وداع لائق بمجرم حرب
عبد الباري عطوان
عبد الباري عطوان

بعد ست سنوات من احتلال العراق، كان من المفترض ان تكون زيارة الرئيس الامريكي 'المحرّر' (بضم الميم وكسر الراء) الوداعية علنية، وسط احتفالات عارمة من 'المحررين' (بضم الميم وفتح الراء)، حيث من المفترض ان يصطف هؤلاء على طول طريق المطار، وفي ساحة الفردوس في قلب العاصمة بغداد حاملين الاعلام الامريكية ويلوحون بها وسط عزف الموسيقى والرقص طربا وفرحا، للتعبير عن حفظ الجميل، لهذا الزعيم الامريكي البطل الذي 'حرر' بلادهم. ولكن هذا كله لم يحدث على الاطلاق، فقد وصل الرئيس الامريكي متسللا الى بغداد، ووسط اجراءات امنية مشددة، ولم يغادر المنطقة الخضراء مطلقا، ونشك ان يكون السيد المالكي رئيس الوزراء، وجلال الطالباني رئيس جمهورية العراق الجديد قد علما بالزيارة مسبقا، بل فوجئا بها مثل الزيارات السابقة.

العراقيون لم يستقبلوا الرئيس بوش بالورود والرياحين ولا بالرقص بالشوارع، وانما بالأحذية، مثلما فعل احد الصحافيين الذي كان يشارك في تغطية الزيارة، ويستمع الى المؤتمر الذي عقده الرئيس الامريكي مع السيد المالكي، واسهب فيه في وصف انجازاته ومكارمه للعراقيين باحتلاله لبلدهم.

استخدام 'الاحذية' كوسيلة تعبير عن الرأي عمل غريب، وغير مهني، في نظر الكثــــيرين، خاصــة عندما يصدر من صحافي، ولكنه مفهوم اذا علمنا ان هذا الصحافي يشعر بالاحباط والقهر من جراء الاوضاع المتدهورة في بلاده واستشهاد اكثر من مليون من ابناء جلدته واشقائه واقربائه بفضل هذا 'التحرير' الامريكي لبلاده.

فالعراق الجديد الذي يتغنى به الرئيس بوش تحوّل الى مقبرة جماعية، وساحة قتل وسلب ونهب. خمسة ملايين من ابنائه هربوا من ديمقراطيته المزدهرة، وسجله الناصع في حقوق الانسان، وهو السجل الذي اسهب السيد الطالباني في امتداحه في كلمته التي القاها في حضور ضيفه الأمريكي.

السيد الطالباني الزعيم اليساري الاشتراكي المخضرم، وصف الرئيس بوش بأنه 'صديق عظيم للشعب العراقي ساعدنا في تحرير بلدنا.. ويتمتع بقيادة شجاعة.. فلدينا ديمقراطية وحقوق إنسان.. كما ان الازدهار يتحقق شيئاً فشيئاً'.

فإذا كان هذا الصديق العظيم الشجاع قد دمّر البلد، وقتل مئات الآلاف من شعبه، وهجّر ما يقرب من ربعه في الداخل والخارج، وجلب إليه الحرب الأهلية، والتقسيمات الطائفية البغيضة، وجعل العراق الأكثر فساداً في العالم، فماذا بقي للأعداء إذن؟ فبمثل هكذا صديق لا حاجة للأعداء، مثلما يقول المثل الانكليزي المعروف.

وأين الشجاعة في غزو الدولة الأعظم في التاريخ، لبلد محاصر منذ ثلاثة عشر عاماً، ممنوع عليه استيراد أقلام الرصاص، ناهيك عن السلاح والذخائر، ودون أي مسوغات قانونية وفي انتهاك فاضح للشرعية الدولية؟

نعم الرئيس بوش صديق للسيدين الطالباني والمالكي وكل الذين تواطؤوا مع المحتل لتسهيل غزو بلادهم، والمشاركة في حملات التضليل والكذب على الشعب العراقي، وكوفئوا من قبل السيد الأمريكي بالوصول الى سدة الحكم، ولكنه قطعاً ليس صديقاً للشعب العراقي، أو الغالبية الساحقة من ابنائه الشرفاء الذين يملكون تاريخاً حافلاً في مقاومة الغزاة، ورفض احتلال بلادهم، وناصروا كل قضايا الامتين العربية والاسلامية العادلة.

الصحافي العراقي الذي قذف الرئيس الأمريكي بالحذاء، وان اختلفنا معه في اسلوبه، إلا انه كان معبراً عن الأغلبية العراقية الصامتة المسحوقة التي اكتوت، وتكتوي من جراء تدهور أوضاع بلادها الأمنية والمعيشية، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا فرص عمل، في بلد يعتبر واحدا من أغنى الدول في العالم بثرواته الطبيعية وعقول أبنائه المبدعة.

فهذا الصحافي مواطن غيور على بلده، قبل ان يكون صحافيا، وهو لم يفعل الا ما يفعله نظراؤه في الغرب يومياً في ذروة احتجاجاتهم ضد سياسات المسؤولين في بلادهم من رؤساء ووزراء، حيث يقذفونهم بالبيض الفاسد، والطماطم، والرئيس بوش ليس افضل من توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ونائبه جون بريسكوت، والقائمة تطول.

فمن المؤسف ان هذا الرئيس الامريكي الذي لفظه ابناء جلدته، وعاقبوه باسقاط مرشح حزبه في الانتخابات الرئاسية الاخيرة بشكل مهين، لا يلقى ترحيباً الا من قبل المسؤولين العرب، بينما تستقبله المظاهرات في كل مدينة او عاصمة يزورها، ولو اعطي العراقيون البسطاء الفرصة للتعبير عن مشاعرهم تجاهه، مثل بقية الشعوب الاخرى، لاستنكفوا قذفه بالأحذية، لانه يستحق القذف بما هو اكثر اهانة منها.

العقاب الذي يستحقه الرئيس بوش، وكل الذين تورطوا في مجازره في العراق، سواء من المسؤولين الامريكان او العراقيين، هو الوقوف في قفــــص الاتهام كمجرمي حـــــرب، في محكمـــة عادلة، في حضور كل ضحاياه من العراقيـــين وأهاليـــهم، سواء اولئك الذين واجهوا التعذيب والانتهاكات الجســدية والجنسية في سجن 'ابو غريب' او الذين استشهدوا بالقنابل العنقودية واليورانيوم المستنفد والاسلحة المحرمة دوليا في الفلوجة والبصرة والقائم، او برصاص القوات الامريكية الغازية في معظم أرجاء العراق.

لا نشارك بعض الصحافيين العراقيين في اعتذارهم للرئيس الامريكي عما فعله زميلهم، وان كنا لا نجادل في حقهم في التعبير عن أسفهم، فالــــذي يجب ان يعتـــــذر للشعب العراقي هو الرئيس الامريكي، الذي سفك دماء ابنائه، وجاء اليه يطلب المكافأة والعرفان بالجميل. فهذا الزميل العراقي مارس حرية التعبير، وبالوسائل التي يعتقد انها مناسبة لهذا الرئيس القاتل المجرم.

قبل ست سنوات بثت تلفزيونات عربية واجنبية في غمرة 'الفتح الامريكي العظيم للعراق' لقطة لعراقي يضرب صورة للرئيس العراقي السابق صدام حسين بالحذاء وسط ابتهاج المخدوعين والمضللين.

وها هو التاريخ يعيد نفسه حيث يرد الكثير من العراقيين الاعتبار لرئيسهم الشهيد ويضربون الرئيس بوش شخصيا وليس صورته بالحذاء.

هذا الصحافي يمثل وجه العراق الحقيقي ورأيه بـ'محرري' بلاده ومن يحكمونها امام العالم بأسره.


في الإثنين 15 ديسمبر-كانون الأول 2008 03:48:55 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=4564