المجد والخلود لروح بطل المواجهة والصمود
علي كاش

مأرب برس – خاص

" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" صدق الله العظيم.

تعسعس الليل مجنون يتلوى كعربيد أسطوري وهلً القمر من عليائه بهالات من إشعاعه الفسفوري معلناً قدوم ضيفه السنوي خفيف الظل عيد الأضحى المبارك, ولكن الصمت والترقب فرضا طقوسهما على الجميع ففي الدهاليز المظلمة وألاقبية النتنة كانت تحاك خيوط المؤامرة فقد تجمعت الأشباح على طاولة الفجائع وهي تخطط لقتل العيد مع صلاة الفجر بطعنة غادرة من خنجر أبي لؤلؤة الفارسي.

وراحت الناس تتساءل عن سرً الليلة الليلاء التي جثمت فوق صدورهم بكل ثقلها, واستذكروا بأن القمر لم يكن نفسه فلقد نزع ثوبه الناصع البياض وظهر بحداده الأسود, وتلبدت السماء بغيوم مكفهرة سوداء تضرب بعضها البعض بسياط شديدة فترعد من الألم وتبرق بهزيم جاحظ ومخيف, وبين أنين وأنين تفقد رباط جأشها فتجهش بنوبات مريرة من البكاء, وتنساب دموع غزيرة على خدود الأرض الوديعة ليطفأ ظمأها وهي تناشد الضمائر النائمة بأن ترجئ حفر قبر جديد, فللدين حقه وللأخلاق حقها وللتقاليد حقه وللناس حقهم ولبسمة الأطفال حقها؟ ولكن " لقد أسمعت لو ناديت حياً*** ولكن لا حياة لمن تنادي " فيتلاشى صوتها الرخيم شيئا فشيء في الأفق البعيد, ليرتفع عواء شرذمة من الذئاب.

جاء عيد الأضحى ولكنه لم يكن العيد نفسه فلم تهل ليالي القمر ولا فاضت مشارف الصبا, ولم تصدح حنجرة أم كلثوم " الليلة عيد الليلة" فقط صمت رهيب فرض جبروته على مآذن الجوامع وأجراس الكنائس فأسكتها؟ لا تكبير ولا أدعية لا خطب ولا مواعظ ولا زيارات لا مرح الأطفال وزعقهم ولا ملابس جديدة ولا زغاريد للنساء اللواتي انكفئن في الزوايا متشحات باللباس الأسود, لا تهاني ولا أمنيات ولا زيارات ولا دعوات, فقد انزوت الأفراح مبكرة متسللة إلى محاجرها معلنة اعتكافها الأبدي كراهب متصوف نذر نفسه إلى ربه واعتزل الناس في صومعته. كانت الشوارع فارغة كأنها خرائب تسكنها الأشباح وتنعق فيها البوم ساخرة من عمي الخفافيش, في حين اكتظت المقابر بقاطنيها الجدد من الشباب, تتكئ عجوز على قبر أبنها الوحيد وقد غزت وجهها التجاعيد لتهمس للقبر" ولدي كانت أمنيتي أن تقوم بدفني يدك الفتية, لا أن تقوم أمك العجوز بدفنك"؟ وتصرخ عجوز أخرى " قتلوه لأن أسمه عمر" ويردد الصدى " قتلوه لأن أسمه"علي" ويفك كهل يستند على عصا ملتوية كأفعى هذا الطلسم " قتل ولداها عمر وعلي" فهي شيعية وزوجها سني أستشهد في حربنا الضروس مع إيران" ولم يبقى لها أحداً !ويسترسل" كل شيء دمر وخرب في البلاد باستثناء المقابر فأنها توسعت وتطورت بفعل سواعد حماة الديمقراطية الجديدة وسدنة الفدرالية والحرية.. إنا لله وإنا إليه راجعون".

تدور المأساة في فلك العراق ولم يتبين للكثير منا الخيط الأبيض من الأسود فبقينا على صيامنا, يشلنا الظمأ والجوع لسبر كنه ما يجري؟ كانت النتائج متوائمة مع الأسباب وهي نتائج كارثية بكل ما للكلمة من معاني الدمار والتخريب والقتل والسلب! لقد أرادوا إسقاط نظام فمحوا دولة؟ وأرادوا رفاه شعب فجوعوه وأرادوا حرية شعب فسجنوه داخل جدرانه أو نفوه خارجه؟ أدعوا وحدة الوطن وإذ بهم يجزئوه إلى كانتونات ضعيفة؟ أدعوا ببذر الرفاهية فجنينا الشوك! أعطونا الدواء فإذا به سم زعاف ينهش في أحشائنا ؟ قدموا لنا السلاح لا لندافع عن وطننا وأنفسنا وإنما لنقاتل بعضنا البعض؟ بشرونا بولادة الديمقراطية فإذا بهم يقتلونها في مهدها؟ كان الظاهر عكس الباطن أنها تقية امبريالية تعلموها من مراجعنا ومارسوها ضدنا بكل وحشية وسادية, لقد بان معدنهم ألردي منذ الوهلة الأولى لكننا كنا نجهل أو نتجاهل فنسلمهم العذر بكل ممنونية, ونقبل بمبرراتهم السمجة برحابة صدر, وكانت المحصلة النهائية أننا أصبحنا الضيوف وهم رب المنزل؟

زفوا مفاجئة غريبة للصوص والمجرمين وقطاع الطرق بحل الشرطة؟ وزفوا بشرى سارة لإيران وإسرائيل بحل الجيش العراقي؟ وزفوا أخرى للأكراد بتقسيم العراق إلى كانتونات فدرالية, وزفوا بشرى أخرى للشيعة بأحياء غدير خم. عفروا دولة كبيرة بالتراب ومحقوا مؤسسات عظمى برمتها ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم القذرة وما تبقى من فتات على مائدتهم وزعوه على الكلاب المغتربة المرابطة بقربهم لتسد جوعها التاريخي الشره؟ وحولوا شعب الذرى بين ليلة وضحاها من أبطال البوابة الشرقية إلى لصوص علي بابا؟

هذا هو العراق الجديد؟ فقد ورثه ظلماً وجوراً شياطين حمر عاهدوا أنفسهم على أن لايبقوا من التركة شيئاً للآخرين, انه العراق الديمقراطي الفدرالي الموحد وهو بديل الأسماء البالية القديمة فلا عاد بلاد الرافدين ولا أرض السواد ولا مدينة السلام ولا الجنائن المعلقة ولا سر من رأى, ولا ألف ليلة وليلة, سقطت كل التسميات وارتفعت تسمية واحدة"بلد علي بابا " مثل إعصار مدمر يلف كل ما يلاقيه تحت أبطه العفنة. لقد اغتالوا التأريخ وفضوا بكارة الحضارة. وعقموا الرجال العظام فتحولوا إلى خصيان وعبيد وأصبحت الحرائر الماجدات سبايا للروم وحلفائهم, وركل المجد التليد بالبسطال الأمريكي, وتحولت قلعة الأسود إلى جحر للفئران, أغتصب الغزاة عروبته وانتهكوا شرف قوميته وامتهنوا كرامته وعصفوا بكبريائه وشموخه... فحولوه إلى عراق الموت والخراب والكراهية والبغضاء والنفاق والانشقاق والعهر والتسويف والسلب والايدز والمخدرات.

شنق على أسواره حمورابي ورميت مسلته الجبسية المقلدة وقوانينها في حاوية القمامة, واغتيل نبوخذنصر على بوابة عشتار ورجعت سباياه الروم أميرات موقرات إلى بلاد بابل, وعصف بأبي جعفر المنصور ومدينته المدورة وفخخ رأسه في الساحة المدورة, وسملت عينا هارون الرشيد وعصف بعصره الذهبي, وعطب قلب المأمون بحرق مكتبته ومخطوطاته ومجلداته, وثقبت أذنا المعتصم بدريل حرسه الوثني فلا عاد يصل إلى نخوته هاتف أو دعوة مظلوم, وعثر على جثة المتنبي مذبوحاً من الأوداج الأربعة قرب المزابل.. فلا حيدراه ولا جعفراه ولا هاروناه ولا معتصماه ولاعبيراه, صرخات يرددها الصدى وتختطفها الرياح بخفة وتفرقها شذراً مذرا قبل أن تصل إلى نخوة الرجال مثل نيزك هوى و تشظى قبل أن يلامس المجال الجوي .

أواه أواه يا لمرارة الحقيقة علقم يشل الشفاه وييبسها ويمحقها .. سيدي الشهيد!

فهذا العراق ليس عراقك ولا عراق أجدادك ولا عراق العراقيين, انه عراق بوش وقواته المغتصبة وقد تقاسمه مع أقزامه الساديين, وتم تشريحه وهو ما يزال حياً ووزعت أعضائه على آكلي لحوم البشر يلتهمون لحمه ويلعقون دمه بنهم وضراوة وشراهة لا مثيل لها في التاريخ.. حتى هولاكو تبرأ منهم وخجل من أفعالهم!

عراق اليوم ليس عراقك فهو عراق المغتربين والوافدين والمجنسين والعملاء والعابثين والقتلة المأجورين, إنه عراق الاحتلال والشركات الأمنية والميليشيات وفرق الموت وقوى الإرهاب المظلمة, إنه عراق الأكراد و شيعة حيدر من الفرس الذين مثلوا بجثتك وهم يرقصون رقصة الموت ويقفزون كالقرود على أرض لم يدر بخلدهم إنها ملعونة وملغومة! ولا تعجب من رقصهم فهي ليست عادة عند سيخ الهند وبرابرة مجاهل إفريقيا بل عادة متوارثة عند شيعة حيدر لتفريغ مخزون هائل من الكبت وأنيب الضمير مضى عليه ألف وثلاثمائة عام كما أخبرنا العلامة الفهامة سيد العارفين والحصن الحصين ونبراس المتقين ودرة الناصحين وكنز الحافظين وبذرة الإيرانيين وصنيعة الأمريكيين مولانا الشيخ كريم شاهبوري أزال الله ظله ليوم الدين مستشار ألأمن القومي العنين في حكومة المحتلين الأولى والثانية والثالثة والرابعة والى ما شاء الغزاة الحاقدين, كانوا يرقصون ويحتفلون بمرح غامر على أنغام سيمفونية السقيفة بلحن " منصورة يا شيعة حيدر" يقودهم الاوركسترا الشهير منقذ آل فرعون الأصغر حادي ركب القضاء وسليل الطاغية فرعون الأكبر وسيكون مصيره مؤكداً كمصير جده!

عبرت شيعة حيدر عن فرحها الغامر بيوم النصر الكبير! لكن معذرة! لا أعرف عن أي نصر يتشدقون؟ وطن مستباح من قوات غازية تعيث فساداً في كل أرجائه ويهينون شعبه ويسرقون ثرواته ويخربون ركائزه الإستراتيجية, ومع هذا فأن شيعة حيدر تصدح بتراتيل البيعة على حطام وطن وركام شعب! "منصورة شيعة حيدر" فالنصر يعني السلطة حتى ولو كانت شبحيه أو زائفة كظل عصفور طائر,ولكنها السلطة فلها لمعان الذهب ورنينه وإغرائه؟ لا بأس أن يقتل مليون ويهجر أربع أضعافه وتسرق المليارات وتمحى دولة بجميع مؤسساتها.. لا بأس بذلك كله فثمن السلطة دماء وليس مال كما تحدثنا التجارب ويعظنا التأريخ, وليس ذاك بمهم المهم عودة الخلافة إلى شيعة حيدر بعد أن تم انتزاعها من النواصب و المروانيين على حد تعبير عبد العزيز الطبطبائي نائب الإمام خامنئي في العراق, حتى ولو قام جندي أمريكي بوضع بسطاله الموحل على رأس سيادة الرئيس أو نائبه أو عضو في البرلمان أو وزير عراقي أو يغتصب جنود الاحتلال حفيد مرجع ديني كبير يسير في ركبهم الملعون.. لا بأس بذلك فهذا ثمن السلطة وكل شيء يهون من أجل السلطة, السلطة قيمة عليا تفدى حسب نظرية شيعة حيدر بالدين والوطن والشعب والعروبة والكرامة والغيرة والشرف؟ إنها السلطة وما أدراك ما السلطة فقد فقدتها شيعة حيدر منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام وتلقفتها الآن, وهل هناك نصر أعظم من هذا وليقل المغرضون ما يقولوا؟ أن السلطة على أطلال وطن أفضل من العيش في وطن بلا سلطة ؟ إنها نظرية حيدرية في إدارة شؤون الرعية؟ فجمهورية حيدر ذات نهج خاص وفريد فهي ليست تقليدية كجمهورية أفلاطون أو طوباوية كمدينة كامبالينو أو فاضلة كمدينة الفارابي, وهي ولا تشبه الدول الحديثة فهي جمهورية وملكية ورئاسية في الوقت ذاته واشتراكية وليبرالية وحيادية من جهة! ودينية ووجودية وعلمانية من جهة أخرى! وديمقراطية ودكتاتورية في آن واحد! لا تعجب فهي جمهورية النقائض؟ هرمها السلطوي غريب في بابه, في أعلى الهرم النخبة والطليعة وهم قوات الاحتلال والمراجع العظمى وكبار العملاء, وفي وسط الهرم الحكومة الشبحية ومؤسساتها الطائفية الهزيلة والأحزاب السياسية المستوردة والميليشيات المسعورة, وفي أسفل الهرم الطبقة المسحوقة بنسيجها ألفسيفسائي المتعدد؟ وفي جمهورية حيدر لا توجد فواصل بين السلطات فالسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد الاحتلال فقط, ومع هذا تتبجح شيعة حيدر بتسلمها السلطة؟

لا بأس بكل ذلك! ولكن شيعة حيدر تبغي تحقيق الانجازات الكبرى فسجلها لم يسجل سوى المخازي والمهازل وكان لا بد من سطر مأثرة ولو واحدة! فعلا تم ملأ الفراغ بانجاز عملية إلاعدام واختير في أقدس يوم عند المسلمين! فتحولت المأثرة التي عقدوا آمالهم عليها إلى جريمة كبرى ووصمة عار سرمدي؟ فشيعة حيدر لم تأبه وتبالي بشريعة حيدر العظمى بتحريم القتل في هذا اليوم المقدس, ولم تبالي بصيحات الشجب والاستنكار على كافة الأصعدة؟ فقد نفذ الإعدام بناء على قرار صادر من محكمة شيعية حيدريه في جلسات قره قوشية تناقض مبادئ حيدر العظمى, وكان فارس المحكمة ومدعيها العام فرعون الأصغر من شيعة حيدر, وهم نفذوا أرادة خامنئي سليل جدهم حيدر, بعد أن أفتاهم مرجعهم الكبير وهو من سلف حيدر كما يدعي بجواز الإعدام في فجر عيد الأضحى؟ معذرة سيدي إن شيعة حيدر ليست شيعة الإمام علي(ع) فيلسوف الإسلام وراية العدل وسيف الحق وترس العقيدة وباب مدينة العلم, إنه بريء منهم ومن أفعالهم ليوم الدين, وهم ليسوا من أتباع الإمام الحسين(ع) سيد شباب أهل الجنة ورمز الجهاد والتضحية, وهم ليسوا من شيعة العراق العرب الأقحاح عنوان الوطنية والتضحية والشهامة أبطال ثورة العشرين وقادسيتك المجيدة, وهم لا يمتون صلة بشيعة آل البيت الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, وإنما هم شيعة فرس مصنعة ومعبئة في الجارة المسلمة إيران التي ما تزال تعاني من مرارة السم الذي تجرعه قائدهم الخميني وهو يرى صورتك الساخرة في قاع الكأس, وقد سلتهم بخفة الساحر بين شيعة العراق.

الأمر المحزن الذي أدهش الكثير أن تنقلب الحقائق بين ليلة وضحاها ويولونك البعض ظهورهم بعد أن وهبتهم ثقتك فتنكروا وأنكروا متناسين إن العصا لا يمكن أن تتحول في يوم ما إلى صولجان. فبعض الأيادي الآثمة التي أعدمتك صباح عيد الأضحى المبارك هي نفس الأيادي التي كانت تصفق لك وترفع رايات مجدك! وبعض الحناجر التي هتفت بنصرة شيعة حيدر هي نفس الحناجر التي كانت تصدح بحبك الأزلي! وبعض الأرجل التي ركلت جثتك الطاهرة هي نفس الأرجل التي كانت ترقص في حضرة القائد! وهي نفسها التي مشت لمئات الكيلومترات في مسيرات لتعلن تضامنها ودعمها اللامحدود لك دون أن تكلً أو تتعب؟ وبعض الشعراء الذين مدحوك وبالغوا في مدحك هم نفس الشعراء الذين هجوك فبالغوا في هجائك! وبعض المطربين المتزاحمين على مبنى الإذاعة لينشدوا انتصاراتك الباهرة هم أنفسهم الذين يتزاحمون للاستهزاء بها محوليها إلى هزائم منكرة! وبعض رجال الدين الذين كانوا يتسابقون في الدعاء لك في الجوامع والحسينيات والعتبات المقدسة هم أنفسهم الذين حرضوا على قتلك وأفتوا بجوازه صبيحة عيد الأضحى! وبعض الرجال الذين عاهدوك على الفداء بالروح والدم هم نفس الرجال الذين هدروا دمك! لا عجب !فالرجال ما عادوا هم الرجال بل أنصاف رجال, والنفوس ما عادت هي النفوس فقد تغيرت وهل يغير الله قوما حتى يغير ما في أنفسهم؟ أن تلك الصورة المروعة لأولئك الجبناء وهم يمثلون بجثتك مازالت بطعم العلقم في أفواه العراقيين الشرفاء " من كبل الليث يكون مسيداً **** حتى وأن عد من اللقطاء " فقد وصفتهم نعم الوصف, فهم ليسوا أكثر من حفنة من اللقطاء ولا أزيد؟ وفي الوقت الذي صعدت فيه روحك الطاهرة إلى الخالق جلً وعلى فأن أرواح هذه الضلالة ستهبط إلى الدرك الأسفل من النار وهي تحمل وصمة العار الخالص.

لا تبتئس سيد الشهداء فأن التأريخ لا يمكن أن يكتب بأقلام العملاء, حتى لو نفيت الحقائق في غياهب السجون, وثقبت عيون الشهود بالدريل ورميت جثثهم قرب المزابل تنهش بلحمها الكلاب السائبة فللعراق رب يحميه وشعب يعليه وصناديد تفديه ودماء ترويه وقبور أنبياء تقيه وعتبات مقدسه تحميه, وإعدامك خير دليل على ذلك فقد أخزاهم الله وأفشل خططهم الابليسيه, فقد أرادوا إذلالك ولكن الله أراد أن يرفعك. وأرادوا إرهابك لكن الله انزل سكينته عليك, وأرادوا أهانتك فأهانهم الله بجرأتك وتحديك, وكأني اشهد سيف الله المسلول وهو يحطم الأصنام داخل الكعبة ويخاطب الصنم عزى" يا عزى خذلانك لا سبحانك إني أرى الله قد أهانك" أردوا أن يجعلونك قزما وإذا بك كما عهدناك فارساً مقداماً لا يشق له غبار, أدعوا بأنهم أخرجوك من جحر فتبين أنهم أخرجوك من عرين! أرادوا السخرية بك فكانوا أكبر مسخرة في التأريخ, أرادوا إعدامك كمجرم فإذا الله يرفعك بمقام شهيد, أرادوا تشويه صورتك فإذا بها تعلق على جدران الخلود! أراودا أن ينزلوا هامتك إلى الأسفل فإذا بها ترتفع إلى الأعلى كمئذنة لتكبر مع صلاة العيد الله اكبر.. الله اكبر!.. فكانت فضيحتهم أكبر من تستر أو تخفى ولله في خلقه شئون؟

الدول التي كانت تبلل ملابسها الداخلية هلعاً منك, ويرهبها نبرة صوتك كما ترهب الصاعقة العصافير فتهرب إلى أعشاشها مرتجفة, ويخرسهم وعيدك ويثبتهم في أماكنهم مثل أوتاد الخيمة, ويتبارون لخدمتك ويتزلفون لرضاك ينشرون اليوم عملائهم كاللصوص يصولوا ويجولوا داخل العراق ليخربوا ويفرقوا ويقتلوا تحدوهم نزعة الانتقام؟ ولا عجب فعندما يغادر الأسد عرينه تتجرأ الفئران على دخوله! ومع دسته العملاء دخلت قواتهم الشريرة والشبحية لتكمل تراجيديا النهب والسلب والقتل والتدمير والتفتيت وتعيث فساداً على مرأى ومسمع الجميع, ولكن لا مجيب؟ ومن يجيب؟ ولماذا يجيب؟ أليس الجميع مشاركين في حفل العهر الأحتلالي, وفي المباغي لا فضل لعاهرة على أخرى؟

وماذا بعد! هل يكفي الأسى والتأسي؟ وهل يكفي الاعتذار؟ فأن شفع فمعذرة وألف ألف معذرة وأسف بعمر الأرض وعرضها وحزن بقدر كل ذرة رمل وتراب في هذا الكون, ودموع بقدر قطرات المطر, وخجل مورد كاحمرار قرص الشمس عند الغروب ينضب عرقا وينهمر كشلالات بهدير غاضب, وشهقة بقوة رياح السموم وهي تعزي الأمواج فتلهب مشاعرها حزنا فتترنح صعودا وهبوطا مستذكرة سحر الماضي القريب وعبقه ولغز الحاضر ووجعه وطلاسم المستقبل المبهم المنزوي في الأعماق المظلمة .

استشعر نفسي الكآبة وينفث في صدري سعيرا وتشتعل في جوفي جمرة حمراء تمد لسانها الناري كالتنين الخرافي ليحرق ثوبي, وتنتابني نوبات من أنين ما يلبث أن يتحول إلى تمتمة خافتا بمرارة الأجل وانحسار الأمل متناسيا أن وعدا محتوما قد تحقق وميثاقا سماويا قد نفذ. وهواجس هوجاء لا تعد ولا تحصى تتنافر حيناً وتتجاذب حينا في مديات لانهائية ولا مرئية تغص في يقظة التأويل وتتهيج في فضاء رحب فقد خواصه وسحره فبدئ متكئا على رمح من صلصال الغربة والغرابة لا يلبث أن يواصل دورانه العبثي في فلك مشحون بسخرية الأقدار ومجونها الداعر. وندم تصاحبه زفرات تتزاحم في علياء الكبرياء لترفع شكواها إلى السماء السابعة.

لكن هل يشفع ذلك؟ لا اطمح بأن أشيد لك في ذاكرتي جنائن معلقة يتنزه فيها خاطري ولا أبني لك تمثال بحجم هليوس رودوس او زيوس اولمبيا ليروي قصة مجدك, ولا انزوي في معبد ديانا بارفسوس معتكفا مستغفرا نادماً, ولا أجعل من قبرك مزارا كضريح هاليكارناسوس, ولا أشيد لك هرما رابعا ليرسخ رسمك في عقلي, ولا أردد صدى تحذيراتك من منارة الإسكندرية للضالين في بحر الجهل والظلمات, فبقايا الذاكرة تحتضر في سكون معتم منتظرة كفنها القادم من أعماق المتاهات, فقد أعياها البحث اللامجدي لفك أحجية الربط بين الجذور والأغصان, وبين الأسباب والنتائج وبين الماضي والحاضر وبين الحقيقة والخيال!

لقد انكفأت داخل نفسي احفر دهاليز وأقبية كطفل ارتكب ذنبا ويطلب الصفح والمغفرة من أبيه, فيفيض صدره سعادة وحبورا وهو يسترجع الرضا والود ثانية, لربما تصفح عني ولكن كيف سأصفح عن خطيئة يدي التي لم تمسك القلم ليسطر انجازاتك العظيمة متناسية أن تلك الأيام ما هي " إلا صحائف لأحرفها من كف كاتبها بشر", وعن خطيئة عقلي الذي ضل في زحمة الزمن الحالك متوجساً منك دون أن يفطن خيبته ويدرك حقيقة " في الليلة الظلماء يفتقد البدر" وعن خطيئة شفاهي التائهة وهي تبتسم ببلاهة لمرأى نصبك المتهاوي في ساحة الفردوس دون أن تعي بأن الذي هوى كان وطن وشعب وحضارة وتأريخ وسيادة وكبرياء وشموخ وليس حديد وحجر, وخطيئة ذاكرتي التي تناست قول حافظ إبراهيم وهو ينعي الراحل جمال عبد الناصر " كيف أبكيك وما عسى أن أقولا *** صف بلالاً الذي يبكي الرسولا". لقد استفزتني هذه الخطايا وأيقظت مواجعي المتراكمة والمتجددة باحثة عن إكسير الغفران.

ربما يشفع ليً إيماني العميق, فأنا مثلك مؤمن بالله والشعب والوطن, ومؤمن بالله الواحد والوطن الواحد والشعب الواحد, ومؤمن بأنه" لا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر" ومؤمن أيضاً بسعة قلبك ورجاحة عقلك وأنك ستسامحني كما سامحت كل من أساء إليك عن قصد أو بدونه, فأنا على ثقة تامة بأن المناضل الحقيقي لا تتجسد أخلاقه الرفيعة بالتعامل مع من أحسن إليه وإنما مع من أساء إليه ..هكذا علمتنا أيها الشهيد الحكيم وهكذا تعلمنا؟ ومع هذا كانت الظنون تأخذ بعقلي المضطرب كأرجوحة صعوداً وهبوطاً حتى أطلعت على وصيتك الأخيرة فسكن قلبي أخيراً وأستقر عقلي وعادت ابتسامتي إلى شفاهي المجدبة بعد نفي طويل, وأخذت تردد آخر ما خطته يدك السمحاء:-

عراق أنك في الفوأد متوج وعلى اللسان قصيدة الشعراء

يحي العراق بكل شبر صامد يحيا العراق بنخوة الشرفاء

سيدي الشهيد.. برعاية الرحمن وبقوة شعبك شعب الذرى وبصمود المجاهدين المدافعين عن كرامة وسيادة الوطن وحضارته وتأريخه ومجده وشموخه, الذين يبادلونك التحية بعد قراءتهم وصيتك الأخيرة " بلغ سلامي للمقاوم يرتدي *** ثوب المنون وحلة الشهداء" ويعاهدونك على مواصلة المسير حتى النفس الأخير في سبيل التحرير, وسيزفون لروحك السابحة في النور الأبدي البشرى الكبرى بزوال الاحتلال وإذنابه من العملاء المارقين الذين قايضوا تراب الوطن بحفنة من الدولارات, وستعود الشياطين إلى قمقمها المظلم الذي انفلتت منه بلحظة غفلة عن الشعب والأمة والتأريخ.

نعم أيها المعلم الجليل سينقشع الغيم وسيختط فجر الحرية طلسمه في الأفق من جديد وتتضح الرؤيا وتتلاشى الأوهام ويسود الأمن والسلام في دار السلام, وتدرك شيعة حيدر بأنه لا غنى لها عن سنة حيدر, وتدرك سنة عمر بأنه لا غنى لها عن شيعة عمر, فحيدر وعمر مثل الشمس والقمر يدوران في فلك واحد هو الإسلام, ولا معنى كامل لأي منهما دون الآخر. وستعود الفتنة الملعونة إلى غفوتها الأبدية بعد أن أيقظها الجناة المارقون بضجيجهم وعبثهم ومجونهم.

ولا بد أن " يهدم الأيمان ما شيده الكفر" من تقسيم وتشتيت وفتنة طائفية وعنصرية, وتصدح المآذن والحسينيات بصوت واحد ووقت واحد " الله أكبر" ويشدو طلاب المدارس من جديد"الله اكبر فوق أيدي المعتدي" وترد عليهم الناس بصوت واحد " قولوا معي قولوا معي الله الله الله اكبر"وتنشد الكنائس " يوم الخلاص" وتجتمع الحناجر جميعاً في مدفع واحد ليطلق من فوهته رعدا هادرا يشق أعنان السماء بقوته.

ويعود الأكراد النجباء إلى حاضنتهم العراق الواحد الموحد بعد أن ينجلي غبار سنوات الاحتلال العجاف, ويستفيقوا من حلم الانفصال ويعيدوا النظر في مواقفهم السابقة ويدركوا بأن الجدول الذي لا يصب في نهر الرافدين تأسن مياهه وتفوح عفونتها. وان الفدرالية ليست أكثر من منشط لأحلام صفراء وستزول آثاره بعد وهلة قصيرة, فتأريخ العرب والأكراد وحاضرهم ومستقبلهم غير قابل للقسمة, ولابد أن تصفو النفوس الهائمة في الضباب وتوقظ جذوة الوطنية من جديد بين ركام الاحتلال, ويرجع العراق إلى حاضنته العربية سليماً معافى بعد أن تلتئم جراحه الدامية, وتدرك دول الجوار أن قصة قميص عثمان قد عفا عليها الزمن, وأن النظر إلى الخلف كفيل بإثارة الضغينة وفتح الجروح من جديد, وان النظر إلى الأمام من شأنه تعزيز الأخوة والتعاون والسلام. ع
لي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

Alialkash2005@hotmail.com  


في الأربعاء 12 ديسمبر-كانون الأول 2007 07:46:46 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=2974