الكرامة فتح الثورة في جدار الصمت والظلم
د. محمد البنا
د. محمد البنا

خلال الأيام التي سبقت مجزرة الكرامة, تم بناء عشرات الجدران العازلة في الشوارع ومداخل الأحياء المحيطة بساحة التغيير لمحاصرتها من جميع الجهات, وكان أكبرها الجدار الذي قسم الشارع الدائري الغربي إلى نصفين. ومن أهم ما يميز ذلك الجدار هو طريقة بنائه الخاصة التي تمت على واجهتين تفصل بينهما عدة سنتيمترات مليئة بالخرسانة المسلحة, واستخدام الطوب الصم بطريقة عرضية في الجهتين لتزيد من سماكة الجدار وتحمي الخرسانة, حتى صارت ساحة الاعتصام محاصرة تماما من كافة مداخلها. وقام الأمن القومي مع مسلحين بإخلاء المنطقة الواقعة في الجهة الأخرى للجدار العازل من كل مظاهر الحياة وإغلاق المحال التجارية فيها, إضافة الى ترحيل عدد من الصحفيين الأجانب.

في عصر يوم الخميس السابق لجمعة الكرامة التقى صالح مع عدد من أعوانه الإعلاميين والمقربين, ومساءً التقى ببعض قيادات المشترك يوهمهم بأنه يسعى الى الخروج بحل يجنب البلاد إراقة الدماء, لكنه وجه بانسحاب قوات الأمن المركزي التي كانت منتشرة خلف الجدار وفي الأحياء والشوارع المجاورة للساحة إلى جولة كنتاكي, وقطع التغطية عن الهواتف النقالة في المنطقة بشكل كلي، ووضع أجهزة تشويش خاصة لعزل المنطقة بشكل كامل.

بعد نهاية جمع صلاتي الجمعة والعصر ابتدأت ساعة الصفر بإحراق إطارات سيارات خلف جدار العزل تصاعد منها أدخنة سوداء، وأطلق بعدها نجل محافظ المحويت، علي أحمد علي الأحول، رصاصة البدء الأولى من بين أعمدة الدخان التي امنت للقتلة التستر خلفها وحمتهم من كاميرات التصوير، فبدأ تساقط الشهداء والجرحى، وتخضبت صنعاء بدمائهم الزكية, واستمرت المجزرة لثلاث ساعات متتالية دون توقف.

لم تعرف اليمن جمعة كـجمعة الكرامة أبكتها دما اسقط صالح وعائلته ووضع حدا فاصلا بين شرعية ثورة الشباب السلمية وشريعة القتلة, فقد كانت الصور التي تنقل المأساة تشير الى جريمة كبيرة بشعة مرعبة ووحشية بكل معنى الكلمة يندى لها جبين البشرية, كشفت أقنعة نظام صالح وعرته أمام العالم.

من مفارقات تلك الجمعة التاريخية شيئين عجيبين هما اسمها والجدار, فجمعة الشباب كانت للكرامة ومعركة صالح كانت من وراء جدر, وهذان العنصران لوحدهما شكلا ثورة حقيقية قد تكون هي الثورة الوحيدة التي انتصرت طوال العام 2011م.

إن أسلوب معركة العار المخزية تلك لم تكن من تفكير إنسان سوي, لا من حيث العقل ولا الخلق ولا الدين, حتى ان البعض يشكك في انتماء شيطان تلك الخطة الى أي من قبائل الشعب اليمني ولا حتى لمهمشيها. لقد تجاوزت أفعال تلك الجريمة الجهنمية النكراء كل الشرائع السماوية والأعراف القبلية والقوانين الوضعية والمواثيق الدولية, زلزلت كل اركان نظام صالح الدموي وتناثر كل المحيطين به في كل اتجاه ينأون بانفسهم من سيل تلك الدماء التي اجتاحت كل زوايا الوطن الذي غطت سمائه أرواح الشهداء الأبطال واضاءات طريق الشباب من ليلتها تلك الأرواح الى يومنا هذا بالرغم من تلاعب السياسيين بمصير الشعب والوطن, وصار الشهداء هم الورقة الوحيدة بيد المعارضة تساوم بها في كل الصفقات.

إنها فعلا جمعة الكرامة التي أعادت الكرامة الى غالبية الشعب اليمني وتاريخه وحضارته, وكشفت نذالة مماليك اليمن الدخلاء على تاريخه وحضارته وأخلاقه وكرامته.

في النقطة الثانية كان الجدار وفكرته التي شرحها رئيس برلمان الراعي لبلاطجته وشبهها بتشويش صدام على الأقمار الصناعية في الحرب الأميركية على العراق. كذلك جدار الفصل العنصري الاسرائيلي على أبناء الشعب الفلسطيني في غزة, إضافة للوصف الإلهي لليهود بأنهم لا يقاتلون إلا من وراء جدر. وأخيرا الوصف الأدبي لشيخ الأدباء اليمنيين وأستاذهم الجليل الدكتور الشاعر عبد العزيز المقالح في رائعته الشعرية (الصمت عار) بقوله:

سنظل نحفر نحفر في الجدار

إما فتحنا ثغرة للنوراو متنا على وجه الجدار

تشبيها للفعل الثوري والثورة على الظلم, وهو ما ينطبق تماما على واقعة جمعة الكرامة التاريخية الحديثة التي نحت فيها الشهداء بأرواحهم الجدار الذي يفصلهم عن قتلتهم حتى ماتوا على ظهر الجدار فاتحين به ثغرة للنور وممرا يوصل الآخرين الى قتلتهم.

ألا توافقونني الرأي أنها بحق ملحمة بطولية تاريخية نادرة بين الخير والشر بين الحق والباطل بين الخوف والشجاعة بين البطولة والنذالة بين الوفاء والنفاق. لقد أنجز الشهداء أصعب الأمور وبقي على الأحياء إثبات الوفاء وانجاز العهود والتخلي عن المنافقين الذين يظهرون فجأة ويختفون فجأة, ظهروا فجأة عند تزلزل نظام صالح وعادوا له عند عودته, ظهروا فجأة عند الحديث عن مجلس وطني ومناصب واختفوا عند انتهاء التوزيع جلجلوا بأصواتهم الى أن انتهى كل شاغر فاختفوا فجاة وكان الثورة لم تعد تعني لهم شيئا بعد ان أصموا أذاننا بثوريتهم الخارقة والحسم الثوري الانتحاري. فهل نفي الشهداء حقهم ليس بالذكر فقط بل وفي انجاز المسيرة الثورية دون انحراف.


في الإثنين 19 مارس - آذار 2012 07:59:06 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=14646