تبرئة الزرقاوي وصدام قبل محاكمتهما
الثلاثاء 06 ديسمبر-كانون الأول 2005

* د. عبدالوهاب الافندي

قبيل الحرب الامريكية علي افغانستان في خريف عام 2001 كنت من بين من استضافتهم قناة الجزيرة في استوديوهاتها القديمة في وسط العاصمة البريطانية لندن للمشاركة في احد البرامج التي تناولت القضية. ولانني كنت في ذلك الصباح قد استمعت الي وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد وهو ينتقد الجزيرة بعنف، فقد قلت للزملاء المشاركين في ذلك البرنامج ـ مازحا بالطبع ـ انني ترددت كثيرا في الحضور. ذلك ان الذي يستمع الي رامسفيلد وهو يرغي ويزبد مهاجما الجزيرة سيتوقع ان تنهال الصواريخ علي مكتب لندن في اي لحظة. يجب ان اسجل هنا ان هذه الممازحة وقعت قبل الحرب علي افغانستان والعراق، وقبل ان نشهد قصف مكاتب الجزيرة (بالخطأ طبعا) في كل من كابول وبغداد، ولم يكن يخطر ببالي وقتها ان مثل هذا الحديث يمكن ان يتجاوز المزاح الي ما يشبه الجد، بل انني ما كنت لاصدق ان يكون هذا الامر اكثر من مزاح حتي بعد حوادث قصف مكاتب الجزيرة المتكررة. ذلك ان اكثر المتشككين في نوايا الحكومات الامريكية كان يستصحب بعض الافتراضات التي تفرق بين نظام ديمقراطي وبين انظمة قهرية مثل النظام العراقي السابق او النظام الليبي الذي اشتهر بارهاب المعارضين في الخارج. وبنفس القدر كان من الممكن قبل شهر او شهرين من الان ان تقابل بالسخرية دعاوي رئيس الوزراء السابق اياد علاوي بان الانتهاكات الجارية اليوم في العراق تضارع تلك التي كان العراق يشهدها في ايام الرئيس السابق صدام حسين او تتفوق عليها. ذلك ان التفوق علي فظائع النظام الصدامي امر يحتاج الي جهد خارق يضاهي التنافس في مجال الارقام القياسية. وبنفس القدر كنا نسفه المقارنات التي يجريها طارق علي وآخرون بين جورج بوش واسامة بن لادن باعتبارها من باب الغلو. ولكن يبدو ان ما تكشف من امور وخبايا في الاسابيع الاخيرة يرجح اننا كنا علي قدر كبير من السذاجة وحسن الظن في هذه الناحية. فالممارسات التي ظهر ان الادارة الامريكية تقوم بها وتدعمها في الاونة الاخيرة هي اسوأ بكثير من ارهاب بن لادن. ولا نعني هنا ما يسمي بارهاب الدولة، بل الارهاب بمعناه القاطع والصارم: الاجرام المنفلت من كل شرعية وقانون، والذي تقوم به وعليه جهات لا تمتلك اي صفة رسمية او شبه تفويض قانوني. لنأخذ مقارنة بسيطة. لنفترض ان مجموعة من الشباب البريطاني المسلم ذهبوا الي امام مسجد او شخصية اخري وابلغوه عن نيتهم القيام بعمل ارهابي، مثل نسف الباصات او غير ذلك. ولنفترض ان هذا الامام اجتهد في اقناع هؤلاء الشباب بخطأ هذه الخطة ونجح في حملهم علي العدول عنها. ولنفترض بعد ذلك ان السلطات علمت بهذه الواقعة واستدعت الشاهد للمثول امام القضاء للادلاء بأقواله، فرفض ذلك، وفوق ذلك هدد الشهود الذين كشفوا امره بالانتقام اذا كشفوا المزيد ـ ماذا سيكون موقف القضاء البريطاني من مثل هذا الشخص؟ هذا ليس تساؤلا نظريا، لان هناك اشخاصا مثل الشيخ عمر عبد الرحمن يقضون احكاما طويلة بالسجن لمجرد انهم اتهموا بالمشاركة في حوار حول عمليات ارهابية لم تقع. وفي الاسبوع الماضي انتهت محاكمة اشقاء وزوجة بريطاني مسلم شارك في عملية انتحارية في فلسطين، وذلك بتهمة العلم المسبق بالعملية وعدم الكشف عنها للجهات المسؤولة. ما هو اذن الفرق بين موقف هذا الامام المفترض وموقف رئيس الوزراء توني بلير الذي يبدو انه كان طرفا في مؤامرة ارهابية لقصف مكاتب محطة تلفزيونية في بلد حليف لا لسبب الا لان شريكه في المؤامرة لم يكن يرضي عما تبثه من اخبار وتحليلات؟ في مثل هذه النقاشات، لا يشفع للشريك انه اقنع الشريك الآخر بالعدول عن الجريمة، بل كان لا بد من ابلاغ السلطات المختصة، وهي مجلس الامن الدولي في هذه الحالة، بهذا المخطط الاجرامي المخالف للقوانين الدولية والمحلية علي حد سواء. ولكن يبدو ان رئيس الوزراء البريطاني يصر علي التستر علي هذا المخطط غير القانوني، بل ويستخدم بعض اساليب التهديد لمنع الآخرين من الكشف عنه. مثل هذا الموقف يهدد بسحب الغطاء الشرعي عن الحرب ضد الارهاب. ذلك ان الموقف الدولي الثابت هو انه لا يوجد اي مبرر للارهاب، مهما كانت الذرائع. واذا كانت هذه الحجة ترفع في وجه اهل الشيشان واهل فلسطين الذين شردوا وغزيت ديارهم وارتكبت في حقهم كل الفظائع، فهي من باب اولي تكون ابلغ في حق الدول الكبري التي تدعي رعاية القانون الدولي. الواجب في حق المسؤولين في الدول الديمقراطية اذا علموا بمخططات ارهابية تدبر علي اعلي مستويات المسؤولية، ليس التستر عليها، حتي وان نجحوا في اقناع المجرم بالتخلي عن اجرامه، بل لا بد من فضحها علنا والتبرؤ منها وادانتها. وهذا يكون من باب اولي اذا فشلوا في اقناع الشريك بالعدول عن مخططه الاجرامي، كما هو الحال فيما وقع فعلا من قصف مكاتب اعلامية، وتعذيب للمشتبه بهم، وغير ذلك من الاعمال الارهابية وجرائم الحرب. واي تأخر عن مثل هذه الادانة يعتبر تشريعا للارهاب واسباغا للمشروعية علي كل جريمة ممكنة اذا كانت الدوافع معقولة. وبنفس القدر فان المحاكمة الجارية حاليا للرئيس العراقي صدام حسين توشك ان تفقد اي مبرر وصدقية في ظل ما اخذ يتكشف من حقائق عن ممارسات الاحتلال واعوانه. فلعله من اكبر المهازل ان ما أخذت تورده المحكمة من تهم في حق الرئيس السابق واعوانه اصبح اشبه بسلوك ينبغي ان يحتذي من الحكومة الحالية. فلا احد يجادل في ان موكب الرئيس العراقي السابق تعرض لاطلاق نار ومحاولة اغتيال، وان اعتقالات ومحاكمات جرت لتحديد ومعاقبة الجناة. ومن الواضح ان كثيرا من التعسف والتجاوزات وقعت في كل مراحل العملية. ولكن الثابت ايضا ان الجيش العراقي لم يحاصر الدجيل وقتها، ولم يقصف منازلها عشوائيا، او يستخدم الاسلحة الممنوعة في ذلك. ولم نسمع عن قصف بالصواريخ لمنازل بدعوي ان المشتبه فيهم يختبئون فيها. فحتي في عراق صدام حسين، كانت المعلومات الامنية عن المشتبه فيهم لا تستخدم لاعدامهم وهدم المنازل فوق رؤوسهم ورؤوس عائلاتهم، بل كان المشتبه بهم يعتقلون ويجري التحقيق معهم. أليست مهزلة اذن ان يحاكم الرئيس العراقي السابق واعوانه علي سلوك نتمني اليوم لو ان سلطات الاحتلال واعوانها يلجأون اليه؟ اوليست قمة الادانة لاي نظام حكم ان يطالب برفع مستواه الي المستوي الذي كان عليه النظام الصدامي البائد؟ ولا يجب ان يفهم هذا التدهور في القيم باي حال علي انه اشادة او تبرئة للنظام الصدامي الذي يكفي اي نظام آخر سبة مجرد ان يقارن به. واعتذار الانظمة العربية لجرائمها بالدفع بأن النظام الوطني مهما كانت مساوئه يظل افضل من الاحتلال الاجنبي هو اضافة جديدة الي جرائم هذه الانظمة ومناصريها. فلا معني للاوطان والوطنية اذا كان مفهوم الوطن عند البعض هو ان يكون مزرعة حيوانات يتصرف فيها الحاكم كيف يشاء واذا نازعه منازع في هذا الحق نادي بالويل والثبور والتعدي علي السيادة! وقد اجاب عن مثل هذه الدعاوي الملاكم الامريكي الشهير محمد علي حين رفض ان يحارب في فيتنام قائلا ان الفيتناميين ليسوا اعداءه، ولم يسلبوه حقوقه او يعيروه بلونه بعد ان استعبدوا آباءه. قبل ذلك رد سلفه عنترة بن شداد بالتذكير حين دعي للدفاع عن شرف القبيلة وحماها بأن العبد لا يحسن الكر والفر، وانما يحسن الحلب. هذا توضيح ضروري لان بعض انصار الرئيس السابق صدام حسين علق علي ما كتبته سابقا هنا من دعوة لوحدة العراقيين كشرط لانهاء الاحتلال بانه اولا دفاع عن الاحتلال، وثانيا تذرع بأن معظم البلاد الاخري تعاني من احتلال غير مباشر. وهذا سوء فهم لما قلت من جهة، لان كل ما قلته هو ان الاحتلال المباشر يمكن بسهولة ان يتحول الي احتلال غير مباشر كما هو الشأن في الدول العربية الاخري، مما يسحب من معارضي القمع ذريعة المقاومة. وهو من جهة سقوط في الدفاع عن الاجرام الوطني بذريعة محاربة الاحتلال. من هنا فانني اري الاحتلال غير المباشر لا يقل سوءا عن الاحتلال المباشر، بل بالعكس يكون اسوأ لانه يتنكر في زي حكم وطني، ويتهم من يقاومه بالارهاب والخروج علي الشرعية، بل والتنكر للوطنية، كما نسمع اليوم من النظامين السوري والمصري وغيرهما ان من يشير الي القمع والقهر وتزوير الانتخابات ونهب ثروات البلاد وعقد صفقات التعذيب مع المخابرات الامريكية، هو خائن ممالء للاجنبي المتربص بالوطن! القول اذن بأن الانظمة التي تحارب الارهاب اصبحت بدورها تمارسه وتتستر عليه، وبأن من يحاكمون صدام اولي بالمحاكمة منه لا يعني ان نهبط بمستوي القيم بحيث يصبح الارهاب مشروعا والظلم مباحا، بل ومدعاة للاشادة لان هناك من هو اظلم واكثر ارهابا. فالواجب هو ادانة الارهاب المستجد والظلم الحادث بنفس قوة ادانة الجرائم القديمة. ولكن هذا يعني ان وضع من يعارضون الارهاب والقمع يصبح اصعب، خاصة اذا كانوا من المتواطئين في الارهاب والقمع بدورهم. هذا الموقف عبر عنه القانوني السوداني المعروف والاستاذ حاليا بجامعة ايموري في اتلانتا البروفيسور عبدالله امين احمد النعيم، حين قال في كلمة القاها بعد شن الولايات المتحدة حربها علي افغانستان في 2001 انه يرفض مفهوم اسامة بن لادن للجهاد باعتباره يستند الي حقبة سبقت قيام الامم المتحدة واعتماد مبادئ القانون الدولي. وقال النعيم انه يدعو الي مفهوم جديد للجهاد يستصحب هذه التطورات السياسية والقانونية التي ارست قواعد جديدة للسلوك بين الدول والجماعات، ولكنه اضاف ان حجته هذه تفقد قوتها في ظل سلوك الولايات المتحدة المتمثل في تحدي القانون الدولي والتعامل بلغة القوة وشريعة الغاب. * القدس العربي:


في الأحد 11 ديسمبر-كانون الأول 2005 05:20:45 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=36