تركيا والعثمانيون الجدد ...نظرة على هامش الاحتجاجات الأخيرة
عبدالوهاب العمراني
عبدالوهاب العمراني

عندما بدأت قبل نحو عام بقراءة كتاب وزير خارجية تركيا الذائع الصيت  العمق الاستراتجي: موقع تركيا في الساحة الإقليمية لمؤلفه احمد دواد اوغلو وزير خارجية الحكومة الحالية بزعامة رجب اوردغان  فور صدروه إنطلاقا من شغفي بقراءة كل ما يكتب عن تركيا وإيران والعراق هذا الثلاثي الذي احتواني منذ بدأ شغفي بالقراءة منذ أكثر من ثلاثة عقود ، الكتاب يمثل وجهة نظر حزب العدالة والتنمية الحاكم والذي هو امتداد لحزب (سلامات بارتي) ومؤسسه نجم الدين اربكان الشخصية الإسلامية التركية المعروفة تجاه جملة قضايا داخلية وإقليمية ودولية وفق منظور اتجاه هذا الحزب الذي قفز بتركيا خلال عقد من الزمن ، فإذا كانت ماليزيا قد قفزت من مصاف الدول النامية خلال ثلاثة عقود وتحديدا منذ مجئ محاذير محمد فأن تركيا بنفس المعاير قد دخلت حاضرة الإحداث الدولية والعربية من بوابة الاقتصاد والثقافة ، بل وحتى المسلسلات التركية التي انجذب لها المشاهد العربي ونقلته جسدا وروحاً الى اصطمبول التي غدت هي الآخرى مقصد السياح العرب لسنوات مضت.!

و يعتبر كتابه هذا خلاصة وبحث طويل ودراسات متعمقة في عوامل النهضة (الأوردغانية) . وما يُميّز الكتاب هو تجاوزه للأطر النظرية المجردة ، ليصوغ رؤية إستراتيجية تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون عليه مكانة تركيا في الساحة الدولية. هذه الرؤية التي وضعها احمد اوغلو قبل عشر سنوات من صدور أي في العام 2001 في نسخته الأولى للكتاب والذي كان فقط باللغة التركية التركية ، أي قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة، وقبل سنوات من تبؤ أوغلو نفسه لمنصب وزير الخارجية. وتمثل هذه النظرية الخطوط الرئيسة والأستراتيجية للسياسة الخارجية لهذه الحكومة.

يقول أوغلو في هذا الصدد في مقدمة الترجمة العربية لكتابه: " بأنه ومنذ صدور هذا الكتاب في طبعته التركية، وقعت متغيرات جذرية في السياسة الخارجية التركية، التي ما تزال تشهد عملية تغيير مستمرة إلى يومنا هذا. فمع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، اجتهدت الحكومة التركية لإعادة تعريف مبادئ السياسة الخارجية، وإعطاء هذه السياسة أبعاداً جديدة". ويشير أوغلو إلى أن التعريفات الجديدة للسياسة الخارجية التكرية لم تبقَ حبيسة أطرها النظرية، بل وجدت فرصتها للتطبيق والتفعيل، وأحرزت نجاحات باهرة وملموسة. ولعل أبرز الأمثلة على هذه النجاحات هو التحوّل الذي طرأ على علاقات تركيا بالدول العربية، التي باتت ترتكز إلى أرضية تضامنية ذات محور تعاوني، بعد أن كانت تخيم عليها أجواء الخلافات والنزاعات قبل ثماني سنوات".

في الكتاب المشار اليه يؤكد احمد دواد بأن تركيا تسعى الى ما سمى (صفر مشاكل) مع الجيران ، وواقع الحال يناقض ذلك للأسف فما أن هبت رياح التغيير في سوريا كان الأحرى بتركيا ان لا تنجر للصراع السوري وتستدعي الناتو لنشر بطاريات صواريخ ايهاماً للرأي العام بخطر محقق من جارتها سوريا وتبرير مسبق لأفعالها حيث هددت بغزو سوريا قبل بضع سنوات لاحتضانها أفراداً ومجموعات من حزب العمال الكردي المحظور في تركيا فلن يتحقق التهديد السوري المزعوم لتركيا ، ولكنها تريد تبريرا لتدخلها نكاية بجارتها إيران ، ومن هنا فقد أثبتت بما لا يدع الشك بأن الصراع في سوريا هو بالإضافة لكونه في كثير من جوانبه طائفي إلا أن له أبعاد إقليمية صارخة!

يجدر الإشارة في هذا السياق بأن صراع أنقرة وطهران ليس مقصوراً على سوريا وبعض اقطار المشرق العربي بل انتقل البلدان بثقلهما الحضاري لأسيا الوسطى وتحديدا في اوزبكستان وطاجكستان وتركمانستان وقازاخستان فلتك البلدان التي كانت تعرف بالبطن الرخوة للسوفيت خرجت من رحم الاتحاد السوفيتي السابق وهى بلدان (خام) تبحث عن هوية قومية ودينية ، وتعتبر حضارياً عمقاً استراتيجياً لكل من تركيا وأيران ، فاصطفت حسب هويتها القومية او المذهبية لهذين البلدين الكبيرين ، فألى جانب السياسة هناك صراع ثقافي فتركيا وايران غدا لهما قمران صناعيان فتركيا الى جانب نشر لغتها التركية ومطبوعاتها تبث عشرات القنوات المتنوعة من اخبار وسياسة وترفيه ونحو ذلك وفق نهجها السني العلماني بينما تنشر ايران اتجاه الدولة الثيوقراطي وفق منظور شيعي وباللغة الفارسية !

تركيا التي كانت مثالا يحتذي ونموذج يُقتدي لدى العرب خيّبت آمال محبيها رغم الإقرار بالتحولات الاقتصادية العملاقة داخل تركيا ولكن انبهار الراصد من خارجها لا يوازي التذمر للبعض من داخلها !

مفاجأة انفجار الوضع الأمني في تركيا في بداية الصيف خيب امال تركيا في استقبال ملايين السياح معظمهم من البلدان العربية والخليج تحديداً الذين يخشون التجوال في تقسيم ميداني وقد غدا ساحة معارك عنيفة لدى شعب عرف بخشونته لدرجة جعل البعض في جارتها اليونان كل مايقابلون شخصاً فضاً يعتقدون انه تركي وتلك الفوبيا العثمانية تطبعت عليها أجيال يونانية بحيث غدا شعب الإغريق الوديع نتاج سنين طوال من الاحتلال التركي ، حدث لي هذا شخصيا فعند زيارتي لأثينا منتصف الثمانينات سألوني بعض من أهالي اليونان مرتين هل انت تركي قلت لا ولماذا رغم أن ملامحي عربية صرفة وتلك الملامح لدى ساكني جنوب تركيا وخاصة من أكرادها ، فقال لي مرافقي في الحادثتين ادرك ياعزيزي بأن لديهم فوبيا عثمانية!

الصراع فيما يمكن مجازا تسميته بربيع تركي اشبه بربيع تونس في جزئية الصراع بين التوجه العلماني الذي تطبع به الشعب التركي لما يقارب القرن والتونسي لأكثر من نصف قرن فحزب العدالة والتنمية يجتر تاريخ تركيا وأمجادها مقرونا بمنجزات اقتصادية لا احد ينكرها، ورغم ذلك يواجه بممانعة اجتماعية من طبقة المثقفين والفنانين تحديداً لاعتقادهم بأن رؤى حكومة اوردغان تتسلل بهدؤ لفرض نموذج اسلامي وقد يحد من بعض الحريات التي تحققت ، وبالنسبة لتونس فأن تراث البورقيبية في العلمانية وما حققته من تحولات اجتماعية بعضها لصالح المرأة حيث سُنت القوانين كالزواج بأمراة واحدة ولهذا فأن أصحاب الاتجاه العلماني يواجهون بقوة تصاعد الأصولية والإسلاميين في تونس الذين هم احد اعمدة الترويكا الحاكمة !

وأجمالاً فأن الصراع في تركيا يبدو ظاهرياً تذمر من شئ ولكنها في واقع الحال أشياء أخرى ذو أبعاد عدة تتلخص في الصراع بين الكمالية التي عمقت جذورها لعقود مضت ومن يدعون بالعثمانيون الجدد أصحاب المشروع الإسلامي وفق رؤية حزب العدالة والتنمية ، وفعلاً تعدد أسباب ربيع العرب وربيع العجم ولكن في بعضها الهم واحد!


في السبت 08 يونيو-حزيران 2013 03:47:49 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=20768