بين سجن يوسف سيد قطب.. قراءة مقارنة
مسك الجنيد
مسك الجنيد

يدخل يوسف عليه السلام السجن في مكيدة على يد الصفوة السياسية الحاكمة آنذاك والمتمثلة بزوجة العزيز: "لئن لم يفعل ما آمره ليُسجنن وليكونًا من الصاغرين"، وهي عينها الطغمة الحاكمة مع الفارق الزمني فقط, فيسجن سيد قطب ثمنًا لآرائه وتوجهاته السياسية, ورجل بروح وفكر وأدب سيد قطب كان لابد له أن يستلهم أنموذجًا في طريق النضال ليخلق بعد ذلك أنموذجه الخاص, فأثار الاعتقال والسجن لديه مقارنة صارخة بين ما حدث ليوسف عليه السلام وما يحدث له, خاصة أن هذا الرجل – كما يرى نفسه – يحمل روح المخلص, فما كان منه إلا أن تقمص الحالة اليوسفية في الكثير من تفاصيلها, كيف لا، وهو يدرك أن قصة يوسف هي المثال: "نحن نقص عليك أحسن القصص".

ودخل سيد قطب السجن وبدأ يعيش تفاصيل الأنموذج, فإذا كان يوسف وقد راودته النسوة عن نفسه وصرف ربه عنه السوء: "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن"، فإن رب يوسف - أيضًا - سيخلصه من كيد الساسة، وهم يراودونه عن رأيه, وكما استعصم يوسف سيستعصم هو أيضًا, وكما انقلبت محنة يوسف إلى منحة فإن سيد سينتظر منحته الإلهية هو الآخر.

تفرغ يوسف في سجنه لأمرين, الأول: التعايش مع من حوله وتلمس همومهم وأوجاعهم والإحسان إليهم حتى شهد له السجناء حينها شهادتهم: "إنا نراك من المحسنين"، والأمر الثاني: الدعوة إلى جوهرالتوحيد: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
وفعلها سيد قطب, فكان يهتم لأمر المحيطين به في السجن ويذكر التاريخ أن أهله كانوا يجيئونه بالطعام فكان يتركه لغيره من السجناء, ولأن يوسف نبي الله قد أوتي تأويل الأحاديث والرؤى, قرر سيد قطب أن يتفرغ لتفسير القرآن بما أوتي من موهبة ربانية في استخلاص المعاني, وكما دعا يوسف للتوحيد قرر سيد قطب أن يدعو لقضية الحاكمية عوضًا عن الدعوة للتوحيد، فهو ليس بنبي، وفي الوقت نفسه يريد أن يكون قريبًا من الأنموذج الذي اختاره لنفسه، ومتناسيًا الفرق بين عصره وعصر يوسف, ودون أن يتنبه أن المجتمع في وقته - أي وقت سيد قطب – كان بحاجة لإصلاح الأفكار أكثر من الحاجة لقضية الحاكمية ومفاصلة المجتمع على أساس الحكم بجاهليته مسبقًا !!، لكن ما يُفسّر الأمر أنه، وهو السجين والمريض بالكثير من الأمراض المزمنة، كان بحاجة لفكرة عميقة وعنيفة تجعله أكثر صلابة ومقاومة للألم, كان لابد أن يشرك روحه في قضية مفصلية تغرقه في عالم الكفاح وتنسيه قسوة السجن, وفي ظل إدراكه أنه أوتي من السحر والبلاغة ما يجعل حتى ناقديه ومعارضيه يقرون له بهذه المقدرة الأخاذة, كتب بلغة لم يعهدها الناس وفسّر القرآن، وكأنما كان يمتلك غواصة تأخذه من سطح الفكرة إلى عمق بحار المعنى دون أن يتعب من الغوص, وحتى لا يتهمه الآخرين بسبب مقدرته الُّلغوية على حذلقة الأفكار, أكد على أن الأثر الذي يتركه في الناس ليس لموهبته اللغوية، بل لإيمانه الذي يبث الروح في اللغة، فقال: "إن السر العجيب في قوة التعبير وحيويته ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات، وإنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء المدلول, وذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة من حركة روحية المعنى إلى واقع ملموس".
(الحاكمية) إذا كانت رسالته وشغله الشاغل, فيوسف خرج من السجن ليصبح حفيظًا على خزائن مصر، وعلى غرار ذلك فاسترداد المجتمع المسلم الذي يخضع للحاكمية لن يكون إلا بالوصول إلى سلطة "العزيز"، والوصول لهذه السلطة يقتضي المواجهة, مواجهة كل سلطة لا تُحكّم شرع الله في أدق التفاصيل وبحرفية لا تترك معها مجالًا للتنفس..!
وكانت الحاكمية حلم سيد الأكبر فقاتل عن فكرته بشراسة، وهو الأديب الشفاف, فكانت شراسة آسرة, ووظف سحر بيانه في المنافحة عنها أمام المجتمع الجاهلي والأعداء المحتملين, تلك الشراسة الأدبية لا الفقهية – لأن سيد قطب كان أديبًا أكثر منه فقيهًا – فسّرها أتباعه المضطهدون أيضًا، والذين لا يملكون روحه المحلّقة أصلًا، والتي ترفض العنف المادي بالفطرة ثم بالإحساس المرهف والشفاف. أنها دعوة مفتوحة للجهاد المسلح والعنف المادي ضد الآخر الذي يُمارس الإقصاء والبطش بالمقابل, وحصل ما حصل من ظهور للتيار الجهادي أو القطبي نسبة لتأثره بتفسير أفكار سيد قطب لا أفكار سيد قطب بعينها.

خرج يوسف من السجن بتدبير إلهي, ومكث سيد قطب في السجن وطال مكوثه, فازداد تمترسًا وراء أفكاره وعلت نبرة المفاصلة لديه، وكفر بمجتمع القطيع والجاهلية الذي يسعى في الأصل لخلاصه.
لن يكون يوسفًا آخر إذًا, وصدر الحكم بإعدامه, وتفرّغ لكتابة مواقفه الإيمانية الأخيرة بأفكاره عملًا لا قولًا, سلوكًا لا نصوصًا.. هل هي محاولة لتقمّص المسيح المصلوب؟.. من يدري؟!.
ويبلغ سيد قطب منتهى السخرية من الظالمين بالثقة المطلقة بالله، فيقول هازئا لرجل جاءوا به يلقّنه "لا إله إلا الله" أمام منصة الإعدام ليكملوا نصوص المسرحية على تعبير سيد نفسه: "ويحك، وهل أُعدم إلا من أجلها".!!
وابتسم سيد قطب في مواجهة الموت، فقد كتب تأويلاته بروحه أملًا في الوصول لأنموذج يوسف – مع حفظ الفارق بين النبي والإنسان العادي - وصار للسجن معنى آخر غير القيود، وربما صار رمزًا للحرية لكل من يرفض أن يراوده أحد عن رأيه وقناعاته.
 


في الخميس 05 سبتمبر-أيلول 2013 07:01:24 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=21962