دور الإعلام في إنجاح الثورات ونقضها
خالد الطراولي
خالد الطراولي

قالوا عنه في القديم إنه السلطة الرابعة، لكن هذه الحقيقة تهافتت اليوم، الإعلام هو السلطة الأولى في البلاد، تغير الثقافات وتشكل العقول، تمجد من شاء وتجعل له شأنا ومقاما وتلبسه صولجانا ودرة، وتضع من تشاء وتجعله أضحوكة الناس، تسجن البعض وتعلق البعض الآخر في المشانق تحت تصفيق القوم وفي هستيريا الزغاريد!

إن التاريخ الحديث يؤكد ذلك، وانظروا إن شئتم حملات التمليك والترئيس والتوريث في عالمنا الصغير وسترون بعد تروٍ قبول اللامعقول واللامنطقي في مشهد عام مزيف ومغشوش. وقد تفطن بعض المحترفين للسياسة والطامحين لسدة الحكم كيف تؤكل الكتف، وأن الباب الإعلامي على سعته، باب الصوت والصورة والكلمة المنشورة، هو الباب للوصول ثم التنفيذ..

مر من هنا برلسكوني في إيطاليا ويحاول غيره امتطاء نفس القطار على عجل..

ولعل هذا التمشي الجديد لاقتناص السلطة قد تأخر قليلا حيث يتجلى منذ زمن طويل كيف تخترق هذه السلطة العقول كما تخترق الجدران، وتتنزل في صلب مخيال الناس وعواطفهم ووجدانهم قبل أن تتنزل في فناء بيوتهم وأروقتها، فالفعل السياسي يبقى فعلا يعيش على هامش الموقف يدغدغ العقل ويستنهض العواطف دون الإبحار الجدي في معاقل المنطق والوعي.

الربيع العربي مرّ من هنا

لم يعد مخفيا دور الإعلام في توجيه بوصلة الربيع العربي ومساندة فعله وإنجاح مساره، وقد أجمع الكثير على الدور الإيجابي لقناة الجزيرة في تحميل الصورة شرقا وغربا، فكان المواطن العربي يتابع الحالة التونسية في لحظات ولادتها وهو يستجمع إحساسه وتاريخه ويستشرف بناء نفس الفعل لديه، تاركا عامل الخوف واللامبالاة وراءه.. شعوب عربية التقطت الصورة والصوت واستلهمت الفكرة وأنزلتها في موطنها، واسألوا إن شئتم شوارع القاهرة ودمشق وصنعاء وطرابلس وغيرها وستجدون نفس الصورة والصوت الذي أسقط ثوب الخوف ودفع إلى الثورة واقتلاع الاستبداد.

"رابعة" تمر وتؤكد

إن الثورة ملحمة انطلقت شرارة، استغلها من استغلها، ووظفها من وظفها، وركبها من ركبها، لكنها تبقى كلمة صدق ووفاء، ولحظة ثقة عالية وصافية قامت بها عقول وأياد نظيفة وقوافل من الشهداء!

هذه المهمة النبيلة التي قام بها الإعلام الثوري وساهم في إنجاح النقلة الثورية ومسارها، كانت درسا ورسالة إلى الفلول من الأنظمة البائدة ولأصحاب المصالح القديمة، أن العودة واسترجاع المواقع لا يكون إلا من نفس البوابة التي هُزموا منها، فكان الإعلام البوابة الممنهجة للثورة المضادة، وبدأت مسيرة الهدم و"البناء".

"أكلونا من الإعلام فسنأكلهم منه!" هذه هي المنهجية، ولكن على خلاف الأولى، كانت خليطا من مبالغات وكذب وتجاوزات على المباشر للخطوط الحمراء، فلا قيم ولا مبادئ ولا أخلاق ترعاها. واستدعي كل طرف له مصلحة ضيقة أو واسعة في العودة إلى الوراء وحبك السيناريو، وعلا الجميع المنصة وأخذت فصول المسرحية تتوالى دون كثير من ضجيج.

كانت "بلطجة" في مستوى الكلمة والصورة، واعتداء صارخا على مخيال الناس وعقولهم، لتكييف الوضع والتمهيد للانقضاض عليه من جديد.. واستدعيت من أجل ذلك كل الأدوات والأبواق والأوراق، ووقعت تعبئة ضخمة سال فيها المال الفاسد من كل الأروقة وامتلأ الإناء! وانظروا إن شئتم إلى الحالة المصرية خاصة، والحالة التونسية. فالقضية أصبحت قضية حياة أو موت!

إنها منهجية محددة ومضبوطة ليس للعفوية فيها مكان، أجندات الداخل والخارج تلتقي، سلبيات الخصم وسقطاته تضخم أو تنتج من فراغ، ثم إدخالها رويدا رويدا إلى مخيال الناس وعقولهم، منهجية ذات خمس مراحل:

- مرحلة الزعزعة والتشكيك: وتتمثل في سحب الثقة في كفاءة الطرف المقابل، وسلب كاريزما أصحابه وجدية مواقفهم، وتعويم كل ذلك في سلة من كلمات وصور الضحك والسخرية وتسويقها على أنها حقيقة من يحكمون البلاد.

- مرحلة الإغراق: وذلك عبر إحداث فراغ في ذهنية المتلقي حتى يجد نفسه كالغريق خائفا مرتعدا يبحث عن ملاذ وعن بديل يروي ظمأه وينقذه من براثن العدم والعبث وعدم المسؤولية.

- مرحلة التعبئة: بدخول قوافل "المتخصصين والدكاترة والخبراء وأصحاب العلم والكفاءة النظرية والتطبيقية" على الخط، لرج ما بقي من قناعات، عبر منهجية ليّ الأرقام والمعطيات، وغربلة المستندات وحصر القراءات في قراءة واحدة "الحالة سواد لا بصيص فيها ولا أنوار آتية، والحل الوحيد في تجاوزها وطرح البديل الوحيد والمنقذ".

- مرحلة الانقضاض: عبر مجيء المهدي المنتظر على الأقدام أو على ظهر دبابة، متخفيا في لبوس الثائرين والثوار الجدد، وهنا تدخل الآلة الإعلامية في أقوى حراكها لدفع الناس بالقبول والاطمئنان إلى أن البلد لن يسقط في الفراغ ولن تنتابه الفوضى ولا العدم.. كل شيء يُعبأ من أجل لحظة الصفر للانقضاض و"تحمل المسؤولية التاريخية لحماية الوطن" و"قبول تفويض الجماهير"!

- مرحلة التثبيت: عبر منهجية الترويع والترهيب والكذب البواح لتشويه الطرف المقابل وإقصائه واستئصاله نهائيا من المشهد، مرحلة حمراء قانية تسيل فيها الدماء أنهارا، ليس للعقل فيها وجود، ولكنها مرحلة وجود.

هل الشعب دمى متحركة؟

هذا هو السؤال المنهجي والمغيب، نعم ليس استصغارا ولا تحقيرا لدور الشعوب في تقرير مصيرها، ولكن القابلية للاتباع والانجرار وراء كل صوت ناعق ولو كان في غير ثياب الصالحين متوفرة، وهو رهان أصحاب الثورة المضادة.

إن حالة الوعي المهتزة، والوضع المعيشي المتأزم، وأخطاء السلطات الثورية، والضغط الإعلامي وآلته العربيدة، كل ذلك يجعل للحفل اللاثوري إمكانية الحصول والتمدد والنجاح، ولكن.. رابعة مرت من هنا!

هناك ولا شك في كل محطات التاريخ جزء كبير أو صغير من هذه الشعوب يبقى خارج لعبة التلقي والسذاجة، شعاره "لم تنطلِ"، مجموعة أو حالة، تضرب مفهوم النخبة القديم الحامل لأدوات الشهادات والمعلقات، لتنسج مفهوما جديدا راقيا، النخبة الواعية والمجموعة الواعية وحالة الوعي السليم، والتي تبني كيانها على بساط الوعي باللحظة وباستشرافاتها حتى وإن لم تعلق لوحة شهادة الدكتوراه في بيتها.

هذه النخبة التي تكون أمواجا متلاحقة، والتي على أبوابها يتهافت المشروع المقابل، لا يحدد منطقهم زمان ولا مكان، ولكنها منظومة أخلاق وقيم حازمة تلفها أكفان وتضحيات جسام، من أجل مواطنة كريمة وفي ظل حياة كريمة ليس لإقصاء، ولا لاستئصال، ولا لاستخفاف، ولا لاستبلاه الشعوب، لحظة وجود أو حياة.. إنها الثورة الأخلاقية والقيمية الحقيقية التي غفلت عنها ثورات الربيع العربي، ولعلها اليوم تسترجع مسارها.

*الجزيرة نت


في الجمعة 30 أغسطس-آب 2013 06:17:19 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=21882