حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة العاشر والسابع عشر للميلاد
سالم القاضي باوزير
سالم القاضي باوزير
 

وقد خصص الباب الثاني من الكتاب ليتناول فيه أهم أحداث القرن السادس الهجري ويبتدئ رؤيته حول الرؤية السائدة ونقضها نقضاً جذرياً معتمداً على ما تحمله بداخلها من تناقضات ذاتية وموضوعية إضافة الى ما توفرت لديه من أدلّة علمية دامغة .

وكما يقول بهذا الخصوص في موضوعه (بيان للناس)

"(ليس من العقل أو المنطق أو العلم في شىء ان يقول مؤرخ : انه في القرن الرابع الهجري اذاب الله الاباضية كاذابة الملح ، ثم نجده يقول بحضورها القوي في قرون لاحقة متأخرة ، او ان يقول آخر : ان حضرموت في القرن السادس الهجري كانت كلها سنية الاعتقاد ، ثم نجده يقول عن الأوضاع في نفس ذلك القرن : و كانت الأباضية و المعتزلة طامة على الملة الاسلامية .أو يقول آخر : انه في ظل الغزو الصليحي لحضرموت في منتصف القرن الخامس الهجري ، ارتفعت راية أهل السنة .فكيف يمكن أن نفهم أن تقوم الدولة الصليحية الشيعية الإسماعيلية المذهب باعلاء راية أهل السنة !!؟هذا المنطق المختل و المتناقض الى درجة السذاجة ، هو منطق كل المؤرخين الحضارمة الذين عانوا الكتابة التاريخية الحضرمية ، و كل يتناقض على طريقته ، غيرأنهم متفقون على السيادة المبكرة للاعتقاد السني في حضرموت و هو الأمر الذي يرى مشروع رؤيتنا خلافه تماما .) ."

صحيح إن الدراسة سلسلة مترابطة آخذة بعضها برقاب بعض إلا أن الباب الثاني منها يعتبر الباب الأهم والميدان الذي دارت عليه معركة التاسيس والبناء من خلال ما تعرض له المؤلف بالنقد والتحليل لموضوعات مهمة وخطيرة تغافل عنها منظرو الرؤية السائدة ولَم يتعرض أحداً لها بالنقد والتحليل العلمي الدقيق حتى جاء الأستاذ سالم مفلح برؤيته التأسيسية ليقدمها قرابين على مذبح المنهجيةالتاريخية ،

ولينتزع الحقيقة المغيبة ليكشف من خلالها عن زيف وبطلان ما يروج له من قِبل انصار الرؤية السائدة حول سنية حضرموت إبان تلك الفترة من تاريخ حضرموت الوسيط .

وفِي الفصل الأول من هذا الباب يتعرض المؤلف لأهم الأحداث التاريخية الكبرى من تاريخ حضرموت في تلك الفترة بالنقد والتحليل العلمي ليقدمها كشاهد اثبات في مرافعته التاريخية ومنها الغزو الأيوبي لحضرموت سنة575هـ والذي راح ضحيته قرابة 300 عالم في مدينة تريم وحدهاوفِي هذا دلالة واضحة على كثرة القتل الذي قامت به الحملة الأيوبية في حق العلماء والفقهاء .

وهنا يقول المؤلف "لقد دللنا على أن ذلك السلوك الوحشي من قبل الأيوبيين إنه لم يكن إلا لأسباب مذهبية محضة، وأن الأيوبيين لم يمارسوا ذلك الاسلوب البشع في حق العلماء إلا في حضرموت من دون باقي مدن اليمن التي استهدفتها الحملة"مضيفاًبقوله :

"إن ما توصلنا إليه من معطيات على ضوء ماسبق من هذه الدراسة تقول: إن الأوضاع المذهبية في حضرموت في القرن السادس الهجري وأثناء الحملة الأيوبية عليها لم تكن سنية من الناحية العقائدية، وإذا كان الأمر كذلك فهي أما أن تكون أباضية باعتبار أن الأباضية هي مذهب حضرموت الأساسي أو تكون معتزلية ذلك المذهب الذي تتحدث عنه وعن وجوده في حضرموت في تلك الفترة بعض المصادر والمراجع إلا إننا لا نملك دليلاً نصياً على أي منهما غير أننا سوف نحاول الإمساك بأول خيط يخرجنا من محيط هذه المتاهة يقدمه لنا نشوان بن سعيد الحميري كمدخل لتوسيع الرؤية"

يعتبر نشوان الحميري رأسا كبيرا من رؤوس المعتزلة في القرن السادس الهجري لجأ الى مدينة تريم -حضرموت-في النصف الأول من القرن السادس الهجري ليمكث بها سنتين ونصف بعد أن اشتد خلافه مع الهاشميين القاسميين حكام الجوف و صعدة .وفِي هذا دليل آخر يرى فيه أن الأوضاع المذهبية والسياسية في -تريم – حضرموت لم تكن سنية كما يدعيها انصار الرؤية السائدة .

"وإلاما كان لنشوان أن يختار تريم لتهدأ فيها نفسه من عناء تلك الخصومة والعداوة المذهبية لو لم تكن تريم وأوضاعها المذهبية والسياسية تتناسب مع مذهبه في الإعتزال وآرائه ونظرته للأمور،مستشهداً ببعض الأبيات من قصيدة بعث بها نشوان من الجوف بعد عودته من تريم يقول في مطلعها : "

رعى الله اخواني الذين عهدتهم

ببطن تريم كالنجوم العوالم

فأبيات القصيدة طافحة بالمشاعر الجياشة لنشوان تجاه تريم واهلها وعن الروابط العميقة التي جعلته يرى فترة عامين ونصف التي قضاها بتريم تمر عليه كأحلام نائم كما جاء في شرح المؤلف لهذه الابيات وهنا نجده لم يترك لأي كلمة من كلمات القصيدة أن تمر دون التعرض لها بالشرح والتحليل معبراً عن مدلولاتها ومعانيها ففي البيت الأول من القصيدة يقول "إن كلمة (إخوان) لا يطلقها العلماء واصحاب المذاهب والمدارس ومن هم في منزلة نشوان العلمية والمذهبية إلا على من هم على مذهبه فهي اخوة مذهبية ، على أن تلك الإشادة بفضل وعلم أولائك الاخوة من قبل نشوان ليست غريبة على الأد

ب المعتزلي ذلك إن اعتداد المعتزلة بالمعتزلي كاعتداد الشيعة بالوصي والمهدوية بالمهدي على قول الخوارزمي . "

ويضيف قائلاً "إن الانسجام التام بين العلامة المعتزلي الكبير نشوان وبين المجمع العلمي التريمي والقيادة السياسية في تريم بل وممارسة نشوان النشاط التجاري في دعة وأمان كل ذلك أمر جدير بالملاحظة الدقيقة ذلك إن مجمعاً علمياً أشعرياً ما كان يمكن أن يقبل أن يعيش بين ظهرانيه رأس معتزلي حتى بأقل من رأس نشوان فكيف يقبل بنشوان . "

ومن كل ما سبق يستنتج المؤلف أن السبب المذهبي هو الذي جعل نشوان يتخذ من تريم موطناً بديلا، قضى فيها قرابة سنتين ونصف بعد أن ضاق به العيش في موطنه الأصلي الجوف .

وفِي الفصل الثاني من هذا الباب يتناول المؤلف شخصيتين كبيرتين من علماء المجمع العلمي المعتزلي في حضرموت في القرن السادس الهجري وهما: شيخ الإسلام سالم بن فضل بن عبدالكريم با فضل والإمام محمد بن علي القلعي اضافة الى الشاعر التكريتي ،ليستعرض تراثهم الأدبي من شعر ونثر بالنقد والتحليل وما تعرض له من تشويه وتحريف من قبل الأخلاف ..مبتديئاً بشيخ الإسلام با فضل وقصيدته الفكرية والتي تتكون من مئة واربعين بيتاً والذي يقول في مطلعها :

أيا فاتحاً بابا عظيما من الفكر

هنيئاً لك الحظ الجزيل من الأجر

وقد تناول من القصيدة الفكرية للشيخ

بافضل الستة الابيات الأولى إضافة الى أحدى وصاياه الزهدية بالشرح والتحليل ليثبت من خلالها اعتزالية الشيخ بافضل وأن ما تضمنته القصيدة وما نصت عليه الوصية لا يحتاج الى دليل آخر يسنده فيما يتعلق بمذهب العلامة المعتزلي الكبير سالم بافضل .

وكما يقول لسنا في حاجة الى شرح باقي أبيات القصيدة فهي غنية عن أي شرح لوضوح افكارها ومدلولاتها .

واما الشاعر التكريتي الظفاري وقصيدته اليتيمة فقد تناوله المؤلف في هذا الفصل من خلال شرح وتحليل القصيدة التي قال عنها المؤرخ با مخرمة: إن أعيان أدباء اليمن قالوا فيها إن كل شعر يدرس إلا ما كان من قصيدة التكريتي . .

وهنا يقول المؤلف :أن ما نفهمه من حكم أعيان أدباء اليمن على تلك القصيدة هو انهم رأوها لا تخضع لمقاييس الدراسة الأدبية المتعارف عليها رغم حسنها وجمالها. إلا اننا نجد المؤلف يستنطق ابياتها التي لم يتعرض لها أحد قبله بالشرح والتحليل

ليفك مغاليقها ويكشف مجاهيلها ليعرفنا

من خلال شرح ابيات القصيدة وتحليلها بشخصية قائلها وميوله السياسية والمذهبية .

وأثناء ترجمته للإمام أبي عبدالله محمد بن علي القلعيالظفاري المتوفى سنة 577هـ يقول: هو أحد علماء الاعتزال والوافدين على حضرموت في عهدها المعتزلي في القرن السادس الهجري ولهذا لا يعرف موطنه الأصلي فهناك أقوال بشاميته وأخرى بمغربيته كما أن المصادر لا تذكر شيئاً عن شيوخه إلا ما ذكره الشاطري بأنه تتلمذ لشيخ الإسلام با فضل السابق ذكره.

وفيما يتعلق بموروثه العلمي يقول المؤلف كان الإمام القلعي موسوعيا في معارفه وذلك الأمر مشهور عن علماء الاعتزال لهذا كان طبيعياً أن يكون عطاؤه متنوعاً وقد أورد ما هو منسوب اليه من مؤلفات في الفقه والسير والفلسفة غير انها مفقودة باستثناء كتاب ( تهذيب الرئاسة وترتيب السياسة ) في الفلسفة ..

وبعد أن تحدث عن الكتاب وأهميته وما تضمنه من موضوعات نجده يشير الى اعتناء الإمام القلعي في كتابه بذكر أئمة الاعتزال وأعلامه وخلفاءوه الذين لا يكن أهل السنة لبعضهم ذرة أحترام أو تقدير وممن ذكر منهم: ابن العميد أحمد بن داؤود وثمامة بن الأشرس والصاحب بن عباد وعمرو بن عبيد والحسن البصري الذي يعده المعتزلة من الطبقة الثالثة منهم

ومن خلفاء الاعتزال من بني أمية :

يزيد بن الوليد بن عبدالملك ومروان بن محمد وهما مجمل خلفاء الاعتزال من بني أمية.

ومن خلفاء الاعتزال من بني العباس:

المأمون والمعتصم والواثق وهم مجمل خلفاء الاعتزال من بني العباس.

ويضيف معلقاً على ما أوردها الإمام القلعي من اسماء في كتابه المشار اليه بأعلاه إن حديث الإمام القلعي عن أعلام الاعتزال لم تأت عرضاً غير مقصود وإنما جاء في مهمة استقصاء أهم أخبارهم ....

مضيفاً بقوله : غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد من العناية والاهتمام باعلأم الاعتزال انتصاراً لمذهبه ولكنه أحجم عن ذكر أي من أئمة المذهب الأشعري مثل: الباقلاني والجويني والغزالي الذي جل تأليفه في الأخلاق كما هو الحال في كتابه احياء علوم الدين كما أن له كتاباً في علم السياسة اسمه التبر المسبوك في نصيحة الملوك؛ وهنا يتساءل المؤلف : بقوله فما هو السبب الذي منع الإمام القلعي من ذكر قول واحد من أقوال الغزالي في السياسة على الأقل وهي التي تناسب موضوع كتابه؟؟

وفِي الإجابة عن هذا التساؤل يقول ما كان للإمام القلعي لو اراد ليعدم قولاً أوفعلاً للإمام الغزالي أو غيره من الأئمة الأشاعرة يتناسب مع موضوع كتابه هذا وإنما منعه من ذلك ليس تعصبه لمذهبه المعتزلي فحسب بل وأيضاً الهدف الخفي من تأليف الكتاب الذي نرى أنه الدعاية للمذهب وخلفائه وأعلامه وأفكاره وهو الأمر الذي

لا يتناسب ولا يستقيم مع ذكر أئمة المذهب الخصم

وفِي الفصل الثالث والأخير من الباب الثاني

يتناول فيه مجموعة من الموضوعات المهمه تحت عنوان أحوال معتزليةوأباضية ،:

ومنها كثافة الوجود العلمي في تريم الراشدية في القرن السادس الهجري، والحياة العلمية في تريم في نفس القرن واحتفاظ حضرموت بالتراث المعتزلي، وغيرها من الموضوعات المهمة.

إذ يقول"تتفق المصادر والمراجع على أنه كان في مدينة تريم في القرن السادس الهجري حوالي ثلاثمائة عالم وفقيه ومفتي ظهروا في وقت واحد وتناقشوا وتجادلوا معا وكان عدد كبير منهم يشتغل بالتأليف -هذا العدد من الضخامة بحيث لا يقبله العقل للوهلة الأولى دون تحقيق خاصة وإنه لا يتناسب مع عدد سكان تريم لا أمس ولا اليوم ..

واذا صح العدد من أهل العلم في تريم حينها فأن تلك الظاهرة خاصة بذلك القرن وامتداداته القريبة خاصة وان حضرموت ليست محطة عبور ومرور حتى يكثر العابرون فيها ،كما انها بعيدة عن مراكز الكثافة العلمية ولا يأتيها الا القاصد العاني .

كل ذلك يجعل من مسألة تلك الكثافة العلمية في حاجة الى بحث وتدقيق على ضوء ما توصلت اليه هذه الدراسة من اعتزالية المجمع العلمي التريمي"

معللاً ذلك الوجود العلمي الكثيف في تلك الفترة الى عدة اسباب ومنها ما تعرض له المعتزلة في اوطانهم الأصلية من قتل وتنكيل على يد خصومهم السنة وبخاصة بعد انقلاب المتوكل عليهم 232هـ ما جعلهم يضطرون الى هجر مراكز تواجدهم الريئسية كبغداد والري والفرار منها الى الاطراف البعيدة ومنها حضرموت هرباً من ملاحقة خصومهم الذين أصبحت السلطة بأيديهم .

حيث يقول: "وبعد أن أصبحت السلطة التي كانت بالأمس في أيديهم طيعة مطواعة أصبحت سيفاً مسلطاً على رقابهم وشبحاً مرعباً يلاحقهم"

وما يعزز ويدلل على صحة ما ذهب إليه المؤلف في رؤيته احتفاظ مكتبة الأحقاف للمخطوطات بمدينة تريم على عدد من الذخائر والنفائس المعتزلية والفلسفية وقد أورد منها بعض العناوين :

-شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار الهمداني المتوفى سنة 415هـ .

وهي عبارة عن نسخة عتيقة كتبت بخط نفيس من مخطوطات القرن السادسالهجري .

- تعليقة :للحسن بن أحمد بن متوية المتوفى سنة 469هـ تلميذ القاضي عبدالجبار.

- التبيان في تفسير القرآن: لمحمد بن حسن الطوسي المتوفى سنة 595هـ .

- كتاب لفرقة المطرفية في القرن السادس الهجري في الرد على مكفريهم وتفسير 437 آية قرآنية من زاوية العقل .

- الكشاف في حقائق التنزيل: للزمخشري المتوفى سنة 538هـ نسخة كتبت سنة 1039هـ .

- النوابغ: للزمخشري نسخة من دون تاريخ

- مجموعة الإمام زيد بن علي المتوفى سنة 122هـ

وقد تطرق في هذا الفصل للعلاقات الودية بين الأباضية والمعتزلة في حضرموت بقوله: "إن تلك العلاقات الودية والتاريخية بين الأباضية والمعتزلة في حضرموت وغيرها من مواقع الأباضية لا تعود لكونهم مطاردين من قبل السلطات العقائدية السنية الأموية والعباسية والأيوبية بل يعود أيضاً لأسباب مذهبية فإن كلا المذهبين يشتركان في مسائل عقائدية هامة مثل قولهم في الإمامة أو الخلافة والتوحيد والوعيد واستحالة رؤية الله في الآخرة وخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات دون توبة وغير ذلك من المسائل الاعتقادية."


في الأربعاء 29 يوليو-تموز 2020 06:54:20 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=45065