|
كان علي صالح عباد مقبل، يرحمه الله، نائب رئيس مجلس النواب في أول برلمان يمني منتخب بالكامل عام 1993.. وعندما هُزم حزبه، في 1994، عمل- بكل الجهد- بحيث يحافظ على ما أمكن من كيان الحزب العريق وقيمه الوطنية، مع عدم الخضوع أو التذلل للمنتصرين، كما يفعل اليوم آخرون في صنعاء.. قد يقول قائل: هناك فرق بين منتصري ومهزومي الأمس واليوم..!
كان مقبل رمزاً للاعتداد بالنفس والالتزام بالمبدأ والصبر والتواضع.. وكانت النزاهة من قيمه وشيمه دون ادعاء أو تظاهر، وهو السياسي الفقير..
ذات مساء، تقرر عقد اجتماع للجنة برلمانية، لنقاش مشروع حضره مقبل.. لسبب ما، تعذر أن تدخل اللجنة في نقاش المشروع، فقام بعض الأعضاء يوقعون على حافظة الحضور، باعتبار أنهم قد حضروا، ليستحقوا بدل الجلسة، ثلاثمائة ريال، حينذاك..! فلما قال السكرتير، تفضل يا أستاذ علي ( مقبل) بالتوقيع.. اعتذر مقبل بهدوء وهو يبتسم، وقال: لا يجوز..! البدل بدل العمل وليس بدل الحضور..! وترسخ ذلك كمبدأ، وهو مبدأ منطقي بالتأكيد، ولكنه ساد لبعض الوقت فقط..
هل أزعم، إنني ممن شعر حينها بالغبطة..؟! نعم، شعرت بغبطة، بأن يكون هناك مسؤول يمني بهذا العناد، يسبح ضد التيار بعد الحرب الذي ساد بعدها الفساد الكبير.. قلت لزميل الغربة والدراسة العزيز الدكتور/ عبد القوي الشميري ليلة 7/7/ 1994، إن الفساد سيسود بعد تلك الحرب كما هي عادة الحروب الأهلية وما بعدها.. لكن الفساد والاستهتار كان أخطر وأبشع مما توقعنا، وها نحن نجني نتائجه المريرة؛ حوثيون وانفصاليون وإرهابيون، وتشرذم وتشرد وخراب..
فعل مثل مقبل ذات اجتماع مشابه، الزميل البرلماني السابق/ محمد الصادق مغلس.. وكان الصادق، يرى حرمة ذلك فقهياً.. أما مقبل فلعله يستند إلى مبادئ الاشتراكية الصارمة والوطنية الحقة، وربما القانونية أيضاً.. وأكبرت موقفاً قريباً من كل هذا، لشيخ برلماني من محافظة حجة، كان زميلا قديماً في اللجنة المالية وانحاز لصالح بعد 2011 وما يزال اليوم في صنعاء..
وكلما تأملت بعد ذلك في تلك المواقف، قلت: النزاهة لا دين ولا مذهب لها ولا حزب ولا جهة، مثل الفساد أيضاً..! لكن تدهور القيم قد يشمل أكبر عدد من الناس والجهات في ظروف بعينها.. وقد يصمد القلة فقط..
كان البرلمان- الذي رأسه القاضي/ عبد الكريم العرشي، وأول برلمان موحد بعد الوحدة، رأسه الدكتور/ ياسين نعمان، يتميز برمزية وجاذبية، وكنت ممن انجذب إليه وترشحت في 1993، وضم برلمان 1993 نوعية متميزة نسبياً من رجالات اليمن من كل الأحزاب والاتجاهات، لكن الصراع السياسي الحاد وحرب 1994 سرعان ما ضربت التجربة البرلمانية في مقتل، مثل كل شيء جميل وكل أمل..
بعد حرب 1994 كان بإمكان كثيرين، أن يترشحوا للبرلمان وينجحوا ويمثلوا بالبلد، لا أن يمثلوها.. وكان كل برلمان يأتي أقل جودة من سابقه.. وفي تعليق لأحد المجربين، معلقاً على وفد برلماني بقيادة أحد قادة المجلس، حضر مؤتمراً دولياً خارج اليمن، تساءل: هل ذهب يمثل اليمن أو يمثل بها..؟! وكان بإمكان عدد كبير من عائلة واحدة أن يكونوا أعضاء في مجلس النواب في نفس الوقت، بما لا شبيه له في الدنيا كلها..!
بعد أيام مقبل، تدهورت القيم والتجربة، وصار بإمكان سكرتير اللجنة أن يوقع نيابة عن الأعضاء الذين لا يحضرون..
كنت قد انقطعت عن اجتماعات اللجان منذ 2005، وعلمت قبلها أن عضواً نافذاً يوقع نيابة عن بعض الذين لا يحضرون ..! وبطبيعة الحال كان ذلك مستنكراً ومستغرباً..!
لكني، علمت في 2010، أن سكرتير اللجنة قد يوقع عن الجميع، عندما لا يحضرون، وقد يستلمون مخصص بدل جلسات لم يحضروها..!
وسألت المسؤول الإداري (رئيس اللجان) في القاهرة، الذي أخبرني بهذا، هل هذا يشمل كل اللجان..؟ فكأنه قال: نعم .. أو قال أكثر اللجان..! وقلت: وهل فلان وفلان يقبلون أن يتم التوقيع عنهم..؟ فقال: نعم ..نعم..!
بعد، زمان مقبل، وبعد التدهور الخطير في القيم والممارسات، اندلعت حروب صعدة، ونزل الحراك الجنوبي الساحات، وبعده نرل الساحات، كل أحرار اليمن.. لكن يبدو أن الوقت كان متأخراً..
تحدثت ذات مرة مع مثقف تونسي، عن السياسي التونسي الدكتور/ المنصف المرزوقي، فقال: نزاهته خرافية ..! وتذكرت حينها مقبل..
رحم الله مقبل وأسكنه فسيح الجنات، وصادق العزاء لأهله ومحبيه ولليمن..
في الأحد 03 مارس - آذار 2019 09:45:50 ص