اغتصاب الشرعية
عبدالباسط الحبيشي
عبدالباسط الحبيشي

توقفت عن الكتابة منذ مده طويلة تتجاوز الخمسة أعوام لأسباب عديدة لا يسمح هذا المقام بسردها لكن ما يثلج الصدر ويجدد الأمل هو ارتفاع عدد الكتاب والصحافيين الذين وبحمد لله لا تفوتهم شاردة أو وارده إلا وتصدروا لها من زاويـا متعددة في الصحف المحلية والصفحات الإلكترونية وغيرها و ما استرعى انتباهي هو غياب الكتاب المتخصصين والعلماء الأساتذة الذين تتلمذت على أيدي بعضهم لاسيما في العلوم ألاجتماعيه والسياسية أمثال الأستاذ عبدة عثمان والدكتور عبد الملك المقرمي والدكتور قايد الشرجبي والدكتور حـــمود العودي المتخصصــين بعلم الاجتماع.

وما أحوج اليمن هذه الأيام لمثل هؤلاء الأفذاذ لدراسة وتحليل المشهد اليمني واستخلاص العلاج للظواهر ألاجتماعيه المتشابكة منها والمتضاربة المختلفة التي استشرت وتقيحت في أنساق المجتمع اليمني وأودت به إلى ما هو عليه اليوم.

وعندما سألت عنهم فوجئت بان بعضهم قد استشهدوا والأخر يحتضر، فاعتبرت أن كل من يموت في اليمن هو شهيد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى خاصة أولئك الذين تركوا أثارهم وبصماتهم واضحة للأجيال، وأن من يعيش في هذه البلد المنكوبة هو مناضل ومحارب من الطراز الأول باستثناء الطفيليات التي امتصت دمائه وتوحشت بأنياب سامه تنهش في لحمه وعظامه دون إحساس كالجوارح ألضارية والضباع البرية.

ما أود الإشارة إليه هنا أن الكتابة عن قضيه معينه أو حادثه أو صراع من الصراعات السياسية آو المسلحة علي الساحة اليمنية لا يمكن الخوض فيها بمعزل عن المشهد العام للخلفيات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية لأي مجتمع من المجتمعات "كحرب صعده" مثلاً، ورغم ذلك فقد انبهرت لوجود بعض النفحات والومضات المنيرة والمتألقة.

لبعض الكتاب والمعلقين التي حين اقرأها اشعر بالسعـادة والأمل خاصة لكتابات العنصـر النسـائي اللاتي لم تتلوث أقلامهن بدجل وعهر السياسة اليمنية، حيث أجد في هذه الكتابات ما يثلج الصدر لما يتدفق من صدق و براءة الحب العذري للوطن وما ينطوي في كلماتها من الم ومرارة لما آل أليه اليمن وشعبه الطيب، وما يثقل على أنفاسه من جراح ومعاناة في مهد الحضارات، كمــا يلفت انتباهي أحيانا بعض خيوط النور التي تنفذ من الشقوق لتلقي الضوء على عتمة المكان والتـــي تتمثل في بعض التعليقات على المقالات في الصحف الالكترونية وبأسماء مستعارة أكثر الأحيان والتي تطرح بصيغ مهذبه وأساليب علميه تدل على الوعي الاجتماعي والعمق السياسي والحس الوطني العالي لدى الأغلبية.

ما دفعني أدلي بدلوي في محاولة متواضعة لكتابة مقاله أولية تضع بعض الخطوط ألعامه لبعض المسائل الهامة التي ألمت ببلادنا الحبيبة على أن اترك التفاصيل لمقالات منفصلة لاحقا، و لا ادعي هنا باني اكتب تاريخ لان هذا له رواده وإنما اكتب انفعالاتي الشخصية عن تجربة عشت في ثناياها وتمرغت بطموحاتها وآلامها واحباطاتها وعانيت من انتكاساتها وانكساراتها على مدار ثلاثة عقود من الزمن.

لذا فاني اعتبر مثلا أن حرب صعده ليست قضيه مستقلة أو منفصلة عن السياق التاريخي للحدث اليمني بل انها تشكل إحدى التراكمات الكبرى في منعطفات الوعي الجماعي للذاكرة اليمنية التي ستضاعف من تعقيدات الواقع السلوكي في حاضر ومستقبل ألامه، ما لم يتم تفصيصها وفرزها وتحليلها بشكل علمي متجرد عن الشطحات والانفعالات واستعراض العضلات على خشبة المسرح السريالي في محاولات الظهور للبعض على حساب قضايا مصيرية أولى بان تتكاتف حولها كل السواعد لإنقاذ ما تبقى من شذرات أمل في الركام الهائل المحترق الذي خلفه العبث الطفيلي خلال الثلاثة العقود الماضية, فإنها ولاشك ستعمق الجراح في نسيج المجتمع اليمني وستضاعف من الهرولة نحو قاع التشرذم والعدمية الإنسانية .

كما أن الوصول إلى مجرد الحلول الجزئية أو المؤقتة اعتقادا من البعض بأنها ستؤدي إلى تجاوز الفتنة , ربما صحيح , لكن نارها ستظل مشتعلة تحت الرماد الباردة , وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا زالت أثار حروب 86 و 94 واغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي والرئيس سالمين وانقلاب 79 ونتائجه الدموية وغيرها مازالت عالقة ومعلقة لأنها لم تعالج بشكل صحيح ومضمون بل على طريقة الإسلام يجب ما قبله ولكن إين الثراء من الثرياء.... لذا تجدنا نخرج من مشكلة لندلف في أخرى لتحقيق التراكم السلبي المطلوب والمخطط له سلفا من غيرنا.

لذا فان حرب صعده ليست البداية ولن تكون النهاية لأنها عبارة عن حلقة في مسلسل يمني درامي بدا تاريخها مباشرة بعد حرب 1994م ولا تمت بصلة لمؤامرات أمريكية أو فرنسية أو ألمانية, وهي أيضا ليست نتيجة تدخلات إقليميه إيرانية أو ليبية كما حاول أن يصورها أطراف الصراع بل هي مخلفات السياسات الداخلية الخاطئة في إدارة ألازمات ومحاولة تجييرها على حساب نزوات وأحلام أجنبية , وهي بالتأكيد ليست صراع مذهبي أو طائفي أو عرقي أو مناطقي كما يروج له البعض الأخر لكنها متساوقة مع مؤامرة النظام المحلي في تفكيك وخلخلة النسق الاجتماعي المترابط للأسرة اليمنية بما يخدم المصالح الدولية في إطارا بعادها الإستراتيجية.

قام الطرف الأساسي في الصراع على استنباط مفردات من قاموس العولمة يباركها النظام العالمي الجديد كمبرر لضربه الطرف الأخر في حرب عبثيه أدت إلى قتل وإصابة الآلاف من اليمنيين وهدم العشرات من القرى ألأمنه وإهدار الثروات الطائله من أموال الشعب اليمني المغلوب على أمره, ورغم ابتعاد هذا المبرر عن الأسباب الحقيقية للصراع, فضل الطرف الأخر الصمت, مستمرئاً الاتهامات التي تصب في مصلحته لأنها تعترف بوجوده ككيان قوي يحارب النظام الفاسد وترفع من شعبيته كقوة مناهضة لأعداء العرب والمسلمين.

قد يعود جذور هذا الصراع, إذا أردنا استقراء خلفياتة التاريخية, إلى ما قبل قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م حيث كان يفترض على الأنظمة المتعاقبة ردم آثاره نهائيا كتطور حتمي في مراحل الثورة اليمنية لكن فلول الرجعية وقوة التدخل الملكي المدعوم دوليا مستغلا الظروف المحلية حال دون ذلك بل ساعد على استفحاله وتغوله.

رغم أن هذه الأنظمة حاولت قدر ما تستطيع القضاء عليه لكن لقصر فترة حكمها وقرب مدتها من عهد الثورة واجهت صعوبات كبيرة في اقتلاع جذوره.... حتى وصل الرئيس إبراهيم الحمدي إلى رأس السلطة بمشاريع وبرامج وطنية ووحدوية متكاملة انصدمت بالتيارات الآسنة التي قضت عليه وعلى مشاريعه لاحقا ونصب علي عبد الله صالح.

ومن ناحية أخرى ينبغي وجود دولة لأنه لايمكن ان توحد بلاد دون اركان دولة الا اذا كنا في الزمن المشاعي او الإقطاعي لان الدولة تعني ارض وشعب وحكومة, والحكومة تعني سلطات تنفيذية وتشرعيه و رقابة و مؤسسات مختلفة ترتبط جميعها بقوانين وانظمه منبثقة من عقد اجتماعي هو دستور البلاد, وتعمل هذه الحكومه لخدمة ومصلحة الوطن والمواطن بناء على هذا العقد الذي تتولى بموجبه توفير الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية لكل المواطنين في حدود هذه الأرض "الاقليم" الذي تسيطر على كل شبر فيه والذين بالمقابل لهم الحق بموجب هذا العقد تغيير الحكومة في حالة عدم الايفاء ببنوده.

هذه القاعدة اولويه تصطدم وتتعارض مع المؤسستين أنفتي الذكر فضلا عن تعارضهما حتى مع الأنظمة الديكتاتورية الذي تستمد سلطتها من دولة مؤسسات مع الفارق. فلكي تسيطر هاتين المؤسستين على مقاليد البلاد ونهبها من الوريد الى الوريد كما حذر الحمدي في اخر خطاب له لا بد من هيكلة الدولة أي تفريغها من مضامينها الحقيقية وتشغيلها بأدوات واليات مختلفة, فظلت الدولة بشكلها الهلامي الفقاعي لتطل على الجميع في الداخل والخارج بصوره دوله لكن واقعها عبارة عن ارض لا تقع تحت سيطرة ونفوذ الدولة وشعب بدون حقوق وحكومة عبارة عن دكاكين ايرادية تمتص أموال البلاد لتصب في جيوب المتنفذين في المؤسستين.

على نفس السياق, لم يكن واقع الجنوب بأحسن حال.. مع الفارق طبعا... حيث انتهج النظام في سنة 70 نظرية حكم مستوردة لا تمت للواقع بأي صلة حضارية او فكرية او عقائدية او اجتماعية وعندما بدأت المراجعة انتهت بصراع دامي في 13 يناير 86 ونزح طرف من اطراف الصراع الى شمال الوطن, وظل الطرف الأخر يتلمس طريقه في ظل عزلة اقليمية وتغيرات سياسية كبيرة على الساحة الدولية.

اعادة الوحدة اليمنية لم تكن هاجسا جديدا او مرتبطة بنزوة الأنظمة في الشطرين سابقا بل كانت تمثل مصير وإرادة امه تتطلع عبر أجيالها المتلاحقة بصبر وحكمه ولم تكن بحاجه الا إلى إجراءات سياسية وإدارية كان ينبغي القيام بها من قبل من تولوا السلطة دون فضل منهم. لذا فالإسراع لتطبيق إعادة الوحدة من جانب قيادات الحزب الاشتراكي كان قرارا وطنيا ووحدويا صائبا مئة في المئة لكنهم لم يراعوا طبيعة التوازنات الجيوسياسية والاجتماعية على الأرض لدى الطرف الأخر فارتكبوا الخطأ في تنفيذ الإجراءات الإدارية باعتقادهم ان الجيش يشكل توازنا عسكريا قويا في حالة انقلاب الطرف الثاني لذا عمل على تأخير اندماجه حتى يلتزم الطرف الثاني ببنود اتفاقية الوحدة, لكنه كان يجهل تماما بان لدى الطرف الأخر مؤسسة رديفة لجيشه لها نفس القوة وتزيد اضعافا الا وهي القبيلة المؤسسة التي تتفرع الى شرائح ومذاهب وتحالفات وتتماهي كالماء من تحت تبن لكنه عندما أدرك ذلك كان الوقت متأخرا حيث ان البساط قد سحب من تحت قدميه وعندما فوجئ بالحرب وجد ان عسكر الطرف الأخر ليسوا وحدهم, فاتخذ قرار الانفصال المشئوم الذي قصم ظهر البعير وقدم زخما غير مسبوق للطرف الأخر.

بإعادة الوحدة صيغ ولأول مرة مشروع قيام دولة يمنية حقيقية "المشروع الحضاري" الشعار الذي طالما رفعه الاستاذ علي سالم البيض واعتماد النهج الديمقراطي كشرط أساسي للوحدة وبناءً على ذلك تم رفع شعار "حرق الملفات" القديمة وفتح صفحة جديدة مشرقة في سماء اليمن الموحد وبناء المدماك الأول للوحدة العربية! أليس كذلك؟؟....... صدق الشعب اليمني بكافه فئاته وقطاعاته بشعار حرق الملفات لانه هنا ينطبق فعلا على مقولة "الاسلام يجب ما قبله".

لكن وللأسف الشديد لم تكن هذه نوايا علي عبدالله صالح ومؤسستيه العسكرية والقبيلة أنفة الذكر كان لديهما مشروعا مختلفا وإلا لما وصلنا الى ما وصلنا إليه اليوم من تداعيات مخيفة.
تم ادارة اليمن الموحد بعقلية الفيد والغنيمة بعد حرب 94, لكن الشركاء تجاوزوا حدود الغنيمة والفيد واصبحوا يطالبون بدو اكبر في السلطة والحكم, لهم ولاولادهم ايضا, بما في ذلك منصب الرئاسة نفسه, والشريك.. غير الموظف من الصعب اقصائه او فصله او اقالته لانه يمتلك نفس السلطة والنفوذ اذا لم تكن احيانا اكثر... لاسيما وان بعضهم شركاء مزدوجين أي عسكر وقبائل.

 


في الثلاثاء 07 أغسطس-آب 2007 06:03:51 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=2298