اللاعبون خلف الثورة اليمنية
إسماعيل عبد الحافظ
إسماعيل عبد الحافظ

من الخطأ الانسياق وراء بعض التحليلات السياسية التي تعيد الثورة اليمنية إلى مربع ثورات الربيع العربي، ذلك لأن الكثير من المحللين وجدوا أنفسهم أمام حماس التحليل للواقع اليمني في الوقت الذي طفت على السطح الثورتين العربيتين في تونس ومصر، ولم يكونوا – ربما - على معرفة كافية بما شهدته اليمن من نضالات ثورية مستمرة طيلة الثلاثة والثلاثين عاماً من عمر النظام المستحكم في اليمن، شملت مناطق يمنية مختلفة، وكانت في معظمها نضالات مسلحة وأخرى سلمية، وجميعها تعمل من أجل هدف واحد، وهو إسقاط نظام علي صالح وعصابته، تأتي في مقدمتها تلك المواجهات الشرسة في المناطق الوسطى المحاذية للشريط الحدودي السابق بين الشطرين الجنوبي والشمالي، والتي استمرت قرابة عشر سنوات، تلتها المظاهرات الشعبية السلمية التي واجهها النظام بالقوة المسلحة البغيضة في 93، 97، وغيرها من المظاهرات والاعتصامات حتى وقت قريب، وكان من بينها وأبرزها تلك التي قادها الحراك الجنوبي السلمي، و قد راح ضحيتها مئات الشهداء وآلاف المصابين والمعتقلين اللذين تتم عادة فبركة التهم الجنائية ضدهم، وتستدعي إنتاج أحكام قضائية جريئة تؤدي إلى تغيب الكثيرين عن الساحة السياسية. ناهيك عن الحرب الغادرة في صيف 94، التي اجتاحت فيه جحافل الجيش الشمالي والمنتقمون الجنوبيون من الأحداث السابقة في الجنوب، وكانت قد أدت إلى نزوحهم الى الشمال على مراحل، ابتداء من جيش جبهة التحرير، وجيوش الكنتونات الصغيرة – المشيخات والإمارات التي تم القضاء عليها فور إعلان الاستقلال في الجنوب اليمني 1967- وانتهاءً بالقوة الضاربة بقيادة الرئيس السابق علي ناصر محمد، واللواء عبد الله علي عليوه، واحمد مساعد حسين، والبطاني، وعبد ربه منصور هادي الذي قاد الجيش الموحد ضد الجنوب كوزير دفاع في هذه الحرب التي أوصلته فوراً إلى منصب النائب لعلي صالح، واستمر منذ ذاك حتى اليوم دون منازع.

 هذه الحرب – 94- لم تكن وليدة المبررات الظاهرة والمعلنة قبلها وأثناءها وبعدها، بل كان قد رتب لها علي صالح ترتيباً خبيثاً مع إطراف داخلية وإقليمية ودولية سبقتها بسنوات، بدأت بالاتفاقيات الشخصية بينه وبين أركان النظام الجنوبي في الفترة التي سبقت مجزرة 13 يناير 86 في عدن، وكانت تلك الاتفاقيات سبباً رئيسياً ومحورياً فيها. وصولاً إلى الحروب الستة المتوالية على صعده، والحروب المتقطعة على مأرب وشبوة وأبين تحت مبرر مطاردة القاعدة، وجميعها حروب غادرة الهدف من ورائها تكميم الأفواه الرافضة لهذا النظام القابض على السلطة بالحديد والنار.

إن الأحداث الرائدة في اليمن؛ الهادفة إلى الإطاحة بنظام علي صالح طيلة العقود الثلاثة الماضية لم تكن محل إبهار للمحللين العرب والأجانب؛ لأن اليمن في نظر الكثيرين ليست محوراً في تحريك الأحداث على الساحة العربية، بل إنها مازالت مجرد تابع لمحيطها الإقليمي الفاعل، وهو ما استطاع نظام صالح تكريسه في ذهنية الفاعلين السياسيين في الخارج، تحت مبرر أن اليمن دولة فقيرة وشحيحة الموارد وتشكوا البطالة والتخلف. وقدم اليمن كغابة حالكة السواد، لا يقبل التطور أو التعايش مع غيره من مجتمعات وشعوب العالم.

 لهذه الأسباب وغيرها يكون المحللون قد أخطئوا في التعامل مع الثورة اليمنية في اعتبارهم لها امتداد لثورات الربيع العربي، وليست في طليعتها، كما أن استمرار الثورة طيلة الشهور الثمانية الماضية قد أصابت هؤلاء برؤية ضبابية جعلتهم في موضع تناقض حول النتائج التي يمكن أن تحققها الثورة؛ على الرغم من أنها أضحت في نظرهم ثورة مطلبية حقيقية، لا شك في حتمية نجاحها المتمثل بإسقاط النظام الدموي سلمياً، وقد استطاعت تحقيق الشيء الكثير في هذا الاتجاه، يأتي في مقدمتها خروج الرئيس من قيادة الملعب السياسي المباشر على الساحة الوطنية، وبقائه في وضعه الراهن مجرد اراجوز مشوه وعاجز كلياً عن أي فعل سياسي، وتظل إطلالاته على الشاشة الوطنية بين الحين والأخر لمجرد وهم البقاء ليس له كلاعب سياسي، وإنما لأولئك الذين مازالوا يجدون في إطالة أمد الثورة اليمنية شيئا مهماً لأوضاعهم السياسية، واستراتجياتهم التي بدأت ملامحها تظهر بجلاء لليمنيين على مختلف أطيافهم السياسية، ومستوياتهم الفكرية والثقافية.

إن استمرار أمد الثورة التي يتزايد الالتفاف الشعبي من حولها كل يوم دون أن تصل إلى هدفها في إسقاط فلول نظام علي صالح؛ يعني أن هناك أموراً مازالت غامضة على الكثيرين، وأن هناك سيناريوهات لا يمكن إهمالها، ويستميت أصحابها من أجل جعل الثورة تسير في مسالكها، وهدفها استثمار المد الشعبي الواسع لهذه الثورة واستثمارها على المدى القريب والمتوسط والبعيد، ولعل أهم هذه السيناريوهات هي تلك التي تأتي من الداخل، وتحديداً من اللاعبين اللذين انظموا للثورة في وقت كانت فيه قاب قوسين أو ادني من تحقيقها للنصر بدونهم، بل أنهم كانوا في الطرف المقابل للثوار وهدف من أهم أهدافهم، وكان إنظمامهم في البدء تحت مبرر حماية الساحات من بطش السلطة المسلح - واقصد بهؤلاء الضباط المنضمون للثورة وفي مقدمتهم اللواء علي محسن الأحمر، وعدد من الزعامات القبلية والدينية التي تدين له بالولاء، باستثناء أولاد الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر اللذين يمثل انضمامهم للثورة بوعي مختلف – إن هؤلاء الضباط بدءوا أبالانضمام للثورة، ثم التسلل تدريجياً إلى أن يكونوا هم في صميم القرار الثوري الفاعل، على الرغم من أن حماية الساحات كان محتماً عليهم كقادة للجيش المفترض أن يكون وطنياً، ويقوم بواجباته المناطة به في حماية الشعب دون أن يضع هؤلاء القادة لأنفسهم الأهمية القصوى والأولوية ليكونوا أرقاما مهمة في المعادلة السياسية للثورة السلمية.

إن أهم السيناريوهات الهادفة إلى تأجيل أمد الثورة تأتي من هؤلاء، ويتضح ذلك جلياً من كونهم - عملياً - قادرون على تحقيق الحسم النهائي للثورة بأقل التكاليف البشرية والمادية، وبأقل وقت ممكن، إلا أنهم لا يريدون تحقيق ذلك في الوقت الراهن، ولا في الوقت القريب؛ وربما حتى في الأمد البعيد؛ لأن الأصل في حساباتهم تتمثل في استثمار هذا الزخم الشعبي وتزايد امتداده على الساحة الوطنية، وكلما زادت التضحيات - سواء في أعداد الشهداء والمصابين في الساحات وفي المدن والقرى، وتزايد أعداد المطرودين من وظائفهم، وتوقيف مرتبات عدد كبير من الموظفين والعاملين في أجهزة الدولة تحت مبرر ارتباطهم بالثورة الشعبية، وتعطيل حركة الحياة بشكل يكاد أن يكون كلي، ناهيك عن السيناريوهات المبدئية للحرب الأهلية التي بدأنا نشهد بعضاً من مشاهدها الدموية في تعز والحصبة وأبين وأرحب، متزامنة مع تزايد حدة الأصوات الداعمة للانفصال - كلما زاد الإصرار الشعبي على ضرورة نجاح الثورة، كلما وجد هؤلاء القادة في المقابل أنهم استطاعوا إقناع الإرادة الشعبية بأهميتهم كأشخاص في إدارة الثورة وضرورة بقائهم في صف الشعب من أجل تحقيق الحسم الثوري الذي لن يتحقق بدونهم.

إن هؤلاء القادة بإيجاز، ووفقاً لكافة المعطيات قادرون على تحقيق الحسم الثوري والانتصار لإرادة الشعب، إلا أنهم لا يجدون في السرعة مرفأًً أمناً لهم أنفسهم. ليس من بقايا النظام اللذين لم يعودوا لديهم الحد الأدنى من مؤهلات القوة والبقاء، وإنما تأتي خشيتهم مما هو متداول في أوساط غالبية الثوار اللذين مازالوا يجدون الريبة والشك الكبيرين من انضمامهم للثورة، وهم مازالوا في نظرهم من اكبر المدانين في الحروب البشعة في كل المناطق اليمنية على مدار الثلاثة والثلاثين عاماً الماضية؛ ويعون أن كل ذلك لا يمكن تجاوزه أو شطبه أو إلغاءه من صفحاتهم مهما كانت مبررات مواقفهم الراهنة؛ لهذا فإن هؤلاء القادة يجدون أن السرعة في حسم الثورة يعتبر تسرعاً من المؤكد أنه سيلحق ضرراً مباشراً بهم، ذلك لأن النظام عملياً قد سقط إلى غير رجعة، ولم يتبق إلا السيطرة على الإرادة الشعبية الثائرة، والاختفاء ورائها لتكون هي المبرر لبقائهم دون مسائلة من أحد، وتكون الثورة بذلك قد جبّت ما قبلها.

وفي نفس الاتجاه يقف لاعبون يؤدون الدور نفسه، وفي ذات السيناريو المتصل بالضباط المنضمين للثورة، وهم ذلكم المتصلون بهم اتصالاً لا يقبل التجزئة من داخل بقايا النظام، ومن داخل المعارضة في الداخل والخارج، ولا يمكن إغفال دورهم في ترحيل الحسم الثوري، والحيلولة دون الوصول إلى نتيجة ثورية ملبية لإرادة الشعب، فهم يخشون من التسريع في الحسم ما لم يكونوا هم الظاهرون على الواجهة، ويشكلون رموزاً لها، وهم ذلكم الذين يلعبون بورقة الانفصال ومشروع الحرب الأهلية القادم إذا لم يكونوا هم الفاعلون في مستقبل اليمن، وهم الشركاء الجنوبيون مع النظام - خلال العقدين والنصف الماضيين- في كل الأحداث السياسية والعسكرية، ولا يمكن أن ينفصلوا عن القادة العسكريين والسياسيين المشار إليهم؛ لخشيتهم أن يكونوا جميعاً في سلة واحدة أمام الشعب في حال نجاح ثورته وتحقيقه للدولة المدنية الحديثة؛ لهذا يجد المطلع على ساحات الحرية والتغير، وخاصة ساحة التغيير في العاصمة صنعاء هو تزامن إعلان اللواء علي محسن الأحمر تأيده السلمي للثورة السلمية مع رفع صور الرئيس السابق علي ناصر محمد، على الرغم من أن هذا الأخير يدرك أنه مهما بالغ في تصريحاته، أو ظهوره السياسي في هذا الوقت، أو من قبل أو بعد؛ فإن كل أدواره لم تعد ذا قيمة تهم الثوار أو حتى الحراكيين الجنوبيين؛ لأن المسالة بالنسبة له مسألة جنائية راحت فيها ألاف الضحايا من الابريا من أبناء الشعب ولا يعني انغماسه في الثورة أن الثورة ستعطيه عفواً على بياض.

من هذا كله يتبين للمطلع أن الثورة اليمنية قد حققت أهدافها في إسقاط النظام ولم يتبق إلا العبثيون الساعون إلى الوصاية والنفوذ عليها من خلال خلط الأوراق على حين غفلة من الناس، والعمل على ترميز الزخم الشعبي الثائر بوجودهم ضمنه؛ ليتمكنوا من إحراق دفاترهم العتيقة، والاغتسال بدماء الشهداء والضحايا.

إن هذه السيناريوهات هي الحقيقة الغائبة على المحللين لواقع الثورة اليمنية التي أسقطت النظام، ولكنها وقعت في شراك تاريخه، الذي راكم شخصيات بوجوه وألوان عديدة، وجدت نفسها في خطر فأجادت سياسة القفز إلى الأمام، والتلاعب بعواطف الشعب، من خلال الانضمام المخاتل للثورة، والعمل ترحيل حسمها ما أمكن، وليس أدل على ذلك من أنها عملياً أضحت محدودة في حدود الصلوات الخمس في اليوم والليلة داخل الساحات، وبحدود الحشد لصلوات الجمعة من أجل الدعاء، والتفاخر بالكم الخالي من الانجاز الثوري المطلوب؛ لأن هذه الشخصيات - بصنوفها المشار إليها - غير مستعدة على التعايش مع غيرها في اطارالدولة اليمنية الحديثة، وليس لديها ما يؤهلها لذلك.

القيادات الثورية الشبابية في مختلف الساحات مما لاشك فيه تقف على ذلك بوعي وإدراك شديدين، وتمثل ذلك باستمرار الصمود في وجه بقايا النظام، وهو ما يستدعي في الأخير ضرورة الوصول إلى قناعة ثورية شبابية واضحة تتضمن التقرير بدعوة الجيش اليمني إلى عدم التوقف عند حدود البيان العسكري رقم واحد، والغياب الكامل عن واجبه الوطني في تحمل مسؤولياته الوطنية المتمثلة في وضع الخطط الكفيلة بإنهاء حالة اللاحسم الراهنة، خلال مدة زمنية محددة، وحماية المناطق التي تتعرض للضرب من قبل قوات النظام، وتلك المهددة بالضرب، وعدم التعويل على القوات القبلية في الدفاع عن نفسها؛ لأن الجيش الوطني هو المعول عليه حماية المواطنين. ما لم فعلى الشباب تصحيح مسار ثورتهم بإلزام أفراد الحماية بالخروج فوراً من محيط الساحات، مع دعوة المنظمات الدولية الإنسانية لتوفير الحماية المدنية للثوار من المتطوعين المدنيين؛ ليكونوا سنداً حقيقياً لهم في قراراتهم الثورية السلمية، دون الحاجة إلى البقاء في إطار مشاهد في سيناريوهات تتجه بالثورة والإرادة الشعبية نحو تحقيق مالا يراد تحقيقه، وما هو ليس من الثورة، والثورة منه بريئة.

Semael2009@hotmail.com


في الأحد 11 سبتمبر-أيلول 2011 08:53:39 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=11567