وطنٌ بلا ظلّ..
منير الغليسي
منير الغليسي

ومضة..

حين نعيش لنحيا لأنفسنا فحسب نكون قد حكمنا عليها بالفناء.. وحين نعيش لأنفسنا والآخرين نكون قد شققنا طريقاً نحو الخلود.. أمّا حين نعيش للآخرين فحسب، وذلك أسمى درجات التفاني.. نكون قد اقتفينا خطى الخالدين، بل نكون نحن من الخالدين.

(1)

• مؤلمٌ أن تظل تتنقّل من مكان لآخر؛ بحثًا عن قوت يومك..

عن كِسرة خبزٍ تسدّ بها رمق أطفالك الصغار..

عن حُفنةٍ من حليب وسكر لرضيع يتضوّر من شدة الجوع، ويجوع من شدة الفقر..

عن حبّة دواءٍ تسكّن بها ألم أبيك أو أمّك، اللّذين لايزالا، وهما في خريف العمر وشتاء الجسد، يدبّان في الأرض بحثاً عمّا يحافظ على بقايا أنفاس في صدر جرّحته أنّات الفقر وأنين الألم مدى عقود من الانكسار..!!

(2)

• مؤلمٌ أنّك لاتزال، من مكان لآخر، من حيّ لآخر.. تحمل همّاً بحجم مسكنٍ يُؤويك ومَن تعول، دون أن يؤذيَك صاحبه.. دون أن يعدّ أنفاسك، يتحرّى عددَ أولادك كلّ عام، يترصّد ضيوفك.. دون أن يحصي عدد (لترات) الماء التي تستهلكها يومياً، وقِطَع الملابس التي تغسلها وتنشرها زوجتك.. دون أن يتقصّى، من قريب وبعيد، عن مرتّبك ووظيفتك وترقيتك وعلاوتك السنوية، التي لا تسمن ولا تغني من إلحاح أطفالك: بابا تفاحة، بابا لعبة..!!

(3)

• مؤلمٌ أن تظل ساهراً كالنجم حتى ينبلجَ الفجر.. تُطمئن زوجتك ونساءَ بيتك، اللائي أفزعهنّ صوت رصاصٍ من بندقيةِ ورشاشِ حمقى منتصف الليل – والنهار- .. تُهدهد صغارك الذين أرعبهم فرقعات القنابل الصوتية..

عبثاً تحاول إقناعهم بأنها ليست الحربَ المشؤومةَ، التي ما كادت تتوقفُ مدافعُها ورشاشاتُها عن مدننا وأحيائنا التي أقضّ مضجعَها، وشوّهَ جمالها الطبيعي، دويُّها وأزيزُها، وحماقاتُ مَن أشعل فتيلها لأهواءَ في نفسه.. وما كاد ينقطع صراخُ أطفالها ودموعُ نسائها وأنينُ جرحاها.. لتبدأَ بمزاج صغار الأحلام والنُّهى.. في ظل دولةٍ بلا هيبة، دولةٍ تهزمها قبيلة، أو شيخُ قبيلة، أو متمرّد عن المجتمع وقيمه، أو متنفّذ بأموال ليست من ملك أبيه أو أمّه، أو عَرَق جبينه وساعديه.. دولةٍ بلا هيبة وبلا قانون إلا على ضعفاءَ بلا قبيلة، ولا مشائخَ أو نفوذ..!!

عبثاً تحاول أن تقنعهم أن تلك الأصواتَ المدوّية إن هي إلاّ تعبيرٌ عن فرح عروس سيدخل على عروسه على إيقاع أزيز الرصاص والقذائف..!!، و إلاّ سرورٌ بمقدم حاجٍّ اغتسل للتوّ من ذنوبه، ورجع كيوم ولدته أمُّه حين ولدته على وقع فرقعة المتفجّرات!!، وإلاّ... ، وإلاّ..

(4)

• مؤلمٌ جداً أن ترى أطفالاً بعمر الزهور، وتسمع عن آخرين، يتسكّعون في الشوارع بملابسهم المدرسيّة المهترئة أثناء الدوام الدراسي وخارجه.. يسألون الناس إلحافا.. يتعرّضون، مّمن لا قلوب لهم ولا أفئدة، للانحراف الخُلقي والاستغلال المادّي.. للاتّجار بطفولتهم في سوق الانحراف والتسوّل.. وتجارة البشر..!!

مؤلمٌ أن ترى بعينيك منهم من ترك بيته ومدرسته وأطفال جيرانه وألعاباً تمنّى لمسها.. وخرج إلى الشوارع والأرصفة ليبيع قنينة ماءٍ أو يغسل وجه سيّارة، وهو بوجه تعلوه غَبَرة.. معرّضاً صحّته الجسدية لعواملِ طقسِ الفصول الأربعة في يوم واحد.. ومعرّضاً صحّته النفسية لهموم واقعة ومستقبلَة.. ثم يعود ليلاً، وربما في وقت متأخر؛ ليَسُرّ أباه المُقعد من كل شيء.. من العلم والعمل، من الصحة والإرادة.. ويُفرحَ أمّه المسكينة التي تذرف الدموع من حين خروجه باكراً، وحتى عودته إليها مباركاً، سالماً بدعواتها ودموعها.. حاملاً إليهما فُتات التشرّد والضياع ، وملامحَ وجهٍ متعبٍ.. وغيرِ بريء..!

(5)

• مؤلمٌ أن ترى امرأةً - فضلاً عن نسوة - في حضنها طفل يتضاغى جوعاً، ومن حولها أطفالُها الصغار.. ما بين باكٍ، وآنٍّ، ومبتسمٍ ابتسامة مضطربة، ومتألّم لعلة لا تعلم المسكينة لها سببا.. وآهٍ.. كم يكون ألمُ الأب والأم حين يتأوّه ولدُهما أمامَهما من ألم نزل به ولا يجدان له سببا..!، وكم يكونا أكثرَ ألماً إن تمكّنا من معرفته، وتمنّيا دواءً له؛ فلم يستطيعا له طلبا..!!

مؤلمٌ أن تراهم يفترشون مداخل المساجد والأسواق والأرصفة.. يفترشون كرامتهم ويلتحفون الألم والأنين والشكوى إلى الله وإلى الناس.. من أجل لقمة عيش أو حبّة دواء، أو مأوىً يقيهم حرّ الصيف وبرد الشتاء.. علّهم يشعرون - ولو للحظة - بأنهم يستعيدون شيئاً من إنسانيتهم.. من آدميتهم رغم ذُلّ المسألة..!!

(6)

• مؤلمٌ أن تخاف من الموت، لا للموت بحدّ ذاته، ولكنْ خشية ألا تجد وطناً بمساحة قبرٍ يلمّ أحشاءك، يُكرم جسدك ولو مَيْتاً..!!، بعد سفرٍ طويل من الاغتراب في وطن وهبتَه روحَك - لا منّة وتفضّلا، بل انتماء وهُويّة وعشق - فسلبك روحَك وانتماءَك وهُويّتك.. ووهبك بعض ظلّه.. وبلدةٍ كان كثيرٌ من أهلها، في سالف الزمان، طيبين، كما وصفهم القرآن الحكيم؛ فأصبحوا منقسمين (في جهلهم وانتمائهم و ولائهم) إلى: عقداءَ معقّدين، ومشايَخ مُشَيَّخين، ومتنفّذين منفِّذين، ومتمرّدين بلا هُويّة.. هم منقسمون فكراً و وظيفةً، لكنّهم في انتهاب الوطن على قلب رجل واحد و وظيفة واحدة..!!، والضعفاءُ، وما أكثرَهم، بلا وطن، ولا حتى ظلّ وطن..!!

(7)

• مؤسفٌ أن ترى (فتاة جامعية) – أو أيَّ إنسان – تقف على جانب طريق، تحت حرّ الشمس، أوقرص البرد، أو وقع المطر.. وفي كفّها دراهمُ معدودة، وقد كساها الحياء والحرج، ملوّحة بذلك المبلغ الزهيد، في إشارة منها بأنْ ليس لديها سواه.. مؤلمٌ ألا يلتفت لها حسٌّ ولا يحسّ بها قلبٌ.. في حافلة، تلوَ أخرى، يصعد إليها من يصعد، وينزل من ينزل، تُقلّ العشرات من البشر.. يتوقّفون بجوارها، في محطة لنقل الركّاب، ثمّ يمرّون وكأنما يمرّون على عمود كهرباء، أو على شجرة لا تؤتي أكُلَها..!!، لا شهامة من رجل، ولا عاطفة من امرأة لبنت جنسها، ولا إحسانَ من كليهما يُغنيها عن إيضاح المَسألة ودَرْءِ ذُلّ المُساءلة..!!

(8)

• مؤسفٌ أن ترى أطفالاً وشباباً وحتى شيوخاً، متعلمّين ومثقّفين وجهلة.. ثقافتُهم السّبابُ والشتم والبذاء؛ تشعر حين تسمع ألفاظهم النابية .. أنك بحاجة لتغسل أذنيك وتطهرَ قلبك ممّا لاثهما..!

بل تحسّ، بإزاء تلك الألفاظ الخارجة على اللياقة والأدب.. بأنك في حاجة لأن تستقيها من حواسك كلّها..!

(9)

• مؤسفٌ أن ترى بأمّ عينيك – وبناتهما – مِن أمامَك وخلفَك، من حوليك، وتسمع بأذنيك.. أنّ شجرة الفساد، في مؤسسات بلدك، المدنيّة والعسكريّة، تنمو وتترعرع بسرعة لا حدّ لها ولا كوابحَ تحجمها عن اقتحام الأمكنة والأزمنة..

جذورُها تتغلغل في الأعماق، يوماً عن يوم، وشهراً عن شهر، وسنة عن سنة.. وفروعُها تضرب عرضاً وطولاً في كل اتجاه..

ومؤلمٌ أن ترى ثمارها تترنّح عن اليمين وعن الشمال، وحيثُما أجَلْت نظرك: إهمالاً في الأداء الوظيفي، غشّاً وتزويراً في المعاملات، نصباً واحتيالاً ورِشوةً، رباً يربو عند الناس، اختلاساً لأموال الشعب وثرواته، تضييعاً للحقوق..

والثمرة الكبرى الأكثر نضجاً: أجيالٌ من الفاسدين، ما يعني عقوداً من التخلّف، دهراً من الوجع..

مؤلمٌ أن ترى بلادك (لا مقارنة بسواها، بل بقهرها وتقهقرها) عاماً بعد عام، ومرحلة بعد مرحلة.. بلا تنمية اقتصادية ولا بشرية، بما تتطلّبه ضرورة الزمان والجغرافيا، حيث والكون أصبح ضمن جغرافيا تكاد تكون واحدة، وزمان يكاد يكون واحداً.

(10)

• صعبٌ عليك.. أن تغالب دموعك، وأنت ترى بعينيك تلك المشاهدَ والصورَ، يومياً تحدث في ربوع وطنك الممتد من أقصى القلب إلى أقصاه..

صعبٌ عليك أن تعقد مقارنة بين سعادة الآخرين وتعاستنا، بين سرورهم وألمِنا، بين ناطحات سحابهم وناطحات قلوبنا.. بين "تكنولوجيا" تقدّمهم و"تكنولوجيا" تخلّفنا..!

(11)

• مؤلمٌ.. ومؤلمٌ.. ومؤلمٌ..

ومع كل ألمٍ وحزن..

يبقى الأمل كبيراً في أن نستبدل بأشواك اليأس وردَ الأمل، وبرصاص الموت خبزَ الحياة، وبجلمود الجمود دولابَ البناء والعطاء والإبداع.. ولكن بصدق وإخلاص الأنبياء، وبهمّة الأوفياء، وثبات الجبال.

• ومضة أخرى..

كل يوم، من عمر الزمن، تُطوى صفحتُه إلى الأبد بجمالها وقبحها.. نحن من يكون سبباً في ذلك الجمال وإشراقه أو القبحِ ودمامته.. فما أجملَ أن نطويَها بأيدينا الجميلة التي خُلقت لتبقى جميلة، كما هي.


في السبت 12 يناير-كانون الثاني 2013 05:04:12 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=18782