الجنوب والحراك... صراع خفي
د.عبدالباري باكر
د.عبدالباري باكر

عاش الجنوب مأساة لـ129 عاما تحت الاحتلال البريطاني بكل ما تعنيه كلمة احتلال وأكثر قليلا، ثم نال الجنوب استقلاله وتكونت دولته المستقلة لـ23 عاما، عانا خلالها الجنوب أرضا وإنسانا صنوف شتى من القمع والإقصاء والتصفيات، تلا ذلك دخول الجنوب في الوحدة لـ22 عاما، تعرض خلالها لشتى أنواع النهب والإلغاء والتهميش والظلم إلى يومنا هذا.

هذه الأحوال التي مر بها الجنوب ترسم لنا معالم الآلام التي لازالت تنزف مظلومية وتتوق لسماع كلمة حق وتطرب لعدل تحلم به وترجوه، وكأن أسم الجنوب مرادف لدوام المعاناة،من رحم تلك المعاناة برز إلى السطح صوتا يرتفع رويدا رويدا على استحياء مطالبا بعدالة اجتماعية ووضع حد للظلم وإنها الإقصاء، وما لبث هذا الصوت أن يتسع ويجد آذانا تصغي له فكبر ونماء في ظل استخفاف حكومي من النظام السابق لمطالبه وحجمه، من هنا تبلور تكوين ما يسمى بمكونات الحراك الجنوبي، مناديا وبصوت جهوري بحل سلمي وعادل للقضية الجنوبية، مدافعا عنها وراسما معالم التغيير السلمي لقضية عادلة، رغم كل القمع والبطش الذي ناله من النظام إلا أنه لم ينحرف عن منهجيته وخطه الاستراتيجي وهو "السلمية"، كسب تعاطف الكثير وخاصة من أبناء الجنوب حتى تيقنا كما يقول مالكوم إكس أن "المستقبل ينتمي إلى هؤلاء الذين يعدّون له اليوم"، ومع الزخم الشعبي بدأت تدب الخلافات بين قيادات الحراك لأسباب موضوعية وغير موضوعية وإذا بنا نُفاجأ بقيام سبة مكونات للحراك وثلاث قيادات مركزية، كل منها يكيل للآخر تُهماً، وهذا ما افقده جزء كبير من الالتفاف الشعبي.

قامت الثورة الشبابية الشعبية مستلهمة نضالات الحراك وسائرة على سلميته، فانخرط الحراك الجنوبي في خضمها، وكانت دلالة واضحة منه على نقاء الرؤية وصدق المقصد ، مستلهما مقولة جورج واشنطن " أرجو أن أتمتع دائما بالعزم والفضيلة الكافيين لكي أحافظ على أكثر الألقاب التي يحسد المرء عليها وهو لقب إنسان شريف"، وهذا التوجه أزعج بعض القيادات المحسوبة على القضية الجنوبية فعملت جاهدا لمحاولة فك ارتباط الحراك عن ثورة الشباب، وبجهد مضني تمكنت من التأثير على بعض مكونات الحراك وأفراده، إشباعا لرغباتها الذاتية بعيدا عن القضية العادلة.

إن الأحداث الأخيرة التي حدثت وتحدث الآن في الجنوب بداية من طمس مدنية عدن الجميلة وما تخللها من اقتحام المجمع الحكومي بالمنصورة وإحراق الساحة في كريتر، وفي المكلا وزرع عبوات ناسفة في لجان انتخابية كما حدث بالشيخ عثمان والبارحة في خور مكسر، وكذلك ما حدث اليوم في شبوة بمجمع السعيد التربوي من تخريب واقتحام مسلح وإقامة نقاط تفتيش ومحاولة منع دخول صناديق الاقتراع بحجة أن الجنوب مقاطع للعملية الانتخابية، كل ذلك يحدث بسبب التشنج الخطابي والتحريضي من قبل بعض قيادات الحراك السياسية والميدانية، تلك القيادات تنفي صلتها بأحداث العنف مع استمرار خطابها التحريضي ألاتهامي المتشنج!!! تحت شعار "يجب منع الانتخابات بأي وسيلة"!!!!، كل هذه مؤشرات سلبية توحي بالتخلي عن السلمية واللجوء لوسائل العنف والتخريب، في محاولة منها لفرض وصايتها على الجنوب وأهله، ومحاولة مصادرة حق الناس في الاختيار، وهذا يرسل إشارات واضحة أن تلك المكونات عجزت عن إقناع الناس ولا تملك أدوات الإقناع لذلك اختارت الفرض بالقوة، متناسية في الوقت ذاته أننا نعيش 2012 وليس 1969 أو 1978 أو 1986، فليس كل ما يدور في ذهنك فكرا...فربما يكون قملا.

الحراك بعد أن ألهمنا السلمية والنضال العادل متماشيا مع قول فولتير "مهما اختلفت معك، سأدافع عنك إلى آخر رمق في حياتي حتى تعبّـر عن رأيك بكل حرية"، إذا به ينكث ويسير عكس عقارب الزمن على درب الماكيافيللية – الغاية تبرر الوسيلة- المقيتة، إن الرفض بالقبول بالرأي الآخر في هذه المرحلة تبعث رسائل سلبية غير مطمئنة لما هو قادم، فالجنوب يتسع للجميع ومن حق أبناءه أن يُعبّروا عن قناعاتهم واتجاهاتهم المختلفة دون وصاية أو إقصاء أو إلغاء، فتوقفوا عن العبث بدماء الناس، واتركوا استفزازهم وتخلّوا عن التعالي، وإن لم تفعلوا فنتاج ذلك سيكون كارثيا على الجنوب أولا.

مع هذا التغيير الواضح لمنهجية الحراك بحثت وقرأت أفكار وأبحاث وتحاليل كثيرة، عن أسباب هذا التغيير، ولم أجد مبررا أو سببا واحد يساعد على الإقناع، وخلاصة ما وصلت له هو أن الجنوب قضية عادلة ولا أحد يستطيع أن يزايد على ذلك ولن يسمح لأحد بتنصيب نفسه حامي الحمى، وأن من سار في درب العنف والقوة يرسل رسالة واضحة وجلية بأنه يخاف أن يدلي الناس بأصواتهم فينفضح وينكشف أمره ويُعرف حجمه الطبيعي وتواجده المحدود، وأن هنالك في الجنوب شعبا وليس مجرد حراكا أو مكونا سياسيا، والحقيقة وحدها ستبقى، كل شيء آخر سيختفي، سيختفي بمرور الزمن.


في الإثنين 20 فبراير-شباط 2012 10:15:32 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=13939