تعطيل مؤسسات الدولة اليمنية
عارف أبو حاتم
عارف أبو حاتم
 كانت مؤسسة القضاء الصخرة التي تحطمت عليها ديكتاتورية الرئيس الباكستاني برويز مشرف، والمؤسسة العسكرية في مصر هي من أجبرت حسني مبارك على التنحي، ومن أسقطت رئاسة محمد مرسي، وهي من أجبرت بن علي على مغادرة البلاد وترك تونس للتونسيين، وعزل البرلمان العراقي رئيس الحكومة نوري المالكي، وعزل البرلمان الأوكراني الرئيس فيكتور يانوكوفيتش.
عادة تلجأ الشعوب إلى مؤسسات دولتها، لتحتمي بها من بطش الديكتاتوريين، أو تطلب منها إنقاذ البلاد من حالات الترهل، ونزيف الاقتصاد وتدهور الأمن، وتكون مؤسسات الدولة حينئذ هي الضامنة لبقاء قيمة الدولة، واستمراريتها، أما حين تتحول تلك المؤسسات إلى طرف في الصراع، أو أداة في يد طرف محدد، فهنا تفقد الدولة قيمتها، وتنحرف بوظيفتها، وتبدأ مراحل التنكيل بالشعوب، ومصادرة حقوقها، وعادة تنتهي تلك المراحل بثورات جارفة لكل أشكال الطغيان.
السيطرة والإحلال
سعى الحوثيون منذ إسقاطهم للعاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول الماضي إلى تعطيل مؤسسات الدولة، وإحلال أنفسهم بدائل لها، وخلال الساعات الأولى لسقوط العاصمة بأيديهم باشروا في نهب كل معسكرات الدولة الموجودة في العاصمة، ونهب العتاد العسكري حتى المتواجد منه في مقر وزارة الدفاع والقيادة العامة والقوات المسلحة، ليضمنوا غياب القوة المقاومة لمشروعهم (حينما كان وزير الدفاع السابق اللواء محمد ناصر أحمد يقول إنه يقف على الحياد!!).
وفي الأيام التالية توجهت مجاميع مسلحة منهم بمسمى اللجان الشعبية إلى جميع وزارات ومؤسسات الدولة، وأخذت بالقوة الأختام الرئيسية، ثم أملت على مكتب النائب العام للجمهورية تحرير مذكرة إلى البنك المركزي بتجميد جميع الأصول المالية الخاصة برجل الأعمال حميد الأحمر واللواء علي محسن، بعد أن اقتحمت منازلهما، ووضعت تحت سيطرتها عشرات العقارات التي يمتلكانها.
هذا السلوك الانتقامي بعث برسائل استفزاز ومخاوف لرجال الأعمال والمستثمرين المحليين والأجانب، وهو سلوك تعرف الحركة الحوثية مدى خطورته على أمن واستقرار اقتصاد البلاد، فقد سبق أن دهم الحوثيون منزل صهر آل الأحمر رجال الأعمال نبيل الخامري ونهبوا بعض محتوياته، وحين قرر إبلاغ الإعلام بما حدث، ذهبوا يخطبون وده ويطلبون عدم إبلاغ الإعلام وأعادوا كل المنهوبات، كل ذلك خوفا من إقلاق رأس المال الوطني، والتسبب في هجرته، وبالتالي إفراغ البلاد من أي رافعة اقتصادية ضامنة لبقاء قيمة العملة الوطنية، وعدم الانهيار الكلي الاقتصاد.
وشعبيا استطاع الحوثيون -إلى حد ما- كسب الشارع اليمني من خلال حضورهم الكثيف في أقسام الشرطة وإدارات المرور في المحافظات التي يسيطرون عليها، والعمل على حل قضايا الناس الخلافية والآنية بسرعة كبيرة ودون أي مقابل، والاشتغال على عاطفة الناس التي ضاقت ذرعا بتسلط الأذرع الأمنية ومماطلتها وابتزازها للمواطنين.
تعطيل في الجنوب
في الجنوب اليمني تعطيل من نوع آخر لمؤسسات الدولة، عبر فرض العصيان المدني بالقوة، أو الاعتداء على مؤسسات الجيش والأمن وتعطيل عملها وسجنها في مقراتها، صحيح أن حيادية مؤسستي الجيش والأمن مهمة عند الاحتجاجات الشعبية وترك الشعوب تعبر عن رأيها بسلمية، لكن المسألة تجاوزت حرية الرأي إلى الاعتداء والتخريب للمصالح العامة، بل والاعتداء على رجال الجيش والأمن.
وهذا لا يعني التجريح أو الاعتداء على القضية الجنوبية نفسها، فهي قضية حقيقية وعادلة، وجنوب ما بعد حرب صيف 1994 ليس كما قبله، إذ تعامل المنتصر مع الأرض والإنسان والثروة في الجنوب باعتبارهم غنائم حرب لا أكثر، وحين بدأت حركة الاحتجاجات السلمية تحت مسمى الحراك الجنوبي في 2007 تم التعامل معها بوحشية مفرطة، ثم الرفق واللين وشراء ذمم بعض القيادات الجنوبية، قبل أن تأخذ تلك القضية انتصارات مهمة في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني في 2013 ولو تم التنفيذ الفعلي لتلك المخرجات لتحقق للجنوب ما هو أكثر من الانفصال وأكبر من الاستقلال.
جزء من الخطة المحكمة للحركة الحوثية هو تأدية وظائف الدولة بعيدا عن الواجهة، أو على الأقل إفراغ الدولة من مضمونها، تماما كما فعل حزب الله في لبنان حين أفرغ الدولة من مضمونها وبحث عن الثلث المعطل، وعمل على تآكل قيمة الدولة في نفوس الناس، مقابل بناء مؤسساته وجيشه وأجهزة استخباراته، حتى أمكنه أن يجتاح بيروت في نصف يوم.
إزاء ذلك كانت البلاد تغوص في دوامة خلافات سياسية عنوانها بناء الدولة، وقادت تلك الخلافات نخب سياسية تعاني أزمة ثقة، وأزمة مصالح، ليبدو معها لبنان عاجزا عن اختيار رئيس له، وحتى اللحظة لا يزال لبنان جمهورية بلا رئيس.. وما كان للرئيس السابق سليمان أن يكون رئيسا للبنان لولا الدور القطري الهام حينها.
في اليمن تتجه الأوضاع السياسية نحو حالة مشابهة للبنان، فثمة حراك شعبي يطالب بانتخابات رئاسية، وطرف يرى أن البرلمان لم يعد شرعيا، وطرف ثالث يشكك في قدرات الحكومة الجديدة على إنقاذ البلاد من الانفلات.
لا أجد حرجا ولا عتبا ذاتيا حين أقسو على النخبة السياسية الحاكمة في اليمن، فقد أثبتت الوقائع أنها نخب هشة هزيلة تسقط عند أول حادثة اصطدام، نخب هي اليوم كما عرفتها قبل سنوات طويلة، تبني نفسها وأسرها وترعى مصالحها، حتى التخمة، ثم تنسحب من المشهد بحجة عدم الاستماع لها والعمل بنصائحها، وهي نفسها النخب التي لم تنطق بكلمة أو تحرك موقفا ضد من عطلوا مؤسسات الدولة، وصادروا أدواتها وأجهزتها.. وغدا سينكشف للشعب أي نوع من رجالات السياسية كان يعول عليهم!
غياب الشخصية الجامعة
في هذه اللحظة لا إجماع حزبيا ولا شعبيا على شرعية البرلمان المنتخب في أبريل/نيسان 2003 لفترة برلمانية مدتها ست سنوات، وفي 2009 وقعت جميع المكونات السياسية على "اتفاق فبراير" الرامي إلى التمديد للبرلمان سنتين إضافيتين حتى تتم التهيئة لانتخابات جديدة في أبريل/نيسان 2011 غير أن ثورة فبراير/شباط 2011 دخلت على الخط السياسي وغيرت كامل المشهد، وجاءت المبادرة الخليجية، وعطلت العمل بالدستور الحالي إلى حين الإعداد لدستور جديد.. فاسحة المجال أمام البرلمان للبقاء سنتين أخريين.. ويدخل الآن سنته الرابعة منذ ذلك الحين، وسنته الحادية عشرة منذ انتخابه.
منصب رئيس الجمهورية هو الآخر محل تشكيك حيث يعتقد كثير من الساسة أن هادي بات فاقدا للشرعية لأن المبادرة الخليجية نصبته رئيسا توافقيا منتخبا في فبراير/شباط 2012 لمدة سنتين فقط، وأخيرا قال الرئيس السابق إن خلفه انتهت مدته قبل تسعة أشهر. لكن السؤال الأكثر حرجا لماذا قادة الأحزاب والحوثيين يكادون يجمعون همسا على ضرورة بقاء هادي؟
تعامل أحزاب اللقاء المشترك "المعارضة سابقا" مع الرئيس هادي كضرورة خانقة هو من حشرهم فيها، فعند التفكير بإجراء انتخابات رئاسية تحت أي طرف أو مسمى لن تكون مجدية، لأنه لا قوة في الساحة الآن إلا للجماعة الحوثية، وهي الحاكم والمسيطر الفعلي على المؤسستين الأمنية والعسكرية والإعلام الحكومي والبنك المركزي والقضاء، وبالتالي من المحتمل أن تجير أي انتخابات بالكيفية التي تريدها.
في المقابل يتمسك الحوثيون بالرئيس هادي، لأنه يوفر لهم غطاء شرعيا لكل تحركاتهم وممارساتهم وسيطرتهم على المدن والمعسكرات دون أن ينطق بكلمة واحدة، ثم إنهم لا يعرفون كيف ستكون شخصية الرئيس القادم، هل كسلفه مهادن، أو قوي لا يقبل أن يأكل أحد الثوم بفمه.
وليس غير الرئيس السابق وحزبه من يريدون انتخابات رئاسية، وهذا سلوك سياسي في ظاهرة الحفاظ على العملية الديمقراطية، في وقت أصبح هادي الرئيس العاجز عن فعل أي شيء، وفي باطن تلك الدعوات نكاية بالرئيس هادي.. لكن صالح وحزبه لا يريدون إزاحة هادي خارج الأطر القانونية الانتخابية، لأن أي إزاحة أو انقلاب على هادي سيمثل فراغا دستوريا كبيرا وسيدخل البلاد في نزاعات مسلحة، ذلك أن رئيس البرلمان ليس من حقه أن يتولى رئاسة البلاد مؤقتا، لأن البرلمان نفسه مشكوك في شرعيته.
وما بين تلك النزاعات المتعددة تبرز القضية الأكثر حرجا وإلحاحا، والمتمثلة في البديل القادم لهادي، إذ لا شخصية جامعة حتى اللحظة من شأنها أن يلتف الناس حولها.
تدمير المؤسسات الضامنة
كان دقيقا وصف مستشار الرئيس هادي الذي لم يكشف اسمه لرويترز أن هادي يتعامل كقائد طائرة مختطفة، مهمته البقاء في غرفة القيادة والعمل على إيصال الطائرة بسلام حتى وإن قتل الخاطفون بعض الركاب.
المستشار قال أيضا إن هادي يرى أن أي محاولة للتصدي للحوثيين ستسفر عن كارثة أكبر، وعليه الصبر والقيادة حتى تصل "الطائرة المختطفة"، لكنها لن تصل إلا وقد جرده الخاطفون حتى من ملابس القيادة، بالتالي تحول من قائد ورئيس شرعي إلى موظف يتلقى توجيهات ممن يملكون القوة والسيطرة على المال والسلاح.
هذا الوضع الذي تعلو فيه الكلمة الحوثية وتتراجع قيمة الدولة وتتآكل هيبة مؤسساتها هو ما دفع قيادة الإصلاح للتوجه إلى صعدة واللقاء بزعيم الجماعة الحوثية عبد الملك الحوثي وعقد اتفاق معه لم يُكشف عن بنوده، واكتفى إعلام الجانبين بالتأكيد على أن اللقاء "يهدف لطي صفحة الماضي، والتوجه إلى بناء اليمن الجديد".
ورغم أن مصادر مقربة من الإصلاح قالت إن الحوثي أعطاهم وعودا فقط، فإن محاور اللقاء لن تخرج عن تحديد موقف من القضية الجنوبية، التي يُراد لها أن تكون بوابة للانفصال، والتنبه إلى الدور الذي يمارسه هادي في تفكيك الشمال وزيادة غليان الجنوب، وقطع الطريق أمام صالح الذي يسعى لتأجيج الحرب بين الإصلاح والحوثيين.
وإذا اتفق الطرفان على التمسك بخيارات الديمقراطية والحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار فسيكونان قد حققا مكسبا عظيما لمصلحة الشعب، فالرئيس هادي في هذه اللحظة يدمر ويسعى لتدمير جميع القوى الحية والفاعلة في الشمال، بما فيها القوة الضامنة لبقائه في منصبه، ويدمر المؤسسة العسكرية بحكم منصبه، وسكوته عن الضباط الخونة الذين يسلمون معسكراتهم للحوثيين، ويغض الطرف تماما عما وصفه هو باحتلال الحوثيين للمدن، فيما الرئيس السابق صالح يدمر المؤسسة البرلمانية بحكم ثقل حزبه فيها وامتلاكه 231 مقعدا من أصل 301 مقعد، ويدفع بعناصر حزبه القوية في المحافظات إلى التحالف مع الحوثيين وإسقاط المعسكرات والمدن، كل ذلك لإرخاء قبضة هادي الحاكمة، والنتيجة دمار جميع المؤسسات الدستورية الضامنة لبقاء الدولة اليمنية.



في الأربعاء 10 ديسمبر-كانون الأول 2014 03:36:54 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=40766