب الدروس المتتالية التي سطرتها ثورات الشعوب العربية الحرة في كل من تونس، مصر، وأخيراً ليبيا، وأن كل ما يرتكبونه من أفعال مشينة بحق شعوبهم تأتي في الوقت بدل الضائع، في الوقت الذي استفحل فيه الداء وبلغ السيل الزبا كما يُقال، في الوقت الذي لم تعد تنفع فيه أنصاف الحلول..

فلتمضي قُدماً أيتها الشعوب المنتفضة وليبارك المولى عز وجل هبتك المباركة.. وإلى لقاء قريب نشهد فيه هزة جديدة تنبئ بسقوط عقيد آخر أو ربما مشير، وحتى ذلكم الحين أترككم بمعية الله ورعايته، وعيدكم مبارك وكل عام والجميع بخير وعافية.


في الإثنين 05 سبتمبر-أيلول 2011 06:02:26 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=11502