وأخيرا رحل صانع الرؤساء ورجل اليمن في القرن العشرين!
دكتور/عبد الله الفقيه
دكتور/عبد الله الفقيه

مأرب برس - خاص

ببطء...وخطوة بعد خطوة سار الشيخ عبد الله الأحمر إلى قبره راضيا مختارا بعد رحلة بدأت من حصن حبور بمنطقة ظليمة في حاشد في عام 1933 لتنتهي في مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية في ال30 من ديسمبر عام 2007...وتشعر وأنت تشرع في الكتابة بالحيرة فلا تدري هل ترثي الشيخ الذي عاش حياته بطولها وعرضها أم ترثي البلد الذي اعتلت بعلته...وتشعر وأنت تتابع خطوات الشيخ ونقير العصا انك أمام شخص خطط لكل شي منذ وقت مبكر بما في ذلك لحظة موته...وتصدق بعد ذلك بان بعض الأشخاص يعيشون عظماء ويموتون عظماء أيضا..يتحدون الموت بطريقتهم الخاصة وبإيمان بالله لايتزعزع والتزام بهديه...فهاهو الشيخ يوزع الأدوار على أبنائه منذ وقت مبكر وهاهو قبل رحلته الأخيرة للاستشفاء ينصب نجله الأكبر صادق شيخا لمشايخ حاشد وبالتالي لمشايخ اليمن..

كان احدهم قد اتصل بصديق له قبل فترة يسأل عن الشيخ "كيف هو حاله؟" وقد رد عليه الصوت "لقد تراجع السرطان بنسبة 70%" وقال السائل منذهلا "حتى السرطان لم يقطع فيه." وكان الرجل محقا...فقد انتصر الشيخ الأحمر على كل خصومه بما في ذلك السرطان...كان الشيخ يملك أسلوبا فريدا في التعامل مع خصومه..الغضب الصامت..رد الفعل المختصر جدا الذي جعل احد الكتاب العرب يقول "كأنه حفر معالم وجهه بيده، وربط لسانه بثقالات عندما يتكلم حتى لا يقول ما لا يجب أن يقوله" ...وكثيرا ما انحنى الشيخ بحكمة كبيرة للعاصفة العاتية التي سرعان ما تنقشع.

فهاهو يدخل ذات يوم على الإمام ويرمي جاهه ثم ينحني ليقبل ركبة الإمام احمد راجيا منه العفو عن والده وعن أخيه حميد ووقف الحملة العسكرية التي كان الإمام يعدها لملاحقتهما...وهاهو الإمام يرد عليه " قسما ما أبقي رأسا من بيت الأحمر ولا أترك بيتا الا وهدمته ولا اترك شجرة بن الا وقلعتها." ولم يقل الشيخ الشاب شيئا..ولم يقسم على الانتقام من الإمام ان هو فعل ذلك. 

وهاهو بعد ان قتل الإمام والده وأخيه بلا شفقة أو رحمة يستقر به الحال في سجن "المحابشة" ليبقى هناك ثلاث سنوات...وهاهو من سجنه في المحابشة يواجه الملمة برباطة جأش ويكتب إلى الإمام من سجنه ليطلب منه إعادة الأراضي الزراعية المملوكة لأسرته والتي كان الإمام قد صادرها...وهاهو من سجنه يتابع الحركة الوطنية الساعية للإطاحة بالإمامة. وها هو الشيخ وقد قامت ثورة ال26 من سبتمبر 1962 يهرع للوقوف في طليعة صفوفها ويحشد أبناء قبيلته والقبائل الأخرى للقتال في معسكرها...لم يتردد ولم يخطر على باله ان الإمام قد يعود وانه قد يلقى نفس مصير والده وأخيه...وهاهو أبو الأحرار اليمنيين الشهيد محمد محمود الزبيري يكتب إلى الشيخ الشاب قائلا "انك الآن تحمل أثقال جبال اليمن وسهولها ووديانها وان هيكلك النحيل امتحنه القدر فحمله الأمانة الكبرى نحو الشعب والبلاد.."

وعندما انقسم الجمهوريون إلى فريقين احدهما يقوده السلال ومدعوم من المصريين والآخر يعارض السلال والسيطرة المصرية، قامت الحكومة اليمنية حينها بالسفر إلى مصر لتشكو السلال إلى عبد الناصر. وقد أمر عبد الناصر بإيداع أعضاء الحكومة الجمهورية السجن. وقد خرج الشيخ وغيره من الجمهوريين من صنعاء إلى خمر وظلوا ينافحون القوى الملكية من هناك ويرفضون العودة إلى صنعاء خوفا من بطش نظام السلال والمصريين. وكان بإمكان الشيخ ومن معه ان يحاربوا حكومة السلال والمصريين لكنهم اختاروا محاربة فلول الملكيين. وكان بإمكانهم ان يستلموا الحقيبة المملوءة بالذهب التي أرسلها لهم الملكيون إلى خمر في محاولة لاستمالتهم وخصوصا بعد ان قطع المصريون الدعم عنهم. وكان بإمكانهم إعلان الحرب على المصريين والفريق الجمهوري المضاد. لكنهم لم يفعلوا وظلوا ينتظرون بصبر. 

وسرعان ما تغيرت الأوضاع بعد نكسة 5 يونيو حزيران. فقد انفرط عقد الدعم المصري للسلال ووجد الشيخ نفسه يعود إلى صنعاء ويعمل على إصلاح ذات البين بين الطرفين. ثم رتب مع غيره من الجمهوريين للإطاحة بالسلال من خلال حركة 5 نوفمبر1967. وقال السلال للشيخ عبد الله قبل أن يغادر إلى منفاه في بغداد "الثورة والجمهورية أمانة في عنقك." وتكرر خروج الشيخ إلى خمر من جديد عندما اشتد الخلاف بينه وبين الحمدي ليعود بعد استشهاد الأخير. 

وخطوة بعد خطوة يسير الشيخ نحو نهاية عصر..وتشعر بان الشيخ لن يلبث أن يعود...تقول لنفسك: سيعود الشيخ هذه المرة كما فعل من قبل...لقد خرج الشيخ ليعود مرارا وتكرارا ولكنك تدرك في أعماقك أن الرحلة مختلفة هذه المرة وأنها تتجاوز فضاء السياسة إلى فضاء الحقيقة المطلقة ومن فضاء الوطن الصغير إلى فضاء الوطن الكبير...ومن فضاء الأسرة الصغيرة والكبيرة إلى فضاء الإنسانية.. 

كان الشيخ قد وجد نفسه وفي ظل الغياب الدائم لأبيه وبقاء شقيقه الشهيد حميد الأحمر رهينة لدى الأمام مسئولا عن شئون الأسرة وهو بعد ما زال صغير السن. وعندما بلغ الخامسة عشر كان قد بدأ يحمل البندقية ويتوق إلى دخول صنعاء لتأييد ثورة 1948...وعندما بلغ الخامسة والعشرين وجد الشيخ عبد الله نفسه في مقام الإمام تارة يراجعه لسنة كاملة من اجل إطلاق سراح والده وسنة أخرى كرهينة لدى الإمام بدلا عن أبيه وسنة ثالثة يراجع من اجل أخيه. ثم استقر به الحال في سجن المحابشة لمدة ثلاث سنوات آخر بعد ان كان الإمام قد قتل أبيه وأخاه بسبب تحركاتهما بين القبائل.

وعند قيام ثورة ال26 من سبتمبر وجد الشيخ الشاب نفسه يتقدم الصفوف للدفاع عنها ويلاحق الإمام الفار محمد البدر ويتولى وزارة الداخلية لثلاث مرات. وظل الشيخ الشاب على ثباته في صف الثورة والجمهورية إلى ان وضعت الحرب أوزارها. وفي عام 1969 انتخب الشيخ الأحمر رئيسا لمجلس الشورى الذي أنيط به مسألة كتابة الدستور الدائم للبلاد في شمال البلاد. وقد كتب اليه المناضل الكبير احمد محمد نعمان رسالة تهنئة بالمناسبة يقول فيها "ما اظنني طربت وسررت وشعرت بالسعادة والهناء كما طربت وسررت حين سمعت الأنباء تردد اسمك رئيسا للمجلس الوطني. إنني هنأت نفسي وزميلي وأخي الشهيد محمد محمود الزبيري الذي ظل يرقب هذه اللحظة ويتمناها..لا لإن عبد الله بن حسين الأحمر هو الذي انتخب بالإجماع رئيسا للمجلس الوطني أعلا سلطة تشريعية ..بل لإن الشخصية اليمنية التي حاربها الطغاة والغزاة والذين باعوا انفسهم للشعارات الواردة من الخارج..لإن هذه الشخصية طلعت اليوم بتاريخها وماضيها ووجهها الناصع طلعت كما تطلع الشمس بأعقاب ليلة ظلماء." 

ثم انتخب الشيخ رئيسا لمجلس الشورى الذي تم تشكيله في عام 1970. وعين عضوا في المجلس الاستشاري الذي تشكل في شمال اليمن في عام 1979 ثم عضوا في اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام الذي تشكل في عام 1982. وترأس الشيخ في ظل دولة الوحدة مجلس النواب منذ عام 1993 وحتى مماته. ولعب دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر بين اليمن والسعودية وفي تجاوز الكثير من الأزمات وجنب اليمن طيلة حياته الكثير من الأزمات والمزالق. وكان غيابه عن الساحة منذ عام 2004 بسبب حالته الصحية ولأسباب سياسية احد الأسباب الرئيسية للتطورات السياسية التي تعيشها البلاد اليوم. 

ولم تكن قوة الشيخ وصلابته نابعة كليا من انتمائه إلى حاشد أو من كونه كان السلطة النهائية فيها..لقد كانت ذاته هي مصدر قوته..بساطته..حكمته في الحياة..وأسلوبه السياسي...وربما كانت التركة السياسية الأهم للشيخ هي أنه مثل عصره اصدق تمثيل...وكان متسامحا مع الناس لا يفجر في الخصومة وان كان لا يفرط في المبدأ...وكان كما وصفه الرئيس علي عبد الله صالح "اكبر من الأحزاب" و "إحدى ثوابت الحياة السياسية في اليمن." ولم يكن مستغربا ان يمثل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر قاسما مشتركا في الحياة السياسية اليمنية وان يتواجد في السلطة والمعارضة وفي القبيلة والدولة وأن يحظى باحترام وتقدير الكثير من الرموز والشخصيات الوطنية والإقليمية والدولية. وكان كما وصفه الشيخ عبد الله صالح الأعوج "كبير اليمن وحكيمها" وكان كما وصفه الشيخ عبد الله صعتر "يميل مع السياسة أينما مالت الإ انه لا يحسب حساب مصلحة" إذا ما تعارضت تلك المصلحة مع الدين. ويصفه عبد الملك الطيب بأنه مثل أمة داخل أمة. وعرف عن الشيخ كما يقول الأستاذ عبد القوي القيسي مدير مكتبه "قول كلمة الصدق مهما كان الثمن." وكان للشيخ مواقفه الوطنية والقومية والإسلامية التي لا تنسى. فقد ترأس اللجنة الشعبية لمناصرة الشعب الكويتي بعد الغزو العراقي للكويت في عام 1990. وكما يروي الصحفي علي الجرادي فانه فعندما سالت مجلة النيوزويك الشيخ الراحل عن مدى التعاون مع الولايات المتحدة رد عليها بقوله "بل إلى أي مدى نحن نكرههم."

رحم الله الشيخ الأحمر ابن الشهيد واخو الشهيد والمناضل ابن المناضلين وشيخ مشايخ اليمن ورئيس التجمع اليمني للإصلاح منذ إنشائه في عام 1990 وضابط إيقاع الحركة السياسية في اليمن كما وصفته إحدى المجلات العربية. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد قرر وضع نهاية لحياة الشيخ فان الشعب اليمني يعقد الكثير من الآمال على أنجال الشيخ العشرة في مواصلة مسيرة والدهم المشرقة في الدفاع عن الثورة والجمهورية والوحدة والانحياز للمظلومين والمقهورين والتصدي للفساد والمفسدين والحفاظ على التوازن في الحياة السياسية والمجاهرة بالحق دون تطرف وقيادة الناس من وسط الناس والحفاظ على وحدة البلاد والانحياز للعصر بنفس الطريقة التي انحاز فيها والدهم لخيار الثورة والجمهورية والديمقراطية والشورى . 

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء


في السبت 29 ديسمبر-كانون الأول 2007 08:52:48 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=3054