جمعة الكرامة ... و لن ننسى
د. هشام المعلم
د. هشام المعلم

جمعة الكرامة 18/3/2011, وردة النار التي لازالت تختمر الذاكرة, كانت ولازالت حرقة و انتشاءه.

و بما أن الوقت لا ينتظر فلن نسكت سنوات كما كان يفعل آباؤنا في سرد شهاداتهم عما أدركوه من أحداث تاريخية هامة في حياتهم ,و لن ننسى.

لم تكن أول اعتداء على مسيرة الشباب الثائر ضد نظام صالح المغتصب للحكم منذ أكثر من 33 سنة فقد سبقها الكثير من الاعتداءات على المعتصمين الذي كان أهمها ذلك الذي وقع في فجر يوم الثلاثاء 15/3/ 20011 ,و لم تكن الأكثـر من حيث عدد الشهداء و الجرحى و لكنها كانت الأكثر تأثيراً في مسار الثورة اليمنية والأكثر غموضاً بتواطئ الكثير حتى الآان رغم وقوع الحدث في رابعة النهار ورغم غزارة شهودها سواءاً المتواجدون في موقع الحدث أو من كانوا يشاهدون النقل الحي المباشر عبر وسائل الإعلام المختلفة

كانت ولازالت الحدث الذي زلزل عرش صالح إن لم نقل أنها اقتلعته , و لولا تكالب من لا يريدون لهذا الوطن الأمن والأمان و السلامة والرخاء لكانت لوحدها نهاية مأساتنا, و ثمن باهض لما نرجوه من نجاح ثورتنا.

يومها كنت هناك حاضر لصلاة الجمعة في الساحـة كما أصبحت العادة طوال سنة الثورة الأولى التي انبعثت وأنا في صنعاء و لأداء واجب تحتمه عليا مهنتي كطبيب قبل أن أكون مناصراً للثورة أتواجد في المستشفى الميداني حين تستدعي الحاجة لذلك مثلي مثل مئات الأطباء والممرضين وطلاب العلوم الصحية و المتطوعين لبوا نداء الواجب الإنساني و الثوري .

كان خطيب الجمعة في ذلك اليوم هو الأستاذ/ فؤاد الحميري ,تكلم طويلاً عن الساحة و شبابها و أهميتها و قدرتها على انتزاع صالح من على كرسيه و من أنه يرى للكوثر طريقٌ عبر هذة الساحة \" و هي من الجمل المؤثرة التي علقت في ذاكرتي و عرفت مدى تأثير الكلمة على جموع المحتشدين بعد ذلك في تدافع الشباب تجاه الحواجز غير آبهين بما يتصدى لهم به أنصار النظام السابق\" و كلام غيره كثير ألهب جموع المحتشدين الذين توجهوا كما هي العادة باتجاه أطراف الساحة بعد نهاية كل جمعة و لكن في هذه المرة كان التربص بهم مختلف عن كل ما سبق , فقد كان أنصار النظام المخلوع قد وضعوا حواجز اسمنتيه في الشوارع المحيطة بالساحة لمنع توسع الخيام و حصر الثوار في مربعهم الصغير حد الاختناق.

و كان قد سبق ذلك بأيام تسريبات و إشاعات أثبتت جمعة الكرامة صحتها من أن النظام نشر بلاطجته في محيط الساحة و وزع كميات من الأسلحة لهم و بدأوا بالفعل في بناء حواجز و متارس بين البيوت و في شوارع الحارات الضيقة .

توجهت الجموع صوب الحواجز الإسمنتيه القاطعة لشارع االعـام بالدائري لتكسيرها و هنا حدث أكثر مما كان في الحسبان , بدأ أنصار النظام بإشعال اطارات السيارات من خلف الحواجز حتى عمي على المتواجدين في الساحة إمكانية رؤية البلاطجة المتمترسين خلف الحاجزو بدأ التراشق بالحجارة ليتبعه إطلاق نار كثيف و موجه مباشرة صوب الشباب

وابتدأ تساقط الضحايا منهم وهم يصرون على التقدم و اقتحام خط الاسمنت و النار و النيران.

و رأينا شبابنا وهم يتساقطون كالفراش أمام أعيُننا وتحت وقع تلك الأعيرة النارية التي كان من الواضح أنها ليست لمجرد التخويف أو الردع و لكنها جاءت لغرض القتل والإعاقة فقد كانت موجهة كما أسلفت مباشرة الى الرؤوس و الأعناق و الصدور و الأطراف السفلية , قتلٌ متعمد مع سبق الإصرار.

توجهت على الفور إلى المستشفى الميداني, كنتُ يومها أصطحبُ إبني الصغير محمد \" عشر سنوات وليتني لم أفعل به هذا فما رآه داخل المستشفى تجربة مريرة لا أظن أنه سينساها ما حيي \" .

وبدأ وصول المصابين و الشهداء بشكل متسارع و متتابع الى المستشفى الميداني الذي كان يومها لم يتوسع بالشكل الذي هو عليه الآن , لأن حرم المسجد لم يكن وظف بعد كقسم للرقود و استقبال المصابين و كانت هذه الجمعة هي الأولى التي امتلأ بها مبنى المسجد و ساحته الخارجية بهذا الكم الهائل من الشهداء و المصابين بالأعيرة النارية , و قلة لا تكاد تذكر من المختنقين بالغازات حيث أنها لم تستخدم يومها كثيرا ,فالهدف هذة المرة لم يكن الترويع و فض اعتصام فقط وإنما القتل و الإعاقة .

حدثت جمعة الكرامة بعد التزام صالح أمام شاشات التلفزيون بحماية المعتصمين من قبل الأجهزة الأمنية ضد أي اعتداء , و كالعادة ما إن يصرح بشئ حتى يحدث العكس تماماً , بقيت أفراد الأمن المكلفين بحماية الساحة موقف المتفرج بزيهم الرسمي .

نقل وتخبط وارتباك وصرخات ألم عالية وآهات مكتومة و دموع و تصميم عجائبي من قبل الشباب أذهل كل المتواجدين و المتابعين , حيث كان المصابين في المستشفى يصرون على عودتهم إلى خط المواجهة ,خصوصا من نكب بسقوط أخٍ أو عزيز عليه بين يديه.

سقط أكثر من خمسين شهيداً و خمسمائة جريح في أقل من ثلاث ساعات ,أعمارهم مختلفة تتراوح بين الـ 16 و الـ35 تقريباً من كل المحافظات و الطبقات و المهن.

تعرفنا على كثير منهم قبل الواقعة كانوا شباب مفعمين بالحيوية و ضحكاتهم كانت تملأ الساحة و صيحاتهم تسمع في كل مكان يتنقلون في الساحة من مكان إلى آخر لأداء واجبهم الذي اختاروه لأنفسهم و الذين وجدوا أنفسهم فيه.

إطلاق النار كان واضح المصدر من فوق العمائر والبيوت المطلة على الشارع و تمكن الشباب من إلقاء القبض على عدد ممن كانوا يطلقون النار و اقتحموا بعض البيوت التي يأتي منها الطلق الناري

و استطاعوا الحصول على الكثير من الوثائق و الملفات التي قالوا لنا في حينها أنها تتضمن مخططات و الأوامر التي بموجبها تم الإعداد للمجزرة ,و تم التحرز على معظمها إن لم يكن كلها لاحقاً من قبل اللجان الأمنية , حتى أنه تم لاحقاً تجميع كل الوثائق و استعادتها من بعض الشباب الذين احتفظوا ببعضها.

جمعة الكرامة لفتت أنظار العالم إلى الثورة اليمنية و أقنعت الجميع بأن ما يحدث في الساحة اليمنية لم يكن مجرد اعتصامات صغيرة تديرها المعارضة ضد صالح \" كما كان الإعلام الرسمي في حينها و نظام صالح يروج للأمر\" و إنما ثورة حقيقية من شعب يتوق للتحرر من النظام الجاثم على صدره لعقود و أنه على استعداد تام لبذل أغلى ما يمتلك و هي الروح من أجل تحقيق هدفه في الحصول على الحياة الكريمة التي يستحقها.

تزلزلت الأرض من تحت أقدام صالح الذي لطالما ظن أنه خالدٌ على كرسيه لن تطاله عدالة أرض و لن تتخلى عن مساندته سماء حتى هم بالتوريث للعرش.

تجرد نظام صالح من الكثير من مراكز قواه بالاستقالات المتتالية من عسكريين و سياسيين و وزراء و نواب كانوا طوال فترة حكمه تحت مظلته و في عباءته , و ارتفعت الأصوات الدولية المطالبة برحيله.

و بدأت بعدها المبادرات و الحوارات التي حاولت تمييع حقيقة الثورة و تحويلها من ثورة شبابية شعبية عارمة في كل أرجاء الوطن الى مجرد أزمة سياسية بين نظام حكم و معارضة.

و الآن وبعد مرور سنة على هذا الحدث التاريخي,لازالت كل التساؤلات لم تجد الإجابة الشافية لشهداء و ذويهم و لا لشباب الثورة و مطالبهم.

فلا نتائج للتحقيقات , و لا نشر للوثائق و الصور والتسجيلات و محاضر جمع الاستدلالات و لاسماع للمتهمين الذين تم إلقاء القبض عليهم يومها , و لا إيضاح للسبب الذي من أجله تم إقالة النائب العام الأسبق/ عبدالله العلفي.

تبقى شواهد قبور شهدائنا شاهداً تاريخاً على هذة المؤامرة البشعة التي تعرض لها شعبنا العظيم الثائر.

لا أحد يمتلك حقيقة ما حصل يومها كاملة وكلاً سيرويها من زاوية الرؤية التي كان يحتلها ساعة حدوثها , و لكن الجميع بمن فيهم صالح و نظامه و أنصاره يجمعون بما لا يدع مجال للشك أن جمعة الكرامة هي اليوم الذي غير مسار التاريخ في اليمن.


في الأحد 18 مارس - آذار 2012 04:41:14 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=14613