عن العلامة عمر فروخ وجهوده ومذكراته الشيقة 2
محمد مصطفى العمراني
محمد مصطفى العمراني
 

كنت قد وعدتكم بنشر مقتطفات من مذكرات العلامة الموسوعي الراحل الدكتور عمر فروخ ـ رحمة الله تغشاه ـ " غبار السنين " ، والآن أوفي بوعدي ، وقد أحببت هذه المذكرات الشيقة الثرية بمعلومات وقصص وأحداث ، ومن الطريف أنني حين بدأت بقراءة مذكرات الدكتور عمر فروخ تعرضت لخديعة بسبب العجلة وقلة التركيز ، حيث قمت بالنزول إلى أسفل الصفحات الإلكترونية دفعة واحدة وقرأت الرقم 720 صفحة ، فقلت في نفسي : هذا كتاب كبير من سيقرأه ؟!

ومن سيجد الوقت الكافي ليقرأ كل تلك الصفحات ؟!

وكدت أترك الكتاب ولكنني قلت : سوف أقرأ بعض الصفحات من أول الكتاب ، وبدأت القراءة وغرقت في الكتاب لما فيه من متعة متفردة وأسلوب رائع وعرض مشوق ، ولما في قصصه من الإثارة والطرافة ، إضافة إلى المعلومات الهامة ، والنصائح القيمة التي يقدمها بعد كل قصة ، كما لمست في الكتاب صدق الطرح ، والعفوية في السرد ، ما جعلني أدرك بأن قراءة هذا الكتاب ستشكل إضافة كبيرة لي ولابد من إكماله .

مضت ساعة ونصف وإذا بي قد تجاوزت 100 صفحة ، كنت قد بدأت بعد الفجر ، ولذا فقد أشرقت الشمس وطلع النهار ، ومضت ساعات ، وإذا بي أصل إلى الصفحة 260 لأكتشف أنني قد أكملت الكتاب وأن كل صفحات الكتاب 270 صفحة بالفهارس .!

وإذا بي أكتشف أن الصفحات كلها 270 وليست 720 كما قرأتها على عجل وقلة تركيز .! وحزنت لأن الكتاب أنتهى وعدت مجددا للقراءة فيه لروعته ..

بدأ الدكتور عمر فروخ مذكراته بالكتابة عن عمله في الصحافة ، والذي أستمر لـ 65 عاما ، تحدث عن هذه الفترة الطويلة منذ العام 1916م إلى العام 1982م وما فيها من تجارب ومواقف وقصص ، إضافة إلى الحديث عن إصداره لمجلة " الأمالي " الثقافية التي أوقفها بعد سنوات من صدورها بعد أن تزايدت الضغوط عليه من مختلف الجهات كل جهة ترغب في أن تعمل المجلة لصالحها ، ولذا أوقفها وركز جهوده في التعليم والتأليف والعمل الخيري .

 في ألمانيا قصص ومواقف تحدث عن أساتذته في بيروتي بداية من البيت إلى المدرسة إلى الجامعة الأمريكية ، وعن علاقة الآباء بالبنين والإدارة بالتعليم وأراءه في هذا المجال والقصص والمواقف التي عاشها أثناء الدراسة والإدارة والتدريس ، وعن أسباب ذهابه إلى أوربا لمواصلة الدراسة العليا .. يقول : ( قبل أن أذهب إلى ألمانيا لمتابعة دراستي العالية كنت أحمل شهادة بكالوريوس علوم من الجامعة الامريكية في بيروت ، وكنت قد عملت سبع سنوات وألفت عددا من الكتب المدرسية وأتقن أربع لغات هي :

العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية ..

ولذا حينما كنت في أوربة أتابع الدراسة ؛ سألني نفر كثير من الأساتذة الذين درست عليهم: لماذا جئت إلينا ؟ إنك لا تحتاج إلى هذا المستوى الذي تدرسه علينا . ولكنها الرحلة في طلب العلم ولقاء الأساتذة الكبار والاستفادة من اختبارهم ومعرفة طرق تفكيرهم وأساليب بحثهم . ولذا راسلت عشرات المستشرقين وزرت ثلاثاً وخمسين مدينة وبلدة وقرية في ألمانيا وحدها ، أسافر بالقطار لساعات ، وكنت أحضر الأعياد القومية الألمانية ، ولذا فقد حضرت عدة خطابات لهتلر وهذه سأتحدث عنها فيما بعد ). لما ذهبت إلى ألمانيا في العام 1935م لمتابعة الدراسة كنت في الثامنة والعشرين ، وقد تجاوزت مرحلة العاطفة ، ومنذ وصلت إل ألمانيا وأخذت بمقابلة الأساتذة الذي أخترت أن أدرس عليهم ، قال لي وأحد منهم ثم ثان وثالث : يحسن أن تتخذ رفيقة لك يساعدك التحدث إليها على صقل لغتك الألمانية التي تعلمتها في بيروت مع العلم بأنني كنت قد تقدمت إلى امتحان اللغة الألمانية ونجحت فيها نجاحا طيباً . وقيض الله لي فتاتين شقيقتين من مدينة هانوفر . لقد حمدت الله على أنهما كانتا اثنتين وشقيقتين ( فإن كل واحدة منهما كانت رقيبا على الثانية ) .

جاءت الصغرى يوماً إلي تقول : أريد أن أعتذر إليك . فقلت لها : مم تريدين الاعتذار ؟ فقالت : كنت قد كذبت كذبة ذكرت فيها اسمك ، أرادت صديقة لي أن أرافقها لتشتري ثوباً فاستأذنت أمي في ذلك فلم تأذن لي . ولكن الصديقة كانت تلح علي في التليفون إثر التليفون . ففي اليوم التالي قلت لأمي : أنا ذاهبة إلى عمر .

فأذنت لي . ولكن لم آت إليك ، بل ذهبت إلى صديقتي . وفي يوم من الأيام جاءت صاحبة البيت تقول لي : فلانة ( الفتاة الصغرى ) بالباب فهل آذن لها ؟ فقلت لها : لا لا تسمحي لها . فعلت ذلك تصديقاً للحديث الشريف : من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . وانصرفت الفتاة . ولم أسمع منها كلمة عتاب بعد ذلك . وذات مرة قالت لي فتاة ، وكانت تحضر درس باول شوارتز ( أستاذ في الجامعة ) أنها تود أن تستفهم مني أشياء من الإسلاميات مستغلقة عليها . فقلت : لا مانع عندي . فسكتت .

ثم سألتني : ـ أأكون في البيت بعد الظهر . فأجبتها بالإيجاب . وفوجئت بها تدخل علي في الساعة الثانية بعد الظهر . كانت صاحبة البيت تعلم علم اليقين بأنه لا يزورني في غرفتي فتيات . فلم أعلم كيف سمحت لهذه الفتاة بالدخول ؟ وفي المساء ـ وبعد أن غادرت تلك الفتاة المنزل ـ جاءت صاحبة البيت إلي معتذرة تقول : هذه الفتاة من أسرة وجيهة معروفة في ليبزغ ، وإن بين أسرتها والأسرة التي أسكن أنا عندها زيارات متبادلةً . فلما طرقت هذه الفتاة الباب وقالت إنها آتية لزيارتي ، لم يكن بإمكان صاحبة البيت أن تردها ولا أن تطلب منها التمهل كي تسألني رأيي .

◾زميلي الذي كاد ينتحر بسبب فتاة ! وذات مرة دعاني الطلاب العرب إلى حفلة تعارف مع عدد من الألمان أيضاً ، شباناً وشابات . كان الساهرون يتناولون أنواعاً من المشروبات الكحولية ، وكنت أتناول في كل ساعة قدحاً من البرتقال ، وأثناء تطوافي في الحفلة تقدمت مني فتاة سمينة عظيمة الجسم ( بهكنة هركولة ) كما يقول طرفة بن العبد ، وكانت تلبس في تلك الليلة الساهرة ( للتنكر ) شورتاً ( سروالاً قصيراً ) وقالت لي : ـ أتريد أن تسقيني كأساً ؟ فقلت لها : حباً وكرامة . ثم ذهبنا إلى المشرب وقلت لصاحبه أن يسأل الفتاة عما تريد . وبعد أن أخذت هي المشروب الذي تريده دفعت انا ثمن ذلك الشراب ثم تركتها تشرب كأسها وحدها .

وفي منتصف الليل جاء إلي صديقان وقالا : أسرع ، أسرع . فلان الياباني يريد ان ينتحر ، فقلت لهم : وما صلتي أنا بذلك ؟ لست شرطياً ولا محققاً عدلياً . قالوا ولكن الأمر يتعلق بك . هذا الشاب الياباني ، معه فتاة ينفق عليها منذ عامين . وهي الآن تريد أن تتركه في سبيلك .

وخفت أن ينفذ الشاب الياباني عزمه فيبقر بطنه . قلت للفتاة أمامه : هل ألتقينا من قبل ؟ فقالت : لا ؟ فقلت لها : هل تعرضت أنا لك الليلة بسؤال أو بكلام ؟ فقالت : لا . ثم تركتها مع صاحبها ، وأنا أقول في نفسي : إذا بقر هذا الياباني بطنه الليلة ، فلن يكون ذلك بسببي .

وفي الصباح يوم 7 / 2 / 1936م كنا لكنا نقف أمام النادي ننتظر وسائل النقل ، والثلج يغطي الأرض وكل مكان ، ويكاد يوقف الحركة ، وفي هذا الحشد رأيت الفتاتان الشقيقتان الصغرى والكبرى والذي أتعلم منها إتقان اللغة ، ولما طال الانتظار ولم يأت القطار قالت البنت الكبرى : إذا أراد عمر أن يذهب معنا فنحن نذهب ماشيتين . ناولت ساعدي الأيمن للكبرى وساعدي الأيسر للصغرى ، ثم سرت بهما على ذلك الثلج الذي كان يغطي الأرض من غربي برلين إلى جنوبي برلين ، حيث تسكنان ، ثم تركتهما وتابعت سيري إلى الشمال الشرقي من برلين حيث غرفتي . في الليلة الأخيرة التي بتها في برلين انتبهت من النوم ، بعد منتصف الليل ، على قرع شديد على الباب ، نهضت من فراشي وذهبت إلى الباب فراعني أني رأيت وراءه فرنسيسكا ( بنت صاحبة البيت ) . لم يكن بد من السؤال والحديث ( فأنا ابن الشرق المسلم لم تغير ألمانيا من أخلاقي شيئا ) . فقلت لها : أين كنت إلى الآن ؟

قالت : أنا راجعة من سويسرة . قلت لها : كان من الأفضل أن تنتظري قليلاً في سويسرة ثم تأتي بقطار الصباح . فأجابت ( وفي عينيها دمعة غير عزيزة ) : كنت مع خطيبي في رحلة إلى سويسرة ثم اختلفنا أمس بعد الظهر اختلافاً حملني على أن أتركه نهائياً ، من أجل ذلك جئت بقطار الليل . فسألتها وما سبب الاختلاف الذي أدى إلى هذا الفراق العاجل ؟

فقالت ( ودمعة ثانية في عينيها ) ـ وسأورد كلامها حرفاً حرفاً : لقد بطل إعجابه بصفاتي الجسدية .! وفي الصباح كانت فرنسيسكا وامها وأبوها يقفون لتوديعي عند باب الدار وأنا راجع إلى الوطن .

ولقد كان في عيني فرنسيسكا دموعُ غير الدمعتين اللتين كانتا في عينيها بالأمس . هذه الحادثة ذكرتني بقصة ، كنت مع أحد الأساتذة في ألمانيا ، وكنا في نزهتنا المسائية المألوفة ، تحدثنا ثم سرنا بضع خطوات ونحن صامتان . بعد ذلك ألتفت إلي وقال : أنتم المسلمين سعداء .

فقلت له : في أي الأمور ؟ فقال : أن المسلم في ( العادة المألوفة ) حينما يتزوج ينتقل من عالم ضيق إلى عالم أوسع ، إلى عالم أكثر تنوعاً وأزهى ألواناً . أما عندنا فإن أحدنا إذا تزوج لم يجد بعد الزواج شيئاً لم يكن يعرفه قبل الزواج .

وفي الحلقة القادمة سنواصل سرد قصص الدكتور عمر فروخ الشيقة ألمانيا ، وذكرياته مع هتلر وأساتذة الاستشراق والعقاد وطه حسين الذي أراد زيادة حروف في اللغة العربية حتى يتم كتابة أسماء كتاب الغرب أمثال فيكتور هوجو وكيف عارض عمر فروخ والعقاد هذه الفكرة في مجمع اللغة العربية بالقاهرة حتى تم رفضها ..


في الإثنين 06 مارس - آذار 2023 05:48:50 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=46295