فساد التعليم ...ممارسة النقد الذاتي أولى خطوات الإصلاح
أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي

تمثّل مشكلة إصلاح التعليم في العالم اليوم واحدة من أولى أولويات عملية الإصلاح الشامل، بوصف أنسب مدخل لعملية النهوض هو التعليم بكل مايحمله هذا المصطلح من دلالات تفصيلية وأبعاد معرفية، ووجدانية ومهارية وسلوكية . وقد غدا الوصف الأنسب للمجتمع المتقدِّم المعاصر هو وصف (مجتمع المعرفة). وإذا تذكّرنا أن العالم ليس على درجة واحدة في حجم المعاناة من ظاهرة الاختلالات في أنظمته التربوية؛ غير أن الإحساس بالمشكلة ظل وسيبقى مصاحباً لكل نظام تعليمي في كل مرحلة من مراحله. وهذا الشعور بالمشكلة يمثِّل الضمانة الأكيدة لنموه على نحو مضطرد. وأيّاً بلغ تطوّر التعليم في أيّ مجتمع؛ فإن ذلك لا يعني –بحال- الاطمئنان إلى سلامة المسار، ومن ثمّ الركون إلى أوضاعه، وعدم التفقّد أو التقويم البنائي (المرحلي) له بين الفينة والأخرى، (سأورد لاحقاً نموذجي الولايات المتحدة الأمريكية واليابان للتدليل على هذه الحقيقة ). غير أنه يبدو أن الاستثناء الوحيد في العالم هو وضع التربية في مجتمع (الإيمان والحكمة) ، حيث يعلم الجميع الواقع المرّ الذي تعيشه، إلا أن بعض كبار قيادات وزارة التربية والتعليم يتهمك بالجهل وانعدام الروح العلمية، وفقدان الموضوعية...إلخ إذا أبيت أن تؤمّن على سلامة المسار، وأن الأمور جميعها تمضي على مايرام، وأن التقويم المرحلي والختامي قائم، وكل عمليات التقويم، تثبت رقيّ التعليم وتقدّمه باضطراد، وفق منهج علمي قويم!!!

المنهجية (فوبيا) ما وراءها ؟:

أتابع كغيري من أبناء هذه البلاد(المحروسة) مسار التربية والتعليم، والمدى المفزع الذي وصلت إليه أوضاعها، مع التأكيد على أن قضايا التربية والتعليم ليست شأناً خاصاً يتابعه صاحب هذه السطور وحده، بل هي من قبيل قضايا الشأن العام، التي تعني كل مواطن، وتمسّه-سلباً أو إيجاباً- في أغلى مكسب له، أو أسمى إنتاج أنجزه في حياته، ويعقبه بعد مماته، ألا وهو فلذة كبده ( ابنه أو ابنته). وإذا كان ثمّة خصوصية تطبع تناول أهل الاختصاص – ويدّعي الكاتب أنّه واحد منهم- فهي محاولة الالتزام بروح المنهجية، والحرص على التحلي بالمنطق العلمي في الحكم على أية ظاهرة في هذا المجال أو في سواه. وقد قصدت التأكيد على هذه المفردات منذ البداية، بعد أن تابعت في غير ما حوار أو تصريح أو كلمة مناسباتية، أو نحو ذلك من الفعاليات التي يتم نقلها، عبر مختلف وسائل الإعلام، لبعض أبرز المسئولين في وزارة التربية والتعليم، فوجدت أنهم جاهزون لتزيين الصورة بجملة من (الأكاذيب) و(المغالطات) ظناً منهم أن حفظ بعض المفردات أو العناوين الكبيرة والاستمرار في العزف على وتيرتها من شأنه أن يقلب الحقائق، ويغيّر الموازين ،ويوهم المجتمع بصواب ماتلوكه ألسنتهم صباح مساء، وبذلك فسيظلون محتفظين بمواقعهم أطول مدىً ممكن! وأجزم أنهم إن استطاعوا أن يقنعوا أحداً فربما أنفسهم، أو جلساءهم المسامرين، ليس أكثر! أمّا من يعش على أرض الواقع ويكتوي بنار (فساد التعليم) في فلذة كبده، كل يوم وشهر وسنة- إن لم يكن كل ساعة ودقيقة- فأنى له تصديق ذلك ؟

 ليس جديداً أن نسمع مسئولاً كبيراً في أية مؤسسة (رسمية) يزيّن أو يبرّر أو يخالف رؤية الغالبية من أبناء مجتمعه تجاه مسار مؤسسته، بيد أن الجديد المخجل- بالنسبة إلى القضية التربوية- هو انتساب بعضهم إلى الوسط الأكاديمي، أو هكذا كان مجده الغابر- ولم يتبق له – فيما يبدو- إلا الترديد الأجوف لبعض المصلحات التي تستوطن عادة مؤسسات البحث العلمي الأصلية، وفي مقدّمتها الجامعات، من مثل ( المنهجية – البحث العلمي- الموضوعية..إلخ). في إطار خداع نفسي يسميه النفسانيون (حيلة التعويض)، وهنا يرد التعويض عن التفريط بالمضامين لصالح الألفاظ والعناوين !

بعض من يتولى كبر المراء الفجّ أو الدفاع الهزيل في القضية التربوية؛ يحسب أن الإكثار من ترديد هذه المفردات السابقة( المنهجية – البحث العلمي- الموضوعية..إلخ) سيعفيه من أيّة مساءلة – إن كانت هناك مساءلة جادّة- عن المستوى الكارثي الذي آلت إليه أوضاع التربية في البلاد، وقد يتصوّر- في ظل غياب المحاسبة - أن الإصرار على هذا المسلك يمثّل أذكى الأساليب لدرء التهم التي تصم أوضاع التربية والتعليم في البلاد، ويشهد عليها القاصي والداني، على كل مستوى. وتكاد القضية التربوية من أندر القضايا في بلاد (الإيمان والحكمة) التي تمثّل موقفا موحّداً للإجماع الوطني، لمختلف مكوّنات المجتمع السياسية والفكرية والتربوية، و أحسب أنه لا يخرج عن هذا الإجماع إلا بعض (المترفين) من المنتسبين إلى قيادة هذه المؤسسة!

ما يعقِّد القضية أكثر أن التسييس دخلها من أوسع الأبواب، فمع ذلك الإجماع الحقيقي؛ فإن المكابرة السياسية ستدفع ببعض (المترفين) أنفسهم ليسارعوا إلى رمي كل من ينبّه على خطأ، أو يكشف فضيحة، أو حتى يسدي نصيحة؛ بأنه من المعارضين الذين لايحسنون سوى تصيّد الأخطاء، فنفوسهم مليئة بالحقد وقلوبهم سوداء لاهمّ لها إلا النظر إلى النصف الفارغ من الكأس ! ومهما كانت النية حسنة، والأسلوب حكيماً، أو الدليل دامغاً، أو كانت طريقة المعالجة ملتزمة بالمنهج العلمي في التناول، أو الدِّقة في التشخيص والحكم- كما يردّدون دوماً- أو حتى كان من ينبّه على ذلك معروفاً بعدم الانتماء السياسي والحزبي ؛ إلا مقابلة ذلك كلّه بالمغالطة والتنصّل عن المسئولية وكيل الاتهامات؛ لكن سيظل أسخف أسلوب وأبأسه أن يلوذ (مترف) بالمنهج العلمي والتدثّر بألفاظ الموضوعية والبحث والمنهجية إلخ...!!

 أو ما درى أولئك البائسون – في مختلف مواقعهم - أن هذه الحذلقة المفضوحة لا تنطلي على أولي العلم والبحث المنتسبين بحق إلى مؤسسة البحث و التربية، الملتزمين صدقاً بالمنهج والعلم والموضوعية،وأن مضيهم في الاستخفاف بالتقاليد المرعية في المؤسسات العلمية، التي خرّجتهم، وبأساتذتهم وزملائهم بل حتى تلامذتهم، وأن قذف كل وطني غيّور حين يصرخ وقد بلغ فساد هذه المؤسسة مداه بحقد المعارضة أو محاولة الاحتماء بدعوى المنهجية والعلمية والموضوعية للتخلص من المسئولية التاريخية هو أسلوب ضعيف قبيح مستهجن بل قد يكون – من حيث يدرون أو لا يدرون جزءاً من المؤامرة الحقيقية على التعليم- فضلاً عن أنه لايخرج عن أساليب الإرهاب الفكري التي يجيدها المرجفون في المدينة، ظناً منهم أن ( خير وسيلة للدفاع الهجوم)!

تقارير فساد التعليم:

حسناً فلنسلّم أن كل ما يقال عن فساد المؤسسة التربوية حديث غير بريء وأن له أهدافاً سياسية أو سواها فماذا سيقال عن تقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة التي كشف عن بعضها تقرير برلماني ؟ حيث يقدّر ذلك الفساد بالملايين بل المليارات في مختلف قطاعات وزارة التربية، وقد نشرت ذلك بعض المصادر.

الصحافية(راجع موقع يمن بزرفير www.yemenobserver.net/index.php?action=showDetails&id=31 )، بل حتى أشارت لى جانب من ذلك ونشرته بعض المصادر الرسمية (راجع موقع صحيفة الوحدة  http://www.alwahdah.net/index.php?id=3001 ) .

أمّا ما تناولته المصادر المستقلة فإن تقرير(صحفيون لمناهضة الفساد (يمن جاك) ) يرصد مخالفات بمليارات الريالات في معظم مؤسسات الدولة ومنها التربية. ففي تقرير منشور عبر موقع هذه المؤسسة بتاريخ 5\12\2008م ( http://yemenat.net/details.asp?id=1886&catid=11 ) ورد أن المخالفات في وزارة التربية والتعليم بلغت (مائة وثمانية وثلاثين مليارا وثلاثمائة مليون وخمسمائة واثنين وستين ألف ريال) ، منها مبلغ مليار وتسعمائة مليون تم صرفها بغير وجه حق، ومبلغ أربعة عشر مليارا و أربعة عشر مليون ريال عهد وسلف لم تصف، ومبلغ مليار وتسعمائة وأربعة وستين مليون صرفت بغير وجه حق، ومبلغ ستمائة وخمسة وأربعين مليونا تم صرفها بناء على عقود تم التوقيع عليها بصور مخالفة لقانون المناقصات.

في بلد يرزح تحت نير الفساد ويشكو كل أبنائه بمختلف مستوياتهم ومواقهعم من هذا (الشبح) المخيف إلى الحدّ الذي دفع السلطة العليا في البلاد للاعتراف علانية وعلى رؤوس الأشهاد بهذه الحقيقة (الفساد)، فعملت على تشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد، كما شكّل برلمانيون وصحافيون وسواهم هيئات مكافحة مماثلة كل من موقعه ، في بلد كهذا لايزال يأبى مسئولو الوزارة الاعتراف بحقيقة الفساد فيها حتى الآن، أما الطريف في الأمر الذي نرجو أن يفتينا فيه أولوا الشأن التربوي في قيادة الوزارة : هل ثمّة دلالة في أن تتربع الهيئة العليا لمكافحة الفساد في مقر وزارة التربية والتعليم (التاريخي) أم أنها الصدفة وحدها؟!

نموذجا أمريكا واليابان:

لماذا يحرص بعض مسئولي وزارة التربية والتعليم على تصوير أن الحالة الاستثنائية الوحيدة الخالية من الفساد في البلاد هي وزارتهم (المقدّسة) وحدها، دون أن يفوتهم ترديد المعزوفة المملة المشروخة ذاتها ( إن وجد فساد أو خلل في الوزارة فيوجد فساد وخلل في أمريكا وأوروبا واليابان)! وهنا ليسمح لي الصحافي اللامع عبد الله الصعفاني أن أستعير عبارته الرائعة :" الفساد عالمي صحيح، غير أن الحكاية تحتاج إلى الاكتمال المتمثِّل في كونهم هناك يدفعون من يلهب ظهور الناس أو يفسد إلى المحكمة، أو الانتحار أو الاستقالة في أحسن الأحوال. هناك لا تسجّل المصائب دائماً ضد مجهول"( صحيفة الغد، العدد 72).

وأزيد على ذلك فأقول إن ما يفرض الاحترام في النظام الغربي بعامة والياباني كذلك أن لديهم من الشجاعة الكافية مايؤهلهم لمواجهة النقد الذاتي بعيداً عن ذهنية التبرير التي تطبع مسئولينا في بلدان العالم النامي ومنها اليمن. ولعلنا نتذكّر أن الدراسات التي بدأت تحذّر من وضع التعليم الأمريكي تبلورت في العام 1983م في شكل تقرير شهير عنوانه "أمة في خطر" ( A nation At Risk ) ، حيث حذَّر من التراجع الذي بدأ يظهر في المستوى العلمي، إلى الحدّ الذي وصف فيه التقرير حالة التعليم هناك بالقول:" :" لو كان التعليم بحالته في بداية الثمانينات بأمريكا مفروضاً عليها من قوى خارجية كان الأمريكيون سينظرون إليه كعمل حربي ضدهم، ولكن ما حدث أنهم سمحوا بأن يفعلوا ذلك بأنفسهم". ومن ثم بدأت الخطوات الجادّة الهادفة إلى تجاوز ذلك الوضع، ولكن بتقديم استراتيجيات حقيقية تجد طريقها المباشر على الأرض، لا أن يُفاخر بها في المناسبات والمشاركات (الدولية) على الورق فقط، كما هو الشأن لدينا غالباً.

لقد عملت استراتيجياتهم على معالجة الأسباب التي أدّت إلى ذلك الوضع ، واتضح أن المعلّم هو السبب الرئيس في الذي جرى ويجري، فكان السعي نحو الارتقاء بمستوى تأهيل المعلمين، ولم يأتِ عام 1988م إلا وقد طبقت (44) ولاية أمريكية نظام امتحان الكفاية، الذي يتحدد بموجبه مدى كفاءة المعلم المتقدم لشغل هذه الوظيفة. ثم عزّزوا ذلك بإعطائه مزيداً من المكانة المهنية والحرية والثقة، بما يمنحه استقلالية ومكانة اجتماعية مميزة، تعيده كقدوة لها احترامها ومكانتها في النفوس. (راجع مقالة رغداء زيدان : أمريكا في خطر ونحن في خطل على موقع شهاب http://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=article&sid=1195 )

و لا يهدأ بال الأمريكيين أبداً، إذ تتواصل جهود إصلاح النظام التعليمي باضطراد، مهما اختلف الساسة، أو تباينت انتماءاتهم، أو تبدّلت مواقعهم، ففي عام 1991م، أي في عهد الرئيس جورج بوش (الأب) نُشر مشروع بعنوان (أمريكا عام 2000ـ استراتيجيه للتعليم) ، تضمّن الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها نظام التعليم الأمريكي ، ومنها : " أن يحتل الطالب الأمريكي المرتبة الأولى عالمياً بين دول العالم في مادتي العلوم والرياضيات" . ومن أجل تحقيق هذه الغاية قدّم الباحثون الأمريكيون تقارير حول أفضل الطرق التي تمكّن الطلاب من التفوق في هذه المواد الأساسية، منها وثيقة "معايير منهج وتقويم الرياضيات المدرسية" Standards for Curriculum and Evaluation for School Mathematics ، التي اعتمدتها معظم الولايات الأمريكية في كثير من خطواتها لتطوير تعليم الرياضيات فيها. ووثيقة "مبادئ ومعايير الرياضيات المدرسية" Mathematics Principles and Standards for School ، التي أصدرها المجلس القومي لمعلمي الرياضيات في آذار مارس من عام 2000م، بعد دراسة متأنية وجادة لواقع تعليم الرياضيات في أمريكا )المرجع السابق).

واليوم قدّم العلماء وثيقة بعنوان " الارتفاع فوق العاصفة القادمة" ، تعكس مدى خوفهم من تراجع الهجرة العلمية إلى أمريكا، وذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مما سينعكس على تراجع القدرات العلمية الأمريكية، والتي يُخشى إن هي استمرت أن تفقد أمريكا بسببها تفوقها العلمي على العالم خلال عقد واحد من الزمن فقط.

ويقول العالم (ستيفن شو) مدير مختبر لورنس بيركلي الذي شارك في وضع هذا التقرير: "بعد الحادي عشر من سبتمبر أصبحنا أقل ترحيباً وعلينا أن نوقف هذا فوراً"، ووصف (شو) أمريكا بأنها "كضفدعة سقطت في ماء يغلي ببطء فهي لا تقفز من الماء لأنها لا تدرك أنها في طريقها إلى الموت"(نفسه).

أمّا اليابانيون فقد مارسوا النقد الذاتي عبر تقرير عنوانه( أهداف اليابان في القرن الحادي والعشرين: تقرير لجنة رئيس وزراء اليابان حول أهداف بلاده في القرن الحادي والعشرين) على نحو لايقلّ جرأة عن التقرير الأمريكي ( أمة في خطر). ولاحظ أن المسئولية التربوية جماعية فلم ينسب التقرير إلى وزارة التربية والتعليم أو نحوها بل إلى لجنة حكومية تتبع رئيس الحكومة. وقد ورد في مقدّمة التقرير : " لاشك أن الذي بين أيدينا الآن يمثِّل جهداً جديراً بالاهتمام، وعملاً يستحق الثناء والتقدير، وذلك من حيث قدرته على ممارسة النقد الذاتي دون محاباة، أو مجاملة، ومن حيث جرأته على اقتحام المناطق الحسّاسة في النظام السياسي والقافي والاجتماعي بلاده، وكشف مكامن القصور والضعف في الوضع الراهن لليابان. غير أن هذا النقد اللاذع القاسي الذي يشبه مبضع الجرّاح وهو يتعامل مع جسد مريض طالت علّته، واشتدّ مرضه، وآمن الكثيرون باستحالة شفائه ، هو نقد ينبع من المحبّة والإعجاب بالشخصية اليابانية، والإيمان بغد أفضل. فطبيبنا على الرغم من أنه يوقن أن العلاج سيكون حادّاً ومؤلماً، وأن النتائج قد لا تكون مضمونة، إلا أنه يشرع في عمله دون توقف، فلا توهنه صرخات المريض، أو تفت في عضده نوازع اليأس والتشاؤم.فالتقرير يشير بصدق جارح للصعوبات والتحدّيات التي تواجهها اليابان اليوم، غير أن هذا النقد القاسي لايتحوّل إلى لون من ألوان الندب وجلد الذات، بل هو ينطوي على إيمان شديد بقوة اليابان وقدرتها على النهوض من عثرتها وتجاوز أزمتها الراهنة، ومواجهة تحدّيات الحاضر واستشراف آفاق المستقبل".( راجع التقرير ضمن سلسلة إضاءات تربوية، 1421هـ-2000م،الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، ص 9-10).

يتحدّث التقرير عن الطفرة الشاملة التي استطاعت اليابان تحقيقها بعد الحرب العالمية الثانية، رغم خروجها منهزمة عسكرياً، ورغم أن السلام قد فرض على اليابانيين فرضاً إلا أن ذلك "كان له أبعد الأثر في تمهيد السبيل أمامها لكي تستثمر كل طاقاتها في المجالات السلمية، ومن ثم تمكنت اليابان من تحقيق مستوى من الرخاء لم تشهد له مثيلاً من قبل. إلا أن هذا النجاح ذاته كان ينطوي على بذور الفشل، إذ أدّى الاعتقاد المبالغ فيه بعظمة ومثالية النموذج اليابان، ومن ثمّ الثقة المفرطة التي أولاها اليابانيون نظامهم السياسي والاجتماعي إلى لون من التسليم المطلق بما هو كائن وغياب النقد الذاتي، والرغبة في المراجعة والتصحيح ، وهو مانتج عنه جمود في الاقتصاد والمجتمع على حدّ سواء، وافتقادهما المرونة والحيوية والقدرة على مواكبة المتغيرات الداخلية والخارجية" (

(المرجع السابق، ص 13-14).

كما ورد فيه تحت عنوان ( التحدّيات والبحث عن طرق جديدة لطرح الأسئلة):" لا يقدّم التقرير إجابات جاهزة ، كما أنه لا يدّعي القدرة على تقديم حلول سحرية لمشاكل اليابان وللتحدّيات التي تواجهها الآن أو ستواجهها خلال القرن الحادي والعشرين، على الرغم من أنه يبادر بوضع مقترحات محدّدة أحياناً، إلا أنّه لا يقدّم مثل هذه المقترحات على أنها تشكّل حلولاً جاهزة، ولكن باعتبارها مقترحات أولية ومرتكزات يتم الانطلاق منها نحو إدارة حوار قومي حول عدد من التحدّيات الأساسية التي قد تعترض مسيرة اليابان خلال السنوات القليلة القادمة، ويحدّدها التقرير في خمس نقاط رئيسة"( نفسه، ص 15).

أمّا الخمس النقاط تلك فيمكن إيجازها في تحدّيات العولمة،ومحو الأمية الكونية(( Global literacy ، ضعف اليابانيين في التعبير عن أنفسهم بلغة عالمية (الإنجليزية)،أسلوب الإدارة العتيق داخل المؤسسات العلمية والأكاديمية والاقتصادية إلى تعطّل الطاقات وغياب روح المبادرة الفردية وقمع التميّز والرغبة في المخاطرة باقتحام المجهول، والخوض في طرق غير مألوفة، أمّا الخامسة فالنقص الحادّ في معدّلات المواليد، مع ارتفاع مطّرد في متوسط الأعمار( راجع التفصيل في المرجع السابق نفسه، ص 15-26).

نماذج من ذهنية التبرير:

إذا كان ذلك هو وضع التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، وهو وضع لا تجوز مقارنته من أي وجه مع أوضاعنا التعليمية من حيث السوء والتدهور؛ إلا أن الروح (العلمية) الحقّة، والإحساس بالمسئولية التاريخية والوطنية لدي قياداتهم السياسية والتربوية والاجتماعية جميعاً لم تدفعهم للمكابرة والتبرير وحشد جملة المغالطات- كما يفعل نظراؤهم لدينا في تزييف للوعي قلّ نظيره- بل دفعتهم إلى إعلان ثورة ثقافية شاملة، في صورة نقد ذاتي بنّاء- رغم صعوبته- ولكنه وحده أساس الحلّ الأمين، لإنقاذ البلاد من وضع التردّي الذي ينحدر فيه يوماً بعد آخر، في حين أن التعليم لدينا لم يستو على سوقه يوماً في تاريخ اليمن المعاصر، ثم نلفى الذهنية التبريرية، تقذف كل ناصح بشتى أنواع التهم. ولست أدري كيف سيفسّرون النقد المضاعف لأوضاع التعليم في مثل البلدين السابقين، هل هو من قبيل الاتهام أم الغيرة الوطنية المنشودة؟ لكن إليك الآن- قارئي الكريم- جزءاً محدوداً من هذه النماذج التبريرية في بلاد (الإيمان والحكمة) ولك بعدها أن تفسّر الأمر أنت:

ذات مرة يتحدث أحد كبار مسئولي التربية في برنامج إذاعي عن شئون التربية والتعليم؛ فيرِد اتصال هاتفي من سائل يشتكي إلى مقام السيّد المسئول الكبير: أوضاعنا التعليمية في منطقتنا الريفية سيئة، والكل يعلم – سيدي- مدى تدهور الوضع التعليمي في البلاد عامة والريف على نحو أخص، فيقاطعه السيّد (المترف) بأن حديث السائل غير علمي : إذ لم تتم دراسة تثبت أن التعليم في اليمن ضعيف، وكذلك الحال في الريف، ولا يجوز أن يتحدّث المرء بلا علم وبحث!!!!

بعيداً عن الجدل البيزنطي الذي يمكن أن يثار هنا، فيكفي أن نذكّر ذا المقام السامي أن ثمة تصنيفاً مشهوراً لدى الأمم المتحدة ولدى العالم كلّه، يقسّم الدول والمجتمعات إلى دول متخلّفة وأخرى متقدّمة، وأن من الدلائل ذات الأهمية في ذلك التصنيف مستوى التعليم من زواياه المختلفة في البلد المصنّف في إطار أيّ من الخانتين،وحسب علمنا- والعالم يشهد- أن اليمن مصنّفة مذ وعينا أنفسنا في خانة الدول المتخلّفة، إلا إذا كانت في عهده الميمون قد تجاوزت إطار التخلّف في المنظومة التعليمية،وانتقلت-ونحن لحسن الحظ لاندري- إلى مصاف الدول المتقدّمة؛ فيابشرانا بهذا العهد الذي لانعلمه، ولا يعلمه أحد في الكون إلا أصحاب التزكية والتبرير والتزيين إياهم! ونحن نناشدهم الله والرحم أن يدلّونا على هذا (اليمن) الذي لانعلمه، لنشدّ الرحال إليه، بعيداً عن (يمن) التخلّف والجهل المركّب.

المسئول ذاته يستضاف في حوار متلفز غير مرة- بطبيعة الحال- إلا أنه قد يواجه أحياناً بشخصية علمية أو أكاديمية أو تربوية حرة تخالفه الرأي بالبيانات والأرقام، لكنه يصرّ كالعادة على أن أوضاع التربية والتعليم في أحسن مراحلها، وكل شيء على مايرام، والخلل المحدود – إن وجد- فيوجد مثله في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان- فضلاً عن الدول العربية وجيراننا الخليجيون في مقدّمتهم- .

كثيراً مايؤكِّد صاحبنا أن التعليم في اليمن في وضع لا يخشى عليه بما في ذلك أوضاع محو الأمية، وذات مساءلة (شكلية ) أمام البرلمان فاخر أن وزارته قامت بإنشاء مراكز ومكاتب متخصصة في هذا المجال في عموم محافظات الجمهورية، وتم رفع زيادة أجور المتعاقدين في مجال تعليم الكبار من 1000 ريال شهريا إلى 8000 ريال (بالله ضعوا ألف خط تحت هذا الرقم)، لافتا إلى ارتفاع نسبة الملتحقين بمراكز محو الأمية وتعليم الكبار من 55 ألفاً إلى 128 ألفاً في السنوات الأخيرة. لن أناقش صاحب المقام السامي عن حقيقة المدخلات والعمليات والمخرجات في هذا القطاع، كما لن أناقشه عن حقيقة هذه الأرقام فعلياً في مجتمع أطلق لكل متنفّذ أن يقول ما يشاء ويفعل مايربد في غياب محاسبة حقيقية،ناهيك عن حياء نادر أو مفقود، بل يمنح مكافآت فلكية مادية أو معنوية بقدر النقد الذي يطال مؤسسته ( هل نسيتم فضيحة وزارة الكهرباء(النووية)؟ هل أحيل نجمها العبقري اللامع إلى محاكمة علنية بعد الفضيحة المجلجلة؟ أم منح منصباً جديداً مرموقاً وعلى عينك ياهيئة مكافحة الفساد )، لكن دعونا فلنسلّم جدلاً بتلك الأرقام غير أن الـ (8000) ريال شهرياً (نحو 40 دولاراً)- إذا صحّت- ماذا تعني أيّها المترفون ماذا؟ ولا أعلم أحداً مهما تدنّت درجته الوظيفية ممن ينتمي رسمياً إلى مؤسسات الدولة يتسلّم مرتباً كهذا، بصرف النظر عن حقيقته عملياً. لقد ذكّرني هذا الاستفزاز بما شاهدته رأي العين قبل سنتين فقط، حين أسند إليّ تدريس مقرر(محو الأمية وتعليم الكبار) على طلبة (البكالوريوس) بكلية التربية، وفي سياق الحديث عن حقوق معلّمي محو الأمية تبرز إحدى الطالبات (المعلّمات) في محو الأمية عقداً رسمياً يحدّد مرتبها السنوي بـ(6000) ريال!! أي بواقع (500) ريال شهرياً وليس (1000) ريال، كما فاخر السيّد المسئول! وكلّها الـ (500)أو الـ(1000) دليل دامغ على مستوى الجدّية في التعاطي مع هذه المشكلة، ومدى المكانة التي توليها قيادة وزارة التربية لـ(مأساة) محو الأمية. 

لم أعد قادراً على استيعاب: كيف يستقيم هذا الواقع الكارثي مع جعجعة مخجلة من هؤلاء (المترفين) أنفسهم، بأن العالم اليوم تجاوز الحديث عن محو أمية الحرف، وانتقل إلى الحديث عن محو أمية الحاسوب (الكمبيوتر) و شبكة المعلومات الدولية (الإنترنيت)!!!

ولهذا يصيحون فينا في أكثر من مناسبة بأن وزارة التربية والتعليم تسعى لأن يحصل كل طالب على حاسوب شخصي ليتعلّم ويمارس مهارة (الحاسوب)، في وقت يعلم فيه المعلّمون والتلاميذ في المدارس الحكومية، بل في مدارس في قلب العاصمة أن ثمة أعداداً هائلة من التلاميذ لا تحصل على كراسي تقيها من البرد القارس، حين يفترشون الأرض في عز موسم الشتاء! وإذا كان هذا على بعد أمتار من وزارة التربية فكيف بالمناطق الريفية والنائية التي لايزال يعاني معظمها من أبجديات توافر العناصر الأساسية العملية التعليمية من مثل معلّم متخصص مؤهّل، وكتاب مدرسي يأتي في موعده، ومعامل يتوافر فيها الحد الأدنى من المواد والأجهزة اللازمة، ومن نظام إداري يحقق الحدّ الأدنى من الضبط واحترام القوانين واللوائح، ولاسيما فيما يتصل بالاختبارات.

إلغاء الرسوم الدراسية في بلد واق الواق:

في بلد يدّعي قادته بأنه يحترم الأنظمة والقوانين، ويلتزم نظام المؤسسات، ويعمل على تنفيذ القرارات الرسمية التي يصدرونها هم أنفسهم؛ نرجو أن يفسِّر لنا أولوا أمرنا في قيادة وزارة التربية والتعليم قرارهم الأخير الذي أصدرته الوزارة بشأن إعفاء تلاميذ الصف الأول حتى السادس وتلميذات الصف الأول حتى التاسع من مرحلة التعليم الأساسي من رسوم التسجيل، وهو القرار الذي أكّد عليه معالي الدكتور عبد السلام محمد الجوفي وزير التربية والتعليم في تصريح لموقع(نيوز يمن) في 23\8\2008م، موضحاً أن القرار يهدف إلى تشجيع الالتحاق بالتعليم للجميع، مشيراً إلى أن الحكومة اعتمدت مبلغ مليار ريال لمواجهة النفقات التشغيلية للمدارس، لكن كيف يفسّرِ لنا معاليه: الاستمرار في تسلّم الرسوم للبنين والبنات في أمانة العاصمة في هذه المرحلة، خلافاً للقرار، ولذلك فيبدو غير مفهوم أن يتوعّد معالي الوزير – في التصريح ذاته- كل من يثبت عدم التزامه بالقرار في الأرياف، ممن لايزالون يفرضون على طلبة تلك المرحلة الرسوم الدراسية السابقة، مبدياً عدم تسامح الوزارة معهم، والمهم هو أن تبلّغ الوزارة عن ذلك، وهأناذا أبلّغ معاليه مباشرة عبر هذا المنبر- بعد أن تعذّر التواصل معه هاتفياً، أما اللقاء المباشر فولّت أيامه السهلة - فيما يبدو- إلى أن القرار غير ساري المفعول في كل المدارس التي سأل الكاتب (عشوائياً) عن مدى تقيّدها بالقرار في أمانة العاصمة، لافرق بين بنين وبنات، هذا مع ما نسمعه من تفاوت في المبالغ التي يتم فرضها عليهم، من مدرسة إلى أخرى، وهب- جدلاً- أن تحرّكاً مشكوكاً فيه جدّا، قد يتم بعد مرور شهر أو نحوه من بدء التسجيل؛ فهل سيتم إعادة المبالغ إلى أولياء الأمور، مع الاعتذار إليهم عن انتهاك القانون بجوار مقرّ الوزارة ،وعبر مناطقها التي يتردّد أن الأوامر بالاستمرار في تسلّم الرسوم السابقة قد صدر عن بعض مدرائها ؟! أم ماذا عساكم يامعالي الوزير فاعلون،بجوار مقرّ وزارتكم الزاهرة، وليس في منطقة ريفية مجهولة كما توعدّتم من يثبت عليه ذلك؟!!

 ليعذرني معالي الزميل الوزير إن أنا تساءلت –ببراءة وهو ربما يتذكَّر مدى صراحتي وعفويتي- عن الشق الثاني من تصريحه في السياق نفسه في قوله عن الكتب الدراسية المقررة على الطلاب بأنها "وصلت إلى الميدان بنسبة 80%، واعداً أن تتمكن الوزارة خلال الأسابيع القادمة من استكمال توزيع الكتب المقررة وتغطية العجز بشكل أفضل عن السنوات الماضية". ما الجديد في التصريح ؟ وهل يختلف جوهرياً عن تصريحات سابقة بهذا الصدد؟ وهل يعني هذا-فقط- أن (بسطات) بيع الكتب المدرسية في قلب العاصمة(ميدان التحرير)، حيث المقر (التاريخي) لوزارة التربية-قبل الانتقال الأخير- ستختفي؟ ثمّ –وهذا أدهى وأمر – كيف ينسجم تصريح معالي الوزير مع تصريح الدكتور عبد الله أبو حورية المدير العام التنفيذي للمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي الذي أوردته وكالة الأنباء اليمنية سبأ(المصدر الرسمي الأول لأخبار اليمن) في 25\8\2008م بأن 65%(وليس 80%) من الكتب المدرسية متوفرة في مكاتب التربية في المحافظات؟ كم ياتُرى الفرق بين نسبة 80% و65% ؟ مع أن مصدر الخبرين رسمي، ولاحظ أن تصريح الوزير ورد في 23 \8 في حين أن تصريح مدير عام المؤسسة التابعة لوزارته، ورد في 25\8 أي في وقت واحد تقريباً!

العالمية في الدراسة الرمضانية:

ومشكلة أخرى متكرّرة سنوياً (في السنوات الأخيرة خصوصاً) وردت في التصريح آنف الذكر لمعالي السيد الوزير عن بدء الدراسة في 6 سبتمبر(6 رمضان) حيث قال " إن الدراسة محكوم عليها وفقا لعدد الأيام الدراسية، ووفقا للمعيار العالمي الذي يجب أن لا تقل مدة الدراسة عن 136 يوما للفصل الدراسي الواحد، ولو تأخرت الدراسة عن شهر رمضان فإنها ستستمر حتى نهاية شهر يوليو". وأسأل معاليه : لماذا نُلدغ من الجُحر الواحد ألف مرّة؟ أليست مثل هذه التبريرات تساق سنوياً، والنتائج معروفة سلفاً ؟ حيث لا انضباط في حضور التلاميذ، ولا انضباط كذلك في أداء المعلّمين والمعلّمات. وإذا كان من المعلوم أن لشهر رمضان نَفَساً خاصاً لابد من مراعاته في كل بلد إسلامي(دعونا من الشعارات العائمة : رمضان شهر عمل وجهاد وإنتاج فهذا خلط معيب علمي ونفسي وتربوي واجتماعي لعل فرصة أخرى تتيح مناقشته) ما بالك بالبيئة اليمنية حيث لا يجهل مشكلتها الخاصة من حيث العادات والأنماط السلوكية في ليل رمضان ونهاره في اليمن من يعش بين ظهرانيها. بل لابد من بذل جهود تربوية ونفسية واجتماعية وسياسة قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى لتهيئة الأرضية النفسية والتربوية والاجتماعية، كي تساعد على قبولها، ومن ثم نسير في خطّ تعديل الاتجاهات الخاطئة تلك، بأساليب لانبدأها بفرض أوامر قهرية تنعكس سلباً على أداء المعلّمين، بل تتسبب في ضعف دافعتيهم بعد إجازة العيد، حيث تبدأ الدراسة الجادة المفترضة، وقد استفدت قبل ذلك بتلك الأوامر القهرية، التي تعني تفويت واحدة من أهم مقومات الإنجاز وهو الشعور الذاتي للمعلّم باحترام الذات، ناهيك عن أن الجميع يدرك النتيجة العملية السلبية سلفاً. ولو أن الأمر اقتصر على الهيئة الإدارية المعنية بالتسجيل وإجراءات النقل والتحويل وما إلى ذلك، كي يأتي العام الدراسي الفعلي بعد إجازة العيد مقتصراً على التدريس فحسب؛ لكان ذلك محلّ رضا وإجماع ومباركة كل المخلصين، في الوسط التربوي أو خارجه.

ثمّة انعكاس آخر ذو صلة بتصريح السيد الوزير وله بعد نفسي اجتماعي أرجو أن لا يغيب عن فطنة كل مسئول مخلص في البلاد، وذلكم أننا نعاني من ضعف ظاهر في تجسيد مدلولات التربية الوطنية ذات العلاقة بالقوانين والأنظمة واللوائح ، أي تنمية الحسّ الوطني المتصّل بالشعور نحو الالتزام بتنفيذ القوانين والأنظمة واللوائح، ومن شأن قرارات فوقية كهذه أن تسهم أكثر في تغذية هذه الاتجاهات السلبية، ولهذا انعكاسه السلبي الأكبر اجتماعياً وعلى مستقبل الجيل، الذي سينشأ في واقع جاحد متنكِّر لأهم مرتكز حضاري يتسم به المجتمع المدني المنشود، وهو احترام القوانين والأنظمة واللوائح والتقيّد بها، وأحد أسباب ذلك هو إصدار قرارات نعلم سلفاً ضعف التفاعل معها، وربما رفضها والتحايل عليها، مع أن الحلول الأخرى ممكنة إن لم تكن أفضل أحياناً، وتساعد على على غرس القيم والاتجاهات الوطنية الإيجابية.

لم يفت معالي الوزير تبرير هذا الإجراء بقوله :"إن الدراسة محكوم عليها وفقاً لعدد الأيام الدراسية، ووفقا للمعيار العالمي الذي يجب أن لا تقل مدة الدراسة عن 136 يوما للفصل الدراسي الواحد، ولو تأخرت الدراسة عن شهر رمضان فإنها ستستمر حتى نهاية شهر يوليو". وكأن المقصود –فحسب- تسجيل موعد البدء أمام (العالم) كي لا يقال عنّا متأخرون (عالمياً) ، أما عن الإفادة من كل تلك الأيام عملياً فأمر آخر لايعنينا. ويحزنني أن يقع معالي الوزير في فخّ حكاية (السمكة والقرد) في تلك القصة الرمزية التي أوردها (آدمز) لمن لا يهتم ببيئته، ويسعى لمحاكاة الآخرين بصرف النظر عن مدى الملائمة من عدمها، حيث التركيز كلّه على الاستعارة وحدها، وليتها استعارة مدروسة واعية مفيدة.

 

لا يجوز أن نتحدّث عن نظام تعليمي عالمي في ظل ضعف ماحق طال العناصر الأساسية للعملية التعليمية وأدناها توفير كتاب مدرسي لكل طالب في وقت مناسب، وتخريج معلمين أكفاء مؤهلين بحق، وإدارة تحمل الحدّ الأدنى من معيار الكفاءة والتأهيل وليس الولاء (الشللي) والحزبي . وإذا كان موضوع الكتاب المدرسي قد سبقت الإشارة العُجلى إليه، وتأهيل المعلمين ليس مسئولية أولى لوزارة التربية إلا ما يفترض أن يتحقق من تطوير وتدريب مستمرين أثناء الخدمة؛ فإن مسألة الكفاءة الإدارية مسئولية مباشرة لوزارة التربية والتعليم. لست أدري ما الذي يمكن أن يقنع ساداتنا في قيادة وزارة التربية والتعليم أن هذه الأخيرة بلغت من السوء درجة لا تشرّف منتسباً إلى اليمن عدا الوسط التربوي ناهيك عن المسئولين المباشرين عنهم. جوانب الفساد فيها أكثر من أن تحصى في مثل هذه العجالة بيد أن أسوأها –فيما يبدو- الفساد السنوي العريض في مسار الاختبارات والشهادة الأساسية والثانوية منها بوجه خاص في عاصمة اليمن التاريخية(صنعاء) قبل غيرها، لكن لنركّز على الأرياف و ريف محافظة صنعاء – وليس الجوف- ، ودعوني أذكر نموذجاً منها -بحكم الاطلاع المباشر والمتابعة الشخصية- : بعض مراكز الحيمة الخارجية التي لا تبعد سوى 40 كيلو متر عن العاصمة، وعن مقر الوزارة معاً ، حيث تباع فيها- أي المراكز- الإجابات بـ2000ريال يومياً عن كل مقرر ؟! وللسيد الوزير أن يُقنعنا فقط – بطريقته- : لماذا يعاقب الطالب المتميّز الذي يرفض المشاركة في دفع المبلغ المقرر بفظاظة وسوء تعامل من قِبَل لجان الإشراف، ويصوّر على أنه (شاذ) خارج عن القانون، فيعزل في غرفة (انفرادية)، ليؤدي الامتحان بنفسية المذنب الخارج على القانون؟!

صفوة القول: عملية الإصلاح للتعليم لا يمكن أن تنطلق في ظل واقع ملؤه التبرير والتزكية أو المغالطة والتضليل، وكيل الاتهامات لكل من يحمل روحاً وطنية نقدية مخلصة، ورؤية علمية وتربوية نافعة.

لقد تعلّمنا بالأمس في أبجديات البحث العلمي- ونعلّم طلبتنا اليوم -أن الخطوة الأولى للبحث في أية مشكلة علمية تواجهنا أن الإحساس بها يمثّل شرطها الأول، قبل الانتقال إلى أيّة خطوة تالية. وبفقدان ذلك الإحساس واستمرار ذلك التبرير سيتكرّس فساد التعليم أكثر، وتتعمق جذوره على نحو لم يُسبق إليه، ومن ثم سيطبق التخلّف الشامل على حياتنا، ولكل وطني مخلص غيّور أن يرفع علامة استفهام كبيرة : من المستفيد من كل الذي يتعرّض له التعليم في البلاد؟ ثمّ تبرير إلى متى؟ وخوف من النقد لماذا؟ !

* أستاذ أصول التربية وفلسفتها المشارك


في الإثنين 22 سبتمبر-أيلول 2008 01:44:59 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=4200