أين تسهر هذا المساء؟: دمي ودموعي وابتسامتي في اليمن

حكم البابا

دمي ودموعي وابتسامتي في اليمن

الفيلم التلفزيوني الطريف الذي قام ببطولته الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، في إعلان عدم رغبته بالترشح لولاية دستورية جديدة، ثم تنازله عن تعففه عن السلطة، وقبوله ترشيح نفسه تحت ضغط الجماهير التي خرجت في شوارع صنعاء، مطالبة إياه بالركوب فوق ظهورهم لولاية دستورية جديدة، كان بحاجة إلي كاتب سيناريو ومخرج أبرع من اللذين استخدمهما الرئيس صالح في انتاج هذا المشهد التلفزيوني الرومانسي الفكه، الذي يكاد يكون منسوخاً عن حبكات أفلام مثل دمي ودموعي وابتسامتي و لا يا من كنت حبيبي في أواخر السبعينات، حيث تباعد الأقدار بين أبطالها حسين فهمي وميرفت أمين أو محمود ياسين ونجلاء فتحي، وتقف المصاعب في وجه قصص حبهم، ويعيشون عذاباً رومانسياً، تصوره مشاهد تنزههم وحيدين علي شاطئ البحر، وكل منهم يفكر بالآخر، ولابأس من إضافة بعض الأغنيات لو سمحت ميزانية المنتج، وحتي لا تزعل زوجة كاتب السيناريو، وحتي لا يخرج متفرجو الفيلم من صالات السينما مكسوري الخاطر، ويوصون أصدقاءهم بعدم مشاهدة الفيلم لأنه يحطم القلب، وحتي لا يخسر المنتج أمواله فيما لو استمع الأصدقاء إلي نصائح من شاهد الفيلم، يتغلب الحبيبان علي المصاعب، ويزيلان أية عقبة تقف بوجه سعادتهما، وينتهي الفيلم بانتصار الحب، وتظهر كلمة النهاية علي بروفيل الحبيبين المتعانقين، ويخرج الجميع سعداء من الفيلم، بطله وبطلته، ومشاهدوه وأصدقاؤهم الذين سيدفعون ثمن التذاكر لمشاهدته، والمنتج الذي سيلم فلوسه من شبابيك التذاكر.

علي نفس هذا القالب الدرامي البسيط سارت قصة تنازل الرئيس اليمني عن ترشيحه، ثم تنازله عن التنازل عن الترشيح، مع اختلاف بسيط في الأحداث، فالمخرج لم يظهر لنا الرئيس صالح يمشي علي شاطئ البحر، مفكراً في الجماهير التي يحبها، ومتألماً من أعماق قلبه لفراقها، فمن المؤكد أن هذا المشهد خضع لمقص الرقيب الذي رأي أن الرؤساء العرب لا يضعفون لأي سبب حتي لو كان حب الجماهير، لكن المخرج لم يغفل عواطف الطرف الآخر، فخرجت الجماهير رافضة فراق الرئيس لها، ولم يكن ينقص المشهد اليمني إلا قيام هذه الجماهير بأداء أغنية دقوا الشماسي ع البلاج ليقرأ باعتباره انتاجاً سينمائياً فنياً، لا حدثاً سياسياً.

 

من الكوميديا إلي الميلودراما

لو قررت جامعة الدول العربية إنشاء فرقة مسرحية كوميدية، تشارك فيها بمهرجان عالمي للعروض الضاحكة، وأحضرت لجنة عالمية من خبراء انتقاء الممثلين الكوميدين، فلن تعثر هذه اللجنة علي أعضاء لفرقة الجامعة العربية المسرحية الكوميدية علي أشخاص أكثر إضحاكاً علي المسرح من الزعماء العرب، علي الرغم من أن شعوبهم تبكي دماً لا دموعاً منهم، ولو بحثت هذه اللجنة ِعن الزعيم الأكثر دغدغة للخواصر بينهم لتسند إليه الدور الرئيسي، سيكون بالتأكيد صاحب النصيب الذي سيقع عليه الاختيار الزعيم الليبي معمر القذافي، كونه يقدم في العادة أكثر العروض امتاعاً وهو في منتهي الجدية، لكن هناك مشكلتان رئيسيتان ستمنعان قيام أي عرض لهذه الفرقة المسرحية، أولهما أن الزعيم الليبي سيرفض تقديم عرضه في أي بناء مغلق، كونه مصاب بعقدة الخيم، وثانيهما أن نظرات الزعيم الليبي تتجه دائماُ إلي الأعلي، وكأنه ينتظر وصول كائنات من الفضاء، ومن الصعب بناء مدرجات علي درجة من العلو للمشاهدين تمكنهم من النظر إلي عينيه مباشرة، ورغم كل هذه المصاعب فلا يمكن تفويت فرصة متابعة عروض الزعيم الليبي، التي تكاد تكون الفقرة الوحيدة التي تستحق المشاهدة علي الفضائية الليبية، لكن المفاجئ وغير المتوقع والمثير أن يتخلي الزعيم الليبي عن صورته المحببة الضاحكة، ويعود إلي وضعه الميلودرامي الطبيعي، ويصبح واحداً من الزعماء العرب التقليديين، فيناشد الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بأن يتراجع عن قراره بعدم الترشح لولاية رئاسية جديدة في بلاده، قبل أن يقرر الرئيس اليمني التراجع بالفعل.

مناشدة الزعيم الليبي للرئيس اليمني بالترشح لولاية دستورية جديدة، دافعها الأول والأخير هو أن لا يصبح عزوف الرؤساء العرب عن الترشح للرئاسة من جديد موضة تجتاح الوطن العربي بأكمله، فيما لو كان الرئيس اليمني قد أصر عليها وفعلها، كما أصبح توريث الحكم أحدث تقليعات الموضة الرسمية في الجمهوريات العربية.

 

صورة الزعيم التي يفضلها المواطن العربي

كنت أظن إلي وقت قريب بأن أفضل الصور التي تحب الجماهير العربية ـ بمن فيهم هتيفة بالروح بالدم نفديك ـ أن تراها للزعماء العرب هي صورهم في جنازاتهم محمولين لآخر مرة علي الأكتاف في توابيتهم، وأن المشاركة الكبيرة للشعوب العربية في جنازات حكامها، وتدافعها للمساهمة بحمل نعوش زعمائها، لم تكن في يوم من الأيام بدافع الحب أو الولاء أو الوفاء، بل لحرصها الشديد علي نقل جثامين هؤلاء الزعماء وتسليمها إلي يد عزرائيل شخصياً، بحيث يقطعون الطريق علي أية فرصة لمفاوضات أو تراجعات أو تغيير آراء أو محاولات عودة، ويتأكدون من خلال استخدام حواسهم الخمس كلها دفعة واحدة، بأن زعماءهم، قد غادروا الحياة فعلاً إلي غير رجعة، لكن متابعتي لجلسات محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين غيّرت قناعاتي، بحيث أصبحت أري بأن الصورة المثلي التي يفضل المواطن العربي مشاهدتها لأي زعيم من زعمائه، هي رؤيته في قفص محكمة.

صورة صدام حسين في المحكمة، هي أهم خدمة قدمتها القنوات الفضائية للمشاهد العربي منذ بدء البث التلفزيوني الفضائي وحتي اليوم، ولو لم يكن لقنوات مثل الجزيرة والعربية والحرّة انجاز صحافي، أو متابعة اخبارية، أو بث مباشر يذكرون به سوي نقل جلسات محاكمة صدام حسين لكفاها، لأنها صورة استثنائية في كل التاريخ العربي، لم يتجرأ أخصب المواطنين العرب خيالاً علي الحلم بها حتي في منامه، ومعناها الرمزي يكاد يشبه مشهد تحطيم آلهة قريش اللات والعزي ومناة وهبل بعد فتح مكة، وتأثيرها النفسي سيغيّر بالتأكيد تاريخ الاستبداد في المنطقة العربية.


في الإثنين 26 يونيو-حزيران 2006 11:46:51 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=281