سد مأرب العظيم في بلاد كانت سعيدة

د. عبدالفتاح طوقان

سد استغرق بناؤه خمسمائة عام و انهار و أعيد بناؤه أو أجزاء منه، و مملكة كانت توصف بأنها"البلاد سعيدة" اقتصادها يتصدع مثلما حدث لسدها في عام 750 ميلادية و أثقلت بالديون في العصر الجمهوري، فهل يعاد بناءه من جديد ؟ و كيف ؟.

و هل بالضرورة أن يستغرق إعادة البناء الاقتصادي خمسمائة عام أخرى مثلما استغرق السد ؟ و هل الانصياع لتعليمات البنك الدولي و صندوق النقد الدولي يمثل الحل الشافي ؟. و هل رحيل الرئيس أو ابتعاده عن الترشيح في الدورة القادمة يعد هروبا من المسؤولية أم تجسيدا للديمقراطية ؟ أم لرغبة أمريكية ؟أم حلما يراوده تمهيدا لان يخلفه نجله ؟.

أسئلة تدور في الشارع اليمني و تبحث عن ردود مقنعة.

أن بين الأهداف التي ترتكز عليها المرحلة الحالية في اليمن تحرير الاقتصاد وإيجاد بيئة اقتصادية تنافسية تعمل وفقاً لآلية السوق وتكافؤ الفرص، وإعمال مبدأ الشفافية ومحاربة الفساد بكافة صوره.و هذا مدخل جيد حسب توجيهات البنك الدولي و صندوق النقد و الرؤية الأمريكية للمنطقة. الهيمنة الحكومية على النشاط الاقتصادي و السبب إن الاستراتيجية التي كانت متبعة في اليمن أدت إلى تعاظم دور القطاع العام و بيروقراطيته و إغفاله لعناصر الوقت و السرعة في التنفيذ و الكفاءة في الإنتاج، وأيضا الهيمنة الحكومية على النشاط الاقتصادي، الأمر الذي قاد إلى تفشي القيود الإدارية في شتى مجالات الاقتصاد والتدخل الواسع من قبل السلطات في تحديد الأسعار، وخاصة أسعار السلع الغذائية وأسعار منتجات المؤسسات العامة. وامتدت نتيجة ذلك القيود لتشمل القطاع المصرفي بتقييد أسعار الفائدة وتوزيع الائتمان المصرفي إلى القطاعات المختلفة بموجب قيود إدارية مما أدى إلى تعطيل الدور الهام لهذا القطاع في الوساطة المالية. أما الأمر الأهم فهو أن الاستراتيجية الاقتصادية في اليمن أهملت عدداً من الأمور ذات ألأهمية الحاسمة في التنمية الاقتصادية. و نذكر منها هنا البعد التعليمي، والبعد السياسي الديمقراطي وغياب نظام قضائي يسهّل من إبرام العقود ويضمن عدالة تنفيذها. ومن الأمور التي تم إغفالها الدور الهام للقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، ودور آلية السوق في حسن تخصيص الموارد. التدهور في القطاع الزراعي و شح المياه اليمن صاحبة الدور التاريخي في الزراعة، تجد نفسها في تحول تدريجي بعيدا عنه. يلازمه ارتفاع العجوز في المالية العامة وارتفاع الضغوط التضخمية خاصة وأن إمكانية تحويل الموارد الحقيقية من قطاع الزراعة أصبحت أكثر صعوبة مع التدهور المستمر في أوضاع موازين المدفوعات. و يعتقد البعض أن اليمن الذي يبلغ تعداده تسعة عشر مليونا و متوقع له أن يتضاعف إلى ستة و ثلاثين مليونا بحلول عام 2020، يعمل حوالي ستون بالمائة من قواه العاملة في الزراعة التي تساهم بسبعة عشر من الإنتاج القومي المحلي يواجه مشكلة اقتصادية متفاقمة. وفي جانب آخر تتخذ خطوات بطيئة لتطوير التعليم خصوصا وان الأمية في اليمن بلغت 55.7% و الأطفال بين الأعوام 6 و 14 خارج المدارس. أما النساء فأنهم الأقل حظا في التعليم و تزيد نسبة الأمية لديهن عن الرجال في حدود ثلاثة و سبعين بالمائة. الأهمية الهندسية لسد مارب و نعود إلى بناء سد مأرب القديم في القرن الثــامن قبل الميــلاد حسب النقوش اليمنية القديمة و الآثار المكتشفة. إن فكرة إنشاء السد قد مرت بمراحل عدة وعبر فترة زمنية طويلة بين بداية الألف الثاني والألف الأول قبل الميلاد. و أعمال الإنشاء استغرقت خمسمائة عام و كان سدا مائيا تحويليا لتجميع مياه الأمطار والفيضانات. و انتهى في عهد الملك علي ينوف و الذي وجد نقوشا تحملا اسمه على بعض من صخور السد القديمة.

و يعتبر السد من أعظم الأبنية الهندسية القديمة في شبة الجزيرة العربية وقد بني في ضيقــة بين البلــق الشمالي والبلق الجنوبي على وادي ذنة الذي تجري إليه السيول من مسا قط المياه في المرتفعات المحاذية له شرقا على امتداد مساحة شاسعة من ذمار ورداع ومراد وخــولان.

ويخدم السد و يمد شبكة قنوات الري ( الجنتان ) بالمياه حيث تبدأ شبكة الري بالقناة الرئيسية الخارجة من السد ثم يليها تفريعات و رياحين المياه الفرعية و التي تروي مساحة تقدر بأكثر من اثنين وسبعين كم مربع.

وقد تحكم موقع مأرب في وادي سبأ بطريق التجارة آنذاك المعروف بطريق اللبان.

تسمية هـذه المدينة قديم جداً و تعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، و لم يعرف اسمها الحقيقي كاملا حيث وصفت في النقوش القديمة من القرن الثامن الميلادي و كتبت "مريب" و أحيانا"مرب ". و منها حمل السد اسمها المحور "مآرب". امتاز السد بجدران سماكتها عشرون مترا و ارتفاع ثمانية عشر مترا و طول سبعمائة متر. و كان يتسع لمياه تكفي لري عشرة آلاف هكتار. و يقال بأن مساحة البحيرة خلف السد بلغت ثمانية كيلومترات و أن سعة السد التخزينية في حدود خمسة و خمسين مليون متر مكعب. و تاريخيا تشير المعلومات أن مجموع السكان المحيطين بالسد في حدود ثلاثون إلى خمسين ألفا، و جميعهم مزارعون. و كانت المحاصيل الزراعية هي التمر و السمسم و الذرة والقات و الشعير و الكتان و العنب و غيرها من المحاصيل. و لقد تم بناء السد اعتمادا على الطبيعة الجغرافية في المنطقة و التي تمتاز بأنها أفضل مكان بين الوديان لتجميع مياه الأمطار و حماية المنطقة من الفيضانات. و قد استخدم البناءون الأحجار أساسا له بعد حفريات كبيرة و ممتدة للوصول إلى الصخور. و منها تم عمل تفريعتان لأجل تصريف المياه بطريقة الاقنية بسرعة ستين مترا مكعبا في الثانية. أما الجدران فكانت من الأتربة و الرمال المغطاة بالأحجار. الهدف من السد كان احتجاز مياه الفيضانات و الأمطار لفترات قصيرة و تحويلها عبر الاقنية و الرياحين لاستخدامها في الزراعة. و لم يكن من مباديء تصميمه احتجاز المياه لفترات طويلة حيث أن طبيعة تكوينه و جسم السد الترابي كان غير مهيأ لذلك لوجود مسامات في التربة تساعد على امتصاص المياه و تسريبها عبر السد للطبقات السفلى. و بالا مكان اعتبار تصنيف السد على انه سدا تحويليا لا تخز ينيا بالمفهوم الهندسي. و كان الحجم السنوي لمياه الفيضانات في حدود اثنين و نصف مليون مترا مكعبا. استمرت صيانة السد لفترات ثم توقفت فتصدع و انهار، تماما، مثلما توقفت الصيانة الاقتصادية للدولة اليمنية فتصدعت ميزانياتها. هذا السد هو الذي أعطى اليمن اسم مدينة الجنتين، لان ضفاف السد و البحيرة خلفه الممتدة ثمانية كيلومترات، كانت مثالا زراعيا جميلا و طبيعة خضراء خلابة و أشجار وصفت بأنه الجنة على الأرض. و اهتمت اليمن بإنشاء السدود التي بلغت ثلاثمائة و ثمانين سدا من أهمها سد مآرب الذي أعيد إنشاؤه و ترميمه بطاقة أربعمائة مليون مترا مكعبا سنويا كافية لزراعة مساحة عشرة ألاف هكتار. اليمن من أفقر تسعين دولة في العالم اليوم اليمن تعاني شحا في المياه حيث يبلغ استهلاك الفرد و حصته 137متر مكعبا. و تشير الإحصائيات الصادرة عن وزارة التخطيط اليمنية على موقعها على الانترنت أن المواطن اليمني يصرف 2.3% من دخله على الأمور الصحية و 10.7 % على علك وتدخين القات. و اليمن مصنف عالميا في المرتبة السبعين من حيث أفقر تسعين دولة في العالم، علما بأنها اشتهرت عبر التاريخ باسم " البلاد السعيدة" و " بلاد الجنتين " بسبب سد مآرب. يعتقد البعض انه بالا مكان أن تعود السعادة من جديد إلى اليمن من خلال النهوض بالمنافسة في الاقتصاد و إلغاء الاحتكار و إعطاء دورا للقطاع الخاص مع حماية المستهلك وخصخصة المؤسسات العامة العاملة في مجال الإنتاج و في مجال الخدمات وتوفير البيئة التشريعية ذات الطبيعة الديمقراطية الأساسية وتعزيز النظام القضائي وتطوير التعليم والبحث العلمي في الاقتصاد. المرحلة القادمة تحتاج إلى وضع الاقتصاد في المسار السليم


في الأحد 11 ديسمبر-كانون الأول 2005 06:13:21 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=39