مدينة صعدة .. جرح لا فرح
رضية المتوكل
رضية المتوكل

مدينة صعدة .. هي ذلك الطفل الذي يرتعش كل مساء بفعل ذاكرة صغيرة لم تغادرها أصوات الدمار بعد ، و رفيقه الذي أُقحم قتال الكفار والموت في تطلعاته نحو الأفضل، هي بيوت الطين المدمرة ..المهجورة غالباً أو المغطاة أحياناً بقطعة قماش ممزقة تقي سكانها من المشردين والكلاب، هي حيث يأخذ التسول شكل امرأة ، وحيث تفقد المرأة مُعيلها أكثر من مرة، هي ذلك النفس الأخير لإنسان تعلق بطرف الحياة ورضي مكسوراً بما تبقى منها، هي أمان زائف ومواطن موجوع وخائف..يشكر الله علناً ويلعن حياته سراً ، هي سيارات بلا أرقام، وقضاة بدون قضايا ، ومحاكم ما قبل الدولة وما قبل القانون ،هي سجن مركزي يقطنه عدد من المجانين وعشرات القضايا العالقة في محاكم ونيابات خاملة،وعدة سجون غير مركزية وغير محصورة وغير خاضعة لرقابة الدولة أو قانونها، هي المحافظ الذي لا تسانده السلطة المركزية ولا ينفذ الحوثيون إلا ما طاب لهم من توجيهاته ، هي الحوثيون المظلومون بيمينهم والظالمون بشمالهم..وبين اليمين والشمال تركة ثقيلة من المعاناة والقهر والخذلان ، هي الغياب المضاعف واللئيم للدولة ..دولة لا تتجلى بقوة إلا في المعسكرات وما شاركت في صنعه من المقابر ، دولة قتلت وأفسدت ودمرت ومن ثم تركت الميدان بأهله لتقديرات الفرد المسلح بما يحمل من تصورات وقيم وخبرات ذاتية ، يحرس الفضيلة وفق تصوراته ويحدد معنى الأمن وفق خبراته ويرسم حدود الحرية وفق معتقداته ويطبق العدل وفق مرجعياته ولا يسمح إلا بلون واحد من الدين والدنيا.

مدينة صعدة التي ضاقت أرضها بعشرة مجانين أو أكثر لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا حساسون بما يكفي ليفقدوا عقولهم فأودعوا سجنها المركزي كخيار وحيد متاح ، يأكل القوي فيهم نصيب الضعيف إن وجد دون أن يتمكن أحد من التدخل لفرض قسمة عادلة ، ودون أن يتمكن المحافظ أو الحوثيون أن يقدموا حلاً أفضل أو يفرضوا على السلطة المركزية أن تتبنى حلاً أفضل لا يمكن أن تكون بخير.

في زيارتي السريعة لمدينة صعدة.. سمعت صوتين للمواطن الصعداوي ..صوت سطحي يقول أنه في خير ، وصوت أعمق خائف يطفو فقط حين تحين فرصة يشعر فيها بالأمان يقول أنه ليس في خير و يعاني كثيراً تحت حكم الحوثيين.. وبالمقابل سمعت أيضاً صوتين للحوثيين صوت سطحي يقول نحن حققنا النصر والعدل وتعيش صعدة عالماً مثالياً، واسألوا من جاء قبلكم من الحقوقيين والصحفيين ، وصوت أعمق يقول تُركت المدينة لنا..تخلت عنها الدولة ولا يمكننا أن نتخلى عنها نحن أيضاً..لا حياة مثالية هنا .. لكن لن تنفعنا الشكوى لأنه لن يساعدنا أحد..ذلك الصوت الذي يعكس الجانب الإنساني للحوثيين، صوت واقعي يخرجهم من بوتقة الشيطنة الزائفة التي يضعهم خصومهم فيها ، ومن بوتقة الملائكية الزائفة أيضاً التي يضعهم أنصارهم فيها.. هو الصوت الذي يستطيع أن يخطو على شفافيته وواقعيته كل من يريد أن يصنع تغييراً حقيقياً في صعدة.

صعدة جرح مفتوح ومطل على أكثر من كارثة.. وهي بحاجة إلى الكثير من البحث والعمل الجاد..بحاجة إلى مساعدة حقيقية لتجاوز مخلفات ستة حروب قاسية تركت أثرها على الإنسان والأرض والشجر ، بحاجة إلى ملاحظات حاسمة تسمعها كل الأطراف المسؤولة لتطور أداءها تجاه هذه المحافظة المنكوبة وأهلها ، أما تلك الزيارات البروتوكولية لصعدة من خلال مواكب الحوثيين المهيبة ، بمسلحيهم وقادتهم القادرون على احترام الضيف وحمايته مادام زائراً لصعدة برضاهم وتحت سلطتهم وعيونهم ، بسياراتهم الحديثة وصالونات استقبالهم وشعاراتهم التي تلمع أكثر من أي شيء آخر في صعدة ، تلك الزيارات التي تغذي النشوة في قلوب صحفيين وحقوقيين وسياسيين وغيرهم ممن لا يريدون أن يروا في صعدة سوى الانتصار ضد خصوم فشلوا هم في الانتصار عليهم، وقصة نجاح فشلوا في تحقيقها، هي زيارات لا تقل لؤماً عن غياب الدولة في صعدة، لؤم يجعلهم قادرون على التصفيق فوق ركام مآسي لا حصر لها ، يتجاوزون إنسانيتهم ومهنيتهم ويقدمون خدمة مجانية لكل مشاريع السلاح بتسويق الوهم للبسطاء بدلاً عنها بأن الحروب تخلف حياة كريمة.

يا حكومة المرحلة الانتقالية..صعدة بحاجة إليك..بحاجة أن تجدك حاضرة حضوراً حقيقياً في المستشفيات ، في المدارس، في مراكز الشرطة ، في النيابات والقضاء ، في السجن المركزي ، وفي كل المرافق الخدمية المتعلقة بحياة الناس..صعدة مليئة بالناس العاديين والبسطاء..ليست كلها جماعات مقاتلة ،ولا يمكن لأي جماعة مسلحة أو غير مسلحة أن تقوم مقام الدولة..مازالت صعدة محافظة يمنية تقع تحت مسوؤليتك يا أستاذ محمد سالم باسندوة.

وللحوثيين أقولها بصدق.. لا تتورطوا بالاطمئنان لحكم صعدة بالأدوات البدائية، لا تعزلوها وتعزلوا أنفسكم في قالب جامد محكوم بالحديد والنار، لا تتباهوا بالعودة إلى ما قبل الدولة وما قبل القانون ،لا تقفزوا على كل ما وصل إليه اليمنيون حتى اليوم في مجال الحريات لتفرضوا قواعدكم الخاصة كجماعة دينية متشددة ، إنكم بذلك لا تضروا صعدة فقط بل تضرون أنفسكم أيضاً، كل أولئك المتذمرون الذين لا تسمعونهم سينتفضون عند أقرب فرصة، وكل أولئك الذين يصفقون لكم الآن هم كحاشية الحاكم التي يكون لها السبق في التنكر له حين يسقط ،أنتم تعرفون أكثر من غيركم كم أنتم منهكون وبحاجة لدولة وطنية عادلة، فكونوا السباقين نحو إيجاد هذه الدولة لتكون حاضرة في صعدة ولتطور أداءها وفق القانون والدستور لا وفق اجتهاداتكم الذاتية.

أشعر بالاختناق حين أتذكر حربكم أيها الاصلاحيون والحوثيون في كل أشكالها..هي الدودة التي ستأكل ما تبقى من عظم اليمن ..ما زلنا نعلق آمالنا على العقلاء من الطرفين لوقف هذا العبث الخطير..ليس الاتفاق مستحيلاً ..المستحيل هو أن يتمكن طرف منكما أن يُلغي الآخر..إن استمرار الحرب لن يُلغى سوى الحالمون بيمن أفضل ..بالله عليكم إن كنتم تبيتون النية بمواصلة هذه الحرب أخبرونا..سوف أغادر هذا البلد..ولن أنسى قبل ذلك أن أجمع حفنات تراب من صعدة والجوف وحجة لأمرغ فيها وجهي وانتحب كل مساء !


في الإثنين 23 إبريل-نيسان 2012 04:35:47 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=15229