جمال بن عمر.. الباحث عن «سعادة» اليمن
مأرب برس - الشرق الأوسط
مأرب برس - الشرق الأوسط
 
 

بين يناير (كانون الأول) 1976، تاريخ اعتقاله وهو طالب بكلية الحقوق في الرباط، وتعيينه في أبريل (نيسان) 2011 وسيطا دوليا لحل الأزمة اليمنية، قبل أن يعين في 2 أغسطس (آب) الماضي مستشارا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اليمن، بدرجة أمين عام مساعد، ومسؤولا وممثلا للمساعي الحميدة للمنظمة الدولية خلال المرحلة الانتقالية، جرت مياه كثيرة تحت جسر حياة جمال بن عمر، المعارض المغربي السابق، والناشط الحقوقي الصلب مثل صلابة جبال الريف الواقعة في شمال المغرب، حيث مسقط رأسه، ومرتع طفولته. فقد استطاع أن ينحت في صخر التوتر اليمني، ويتعاطى مع إكراهات الجغرافيا، وتقلبات السياسة وأنوائها، ووطأة الحياة الاجتماعية الصعبة في هذا البلد، بإزميل نحات الدبلوماسية البارع، لدرجة أن زملاءه في الأمم المتحدة أصبحوا ينادونه باسم «اليماني»، بعد أن انغمست يداه في عجين سياسة بلاد الملكة بلقيس، وتناقضاتها وتعقيداتها المتناسلة مثل الفطر، عاملا على تجاوز المنعطفات والانعراجات التي تصل فيها حوارات أطراف الأزمة اليمنية إلى الطريق المسدود.

خلال مهمته اليمنية، قام بن عمر بـ15 زيارة مكوكية إلى صنعاء، أبلى خلالها البلاء الحسن من أجل إرجاع قسط من السعادة الهاربة إلى مواطني بلد التصقت به دوما كلمة «سعيد»، رغم أن الأحداث التي عرفها خلال العقود الماضية لم تخل من كآبة وإحباط وخيبات أمل. ومكنته تلك الزيارات من التعرف عن قرب على عمق معاناة الشعب اليمني جراء افتقاره لأبسط حاجيات العيش الضرورية مثل ماء الشرب والكهرباء، وحرية التنقل بين مختلف مناطق البلاد، بل بين أحياء وشوارع المدينة الواحدة. وهكذا اعتاد «اليماني» في الشهور الماضية على عادات اليمنيين وتقاليدهم، وتذوق في الغالب أكلة «السلتة»، وقد يكون ارتاد مجالس تخزين القات، وهي مجالس يفيء إلى ظلها المثقفون والسياسيون والناس العاديون أيضا للتذاكر حول مستقبل الوطن، وهنا مربط الفرس.. إذ لا حل لأزمة اليمن دون معرفة ما يدور في العقل اليمني.

ويبدو أن «اليماني» قرأ تاريخ البلد لسبر أغوار تعقيداته قبل أن يشد الرحال إلى صنعاء، ويقول بشأن ذلك: «حاولت جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول الوضع الراهن، وكذلك حول السياق التاريخي والوضع الثقافي في اليمن، فلكل بلد خصوصيته، وهذا ما يجب أن لا ننساه».

وفي المقابل، يجزم اليمنيون أن بن عمر لعب دورا محوريا في إنجاح اتفاق نقل السلطة في البلاد؛ وبالتالي يستحق منحه الجنسية اليمنية، وإطلاق اسمه على أحد شوارع صنعاء العاصمة، بينما يذهب آخرون بعيدا في القول إنه يستحق جائزة نوبل للسلام، في حين كرمته مؤسسة «يمن تايمز» الإعلامية الخاصة، التي تصدر صحيفة «يمن تايمز» الآنغلوفونية، باختياره شخصية عام 2011 في اليمن. لكن هل نجح بن عمر في القبض على تلك السعادة اليمنية المنفلتة؟ فيجيب عن تساؤل «الشرق الأوسط» قائلا بلغة لا تخلو من تواضع: «قدمنا مساهمة متواضعة نتمنى أن تكون قد ساهمت في بناء إعادة استقرار اليمن وأمنه، وبناء مسلسل جديد من الإصلاحات أكثر جذرية، وبناء ديمقراطية حقيقية فيه».

حينما تطايرت شرارات الأزمة كان مبدأ انطلاقنا، يقول بن عمر، يكمن في أن وقت التغيير قد حان، ويجب الاستجابة لمطالب الشعب اليمني، خاصة الشباب، في بناء ديمقراطية حقيقية في البلاد، وترسيخ دولة القانون، وتبعا لذلك، وبناء على قرار مجلس الأمن رقم 2041 «تم الاقتناع بأن التسوية السياسية يجب أن تتم على أساس تنظيم انتقال سلمي للسلطة، وبالتالي دفعنا وشجعنا على الحوار المباشر بين الأطراف دون إقصاء أي كان، لكن بهدف الوصول إلى اتفاق حول خارطة طريق لعملية الانتقال السياسي للسلطة، وليس في إطار النظام القائم آنذاك».

وقتذاك أصر بن عمر على أن يكون الاتفاق بين أطياف المشهد السياسي اليمني مفصلا، وينظم بشكل دقيق عملية إدارة المرحلة الانتقالية التي تم تحديدها في سنتين وثلاثة أشهر، كما أكد أن الاتفاق يجب أن يضمن عددا من المبادئ والإجراءات والآليات التي يجب خلقها خلال هذه المرحلة لضمان عملية بداية التغيير وبناء الحكم الرشيد، ومن ثم جاء الاتفاق على عدد كبير من التفاصيل المتعلقة بخارطة الطريق.

عرف بن عمر لحظات صعبة خلال معالجته الأزمة اليمنية، بلغت ذروتها حينما ارتفعت وتيرة العنف خلال صيف 2011، وسقط ضحايا كثر. ويقول بشأن ذلك: «كان الخطر آنذاك يكمن في أن تنساق عدة مجموعات وراء استعمال العنف، ويصبح تدارك ذلك أمرا صعبا، لأننا كنا آنذاك ندعو إلى مفاوضات مباشرة بين الأطراف، بيد أنه كلما سقط مزيد من الضحايا، واتسعت ظاهرة العنف، تعقدت الأمور مثلما هي الحال الآن في سوريا».

فالعنف، في نظر بن عمر، شكل العقبة الكأداء الأساسية أمام العملية السياسية، إلى جانب إرث الماضي وانعدام الثقة بين أطراف الأزمة.. قبل أن يضيف أنه دافع باستماتة عن إشراك المرأة والشباب في المفاوضات، إضافة إلى الأطراف الأخرى مثل الحوثيين والحراك الجنوبي، وحرص على أن لا تقتصر العملية السياسية على إبرام صفقة بين الأحزاب البرلمانية. ولم ينس بن عمر الإشارة إلى عمله بتنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومع جميع أعضاء مجلس الأمن الخمسة، وحرصه أيضا على تثبيت الإجماع الموجود الآن في مجلس الأمن بشأن الأزمة اليمنية، وهذا أمر في نظره تطلب عملا شاقا ودؤوبا جعل ذلك الإجماع راسخا من أجل إنجاح عملية انتقال السلطة، وتفادي الانقسامات فيه بشأن ذلك، كما هي الحال الآن بالنسبة لسوريا.

ويعزو بن عمر النجاح الذي حققه على الحلبة اليمنية بالدرجة الأولى إلى استقلالية وحيادية الأمم المتحدة «لأن هذه الأخيرة ليس لها حدود مع اليمن، ومصالح تجارية أو مصانع عسكرية استراتيجية مع صنعاء.. ناهيك عن كون جميع الأطراف رأت في الأمم المتحدة وسيطا ليست له مصلحة خاصة غير تحقيق مصلحة الشعب اليمني، زد على ذلك أن ثقة اليمنيين في المبعوث الشخصي كان لها دور أكيد في نجاح مهمته»، يقول بن عمر.

لكن صديقه إلياس العمري، الناشط الحقوقي اليساري المغربي، والقيادي البارز في حزب الأصالة والمعاصرة (معارضة برلمانية)، يرجع سر نجاح بن عمر في مساره العملي بما فيه مهمته في اليمن، إلى قدرته على الحفاظ على العمق الإنساني الكامن في دواخله، مشيرا إلى أنه يتعرف سريعا على معاناة الآخرين بحكم المعاناة التي صادفها هو أيضا في مشواره.

وقال العمري لـ«الشرق الأوسط» إن بن عمر إنسان مرح ومعروف بسعة ورحابة صدره، ويتقبل جميع الآراء، ولديه قدرة على الاستماع لموقفين متضادين في لحظة واحدة، والبحث عن مكامن الالتقاء بينهما، وهذا نابع من شخصيته البسيطة غير المعقدة. ويضيف العمري: «إن وظيفته السامية في منظمة الأمم المتحدة لم تغير سلوكه الشخصي وصداقاته قيد أنملة، فهو، رغم انشغالاته الكثيرة، لا يكف عن السؤال يوميا عن عائلته وأصدقائه».

لكن ما حقيقة ما قيل بشأن محاولة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح استمالته ورشوته ليطيل عمر نظامه؟ يقول بن عمر لـ«الشرق الأوسط» بدبلوماسيته المعهودة: «نحن تعاملنا مع جميع الأطراف وشرحنا لهم منذ البداية أن من مصلحتهم التعاون من أجل إيجاد حل سلمي، وهو ما تم في نهاية المطاف، وسهل الاتفاق على نقل السلطة الذي تم التوقيع عليه في الرياض». ولا يخفي بن عمر أنه حينما عين وسيطا دوليا في الأزمة اليمنية كان متأكدا أن المهمة صعبة نظرا للظروف الحرجة التي كان يمر بها اليمن الذي كان على أبواب حرب أهلية مدمرة، بيد أن «موقفنا المبدئي في الأمم المتحدة كان يقوم على أساس أنه مهما كانت الخلافات، فإنها يجب أن تحل من خلال الحوار، والانخراط في عملية سياسية تشارك فيها جميع الأطراف».

 

وحول قراءته للوضع اليمني، قال بن عمر إن العملية السياسية تقدمت بشكل كبير، وإن الوضع تغير بشكل جوهري، لأنه منذ سنة فقط كان اليمن على مشارف حرب أهلية، أما الآن فهناك إعداد لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني، وإعادة صياغة الدستور، وهناك عملية سياسية سيشارك فيها الجميع، بيد أنه أشار إلى وجود تحديات كبيرة على مستوى الأمن والاقتصاد والسياسة أيضا. وزاد قائلا: «لقد تقدمت العملية السياسية فعلا، وهناك تطبيق لاتفاق نقل السلطة.. لكن، في الوقت نفسه، ما زال الوضع هشا، ويتطلب من المجتمع الدولي إبداء اهتمام متزايد بهذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها اليمن». وشدد بن عمر على القول إن الأشهر القليلة المقبلة ستكون حاسمة، «فإما ستنجح العملية الانتقالية، أو نعود إلى نقطة الصفر، ومن ثم يظل دور مجلس الأمن في مساندة اليمن خلال الفترة الانتقالية دورا مهما وكذلك دور المجتمع الدولي».

فمن هو جمال بن عمر؟ ومتى بدأت رحلة الألف ميل نحو صنعاء؟

ولد بن عمر في مدينة الناظور يوم 11 أبريل (نيسان) 1957، بعد ستة أشهر من حصول المغرب على استقلاله، وترعرع في مدينة تطوان، وإن كان أصله من منطقة بني ورياغل في إقليم الحسيمة، القريبة من الشاطئ الجميل المسمى «كلايريس»، الذي قضت فيه النجمة العالمية أنجلينا جولي ورفيقها بيت براد عطلة صيف عام 2011، والمفارقة هنا، هي أن بن عمر كان في ذلك الوقت يستحم في بحر القلق اليمني.

وجمال واسطة العقد في عائلة تتكون من ثمانية أبناء وبنات ضمنهم نبيلة، النائبة في البرلمان المغربي، المنتمية لحزب الأصالة والمعاصرة. وتقول نبيلة إن «جمال كان طفلا متميزا على الدوام، وعرف عنه ذكاؤه المتقد، وتفوقه الدراسي؛ إذ كان منذ صغره عميقا في طرح الأسئلة». بيد أن نبيلة ترى أن قراءة شخصية جمال لا تستقيم دون استحضار محيطه الأسري. فهو ينتمي لعائلة تمرست على النضال، الذي ورثه عن جدارة واستحقاق، بحكم القرابة العائلية مع زعيم الريف، عبد الكريم الخطابي. كما أن والده كان من مؤسسي جيش التحرير. أما والدته، فكانت مناضلة في حزب الاستقلال، وشاركت في حركة المقاومة.

في مرحلة الدراسة الثانوية تميز جمال، إلى جانب آخرين، باهتماماته السياسية وقربه من موجة اليسار الجديد، التي كانت تغزو فضاءات النخبة المثقفة والطلبة والتلاميذ. وفي سياق ذلك، انتمى إلى منظمة «إلى الأمام» الماركسية المحظورة.

ويقول يونس مجاهد، المعتقل السياسي السابق، ونقيب الصحافيين المغاربة حاليا، ورفيق الصبا والنضال والاعتقال، لـ«الشرق الأوسط» إنه عرف بن عمر منذ الصغر، حيث كانا يقطنان في الحي نفسه، ويدرسان في «الإعدادية» نفسها بتطوان، مشيرا إلى أنه ابن عائلة محترمة لم تكن غنية، لكن والديه حرصا على تعليم كل الأبناء ذكورا وإناثا. ويتحدث مجاهد عن خصائص شخصية بن عمر، فيقول إنه سعى دائما إلى الاعتماد على نفسه، حيث كان في كل عطلة صيف، يشتغل في أحد الفنادق السياحية الكبيرة، في منطقة المضيق، لتوفير بعض المال. في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي، عرف المغرب حملة اعتقالات واسعة لتصفية المنظمة، وتم اعتقال بن عمر في يناير 1976 في تطوان، وبعد ذلك تم نقله إلى مخفر الشرطة بطنجة، قبل أن ينقل إلى المعتقل السري في درب مولاي الشريف بالدار البيضاء.

وعن فترة الاعتقال في درب مولاي الشريف، يقول مجاهد: «كنت أنا وهو جنبا إلى جنب في المعتقل الرهيب، وكانت أعيننا معصوبة وأيدينا مقيدة بالأصفاد، طيلة النهار والليل، وفوق رؤوسنا حراس شرسون، يطلق عليهم لقب (الحجاج)».

ويضيف مجاهد: «الكلام كان ممنوعا.. ولكننا مع ذلك، كنا نتبادل الحديث، عندما نحس بابتعاد الحراس، بل ونتبادل حكي النكت، ومن بين طرائف فترة الاعتقال، أذكر أنني حكيت لجمال نكتة حقيقية، حصلت لي مع أحد الحراس، حيث كنت آتيا من جلسة تحقيق، فسألني (الحجاج): (ماذا كنت تدرس؟) أجبته: (القانون)، فرد علي: (هل أتقنت العزف على الكمبري؛ آلة موسيقى شعبية، حتى تدرس القانون؟). آنذاك أصابت جمال حالة هستيرية من الضحك لم تتوقف، رغم أن ذلك يمكن أن يعرضه لعلقة ساخنة، وانخرط باقي المعتقلين في الضحك لوقت طويل، وشاءت الأقدار أن الحراس كانوا بعيدين عن زنزانتنا، وإلا كانوا تفننوا في تعذيبنا ذلك اليوم».

وجاء يوم النطق بالحكم، فصدرت في حق بن عمر عقوبة سجنية مدتها 12 سنة، أما باقي رفاقه فطالتهم أحكام متفاوتة وصلت إلى المؤبد.

في السجن، كان هناك وقت فراغ كبير، وخلص بن عمر إلى أن خير وسيلة لتزجية الوقت هي الانغماس في القراءة وإكمال دراسته، وتكوين نفسه وتزويدها بالعلم والمعرفة، فوجد نفسه يدرس بالمراسلة الحقوق والعلوم السياسية وعلم الاجتماع لنيل شهادة الماجستير من جامعة فرنسية. لم يكمل بن عمر مدة محكوميته كاملة؛ إذ تم الإفراج عنه لوحده بعد أن قضى نحو 8 سنوات من فترة السجن، وذلك جراء تدخل أساتذة فرنسيين، كان مرتبطا بهم عن طريق الدراسة بالمراسلة، لدى الملك الراحل الحسن الثاني للعفو عنه. في صيف 1983، وجد جمال نفسه، حرا طليقا وهو يجوب شوارع مدينة الرباط التي لم يكن يعرف فيها إلا رفيقه في درب النضال والسجن الحبيب بلكوش، فمكث عنده في بيته لمدة تزيد على سنة. كان هم جمال آنذاك هو الحصول على جواز سفر ومغادرة البلاد ولو سباحة نحو الضفة الأخرى، فسافر إلى مدينته تطوان، ولسوء حظه صادف وصوله إليها اندلاع انتفاضة عام 1984، فتم اعتقاله مرة أخرى وقضى 10 أيام رهن الاعتقال تعرض فيها للتعذيب. ولذلك عندما أفرج عنه كان قراره جاهزا، وهو العبور إلى إسبانيا بأي ثمن. فكان بذلك أول مهاجر سري يعبر مضيق جبل طارق ليس بحثا عن الخبز والإقامة الدائمة في الفردوس الأوروبي، وإنما بحثا عن الحرية والانطلاق نحو آفاق أرحب.

وبحكم علاقاته مع نشطاء حقوقيين، وجد جمال من يستقبله في إسبانيا، ومنها طار إلى لندن ليعمل ضمن طاقم منظمة العفو الدولية «أمنستي»، وترقى بها حتى أصبح الشخصية الثانية فيها. وعندما زار الملك الراحل الحسن الثاني العاصمة البريطانية عام 1986، كان جمال وراء فكرة الاحتجاج الذي نظمته «أمنستي» لاستنكار وضعية حقوق الإنسان في المغرب. وشكلت جنيف المحطة الأوروبية الثالثة لجمال، حيث التحق بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.وهناك فاجأ جمال الوفد المغربي الرسمي الذي جاء عام 1995 للدفاع عن سجل المغرب في مجال حقوق الإنسان، أي سنة بعد العفو الذي أفرج بموجبه عن أغلب معتقلي سنوات الاحتقان السياسي، باحتجاجه على حضور جلاد معروف ضمن تشكيلة الوفد، هو عميد الشرطة قدور اليوسفي، الذي أشرف على التعذيب والتنكيل بنزلاء مفوضية درب مولاي الشريف وكان جمال من بينهم.. الأمر شكل فضيحة كبرى بالنسبة للوفد المغربي الذي حرم من تقديم سجله أمام مجلس حقوق الإنسان، وحرم أيضا من الحصول على امتياز فتح مركز لحقوق الإنسان يخضع لرعاية المجلس الأممي.

بعد وفاة الملك الحسن الثاني، لم يدخل جمال إلى المغرب إلا في عام 2005، على أثر وفاة والدته. فعاد عبر مطار طنجة في صيف السنة نفسها، وهناك وجد في استقباله ثلاثة أشخاص هم الراحل إدريس بن زكري المعتقل السابق ورئيس هيئة الإنصاف والمصالحة، والكاتب عبد القادر الشاوي المعتقل السابق وسفير المغرب الحالي لدى تشيلي، وإلياس العمري.

بعد انتهائه من جنازة والدته في تطوان، انتقل جمال إلى الرباط بهدف لقاء ورؤية بعض رفاقه الذين لم يرهم منذ سنوات. وعندما حضر موعد اللقاء، وجد جمال نفسه في فيللا أحد رموز العهد الجديد، الذي لم يكن سوى فؤاد عالي الهمة، الوزير في وزارة الداخلية آنذاك، وصديق الملك محمد السادس، وزميل فصله الدراسي. وفي صالون الفيللا تحلق مجموع الرفاق السابقين وضمنهم إدريس بن زكري وأحمد حرزني، الذين كانوا يحلمون بقلب النظام الملكي، وإلى جانبهم جلس الطيب الفاسي الفهري، الوزير في وزارة الخارجية آنذاك، وياسين المنصوري، المدير العام لمديرية الدراسات والمستندات (مخابرات خارجية) والجنرال حميدو العنيكري، مدير عام إدارة حماية التراب الوطني (مخابرات داخلية)، هناك اكتشف جمال لأول مرة أن عهدا جديدا بدأ في المغرب.

خلال السنوات الـ20 من الغياب عن بلده، خبر جمال أسرار الدبلوماسية العالمية، وكواليس صناعة القرار في الأمم المتحدة، فقد أخذه معه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ليشتغل إلى جانبه مستشارا شخصيا له في «معهد كارتر» بعدما التقاه في أميركا خلال حضوره محاضرة ألقاها جمال، فأعجب به غاية الإعجاب. وبعد ذلك كلفه المعهد ملفات كبيرة، منها ملفا هايتي والسلفادور، وساهم في إعادة صياغة دساتير دول كثيرة كانت تعبر مراحل الانتقال الديمقراطي، خاصة في أفريقيا، وساهم في بعثات مراقبة الانتخابات في العديد من البلدان، واكتسب خبرة عالمية خولته ولوج أروقة الأمم المتحدة.

وكانت سنة 1993 سنة مفصلية في مسار بن عمر؛ فخلال مؤتمر جنيف لحقوق الإنسان، ألقى محاضرة باسم «معهد كارتر»، فأعجب به بطرس غالي، الأمين العام الأمم المتحدة حينها، فطلب من كارتر أن يسمح له بالاشتغال ضمن فريقه الأممي، فأجابه كارتر قائلا: «السيد غالي، أعتقد أنني لا يمكن أن أعثر على شخص مثله إن سمحت له بالاشتغال معك، وأنت كذلك لن تجد أفضل منه ليكون إلى جانبك في الأمم المتحدة»، وفي الأخير تنازل عنه كارتر بصعوبة لصالح غالي. وفي يناير 1994 التحق بن عمر رسميا بالأمم المتحدة، ولا يزال بها إلى يومنا هذا، متوليا عدة مهام فيها، حيث كلف الملف العراقي، ورافق الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي في مهمته بأفغانستان، وشارك في تسوية نزاعات دولية مهمة في كوسوفو والبوسنة وجنوب أفريقيا ومنطقة البحيرات العظمى الأفريقية، وشغل منصب مدير برنامج إعادة إعمار الدول التي تعاني من الأزمات، إلى أن عينه بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة الحالي، مبعوثا شخصيا له إلى اليمن.

وبن عمر متزوج من سيدة أميركية ولديه أربعة أبناء، وهو مولع بالقراءة وسماع الموسيقى، إلى جانب كونه طباخا ماهرا، خاصة الكسكس المغربي، وشربة «الحريرة» وغيرها من مكونات المطبخ المغربي. خضع بن عمر قبل ثلاث سنوات لعملية جراحية دقيقة في القلب، ويحرص على عدم الخوض في الماضي ومنغصاته، لقد قرر دفنه إلى الأبد، ولم يعد أمامه سوى التطلع بإصرار نحو المستقبل.


في الجمعة 09 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 04:29:13 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=17955