نحو رؤية إسلامية موحدة للدراما والفنون
محمد مصطفى العمراني
محمد مصطفى العمراني
 

الجدل الذي ثار مؤخرا حول مسلسل " الإمام الشافعي " في مصر ومسلسلات عديدة يرجع برأيي إلى عدة أسباب من أبرزها : وجود رغبة لدى السلطة التي دعمت إنتاج هذا المسلسل وبهذا المستوى لتمرير رسائل محددة للجمهور ، وعدم وجود تنسيق وتكامل بين المؤسسات الدينية والمؤسسات الفنية ، إذ يبدو أن إشراف الأزهر على المسلسل في حال وجوده كان شكليا وإجراء روتينيا لا أكثر . هذا الجدل سيتكرر في كل رمضان ، وفي الكثير من المسلسلات والأعمال الفنية التاريخية والدرامية وغيرها طالما وأن السلطات والجهات المنتجة ومن يقف من ورائها لا تسعى لتقديم خدمة فنية راقية بقصد ما تعمل على تمرير أفكار ورسائل من خلال هذه الأعمال التي يغلب عليها الايدلوجيا السياسية على حساب الحقيقة والفن .

من المؤسف أن الجهات الدينية في عالمنا العربي والإسلامي كالمجامع الفقهية والأزهر ، وهيئات العلماء ، وعموم الدعاة ، والتيارات الإسلامية المعتدلة لم تتفق حتى الآن على رؤية موحدة تجاه الفنون المختلفة كاجتهاد جماعي يمكن أن يشكل مرجعا للمؤسسات الفنية وللعاملين والباحثين في هذا المجال . صحيح هناك اجتهادات متناثرة وآراء وفتاوى ولكن لا يوجد اجتهاد جماعي مؤسسي في هذا المجال الحيوي الهام .

وقبل أن أفصل في هذه القضايا سأورد قصة للشيخ علي الطنطاوي ـ رحمة الله تغشاه ـ وهو من العلماء الذين ظهروا في التلفاز " الرائي " منذ وقت مبكر يوم كان الكثير من العلماء يحرمون مجرد اقتناءه ناهيك عن الظهور فيه .! ظهر الشيخ في التلفاز واشترى تلفازا في منزله ومن حينها قاطعه شقيقه ولسنوات طوال ، وهو ما دفع الطنطاوي ليشكو من تصرفه في مذكراته . ولنترك حفيد الطنطاوي الذي أشرف على طباعة كتبه ومذكراته مجاهد ديرانية يروي لنا القصة ، حيث يقول في الجزء الثاني من " ذكريات علي الطنطاوي " صفحة 142 : ( خلاصة الأمر أن جدي - كما علمتم - قد كفل إخوته بعد وفاة أبيهم ومنحهم كل ما يقدر مثله على منحه ، وكان سعيد أصغر الإخوة سنه لما مات أبوه ثلاثة أشهر ، فصار أقرب إلى الولد لجدي منه إلى الأخ ، وأولاه جدي من الرعاية والعناية ما مر بكم بعض خبره فيما سبق من حلقات .

ونشأ الشيخ سعيد على الدين والأدب والعلم حتى بلغ من الصفات ما وصفه بها جدي في هذه الصفحة بأنه ( أصلح مني بمائة مرة ، زاهد ، عابد ، ذكي ، واسع الإطلاع ، مؤلف ، يحسن نظم الشعر ، قل من له مثل ثقافته ، وهو بشر يخطئ ويصيب ، سامحه الله وغفر لي أن شكوته للناس ) .

يضيف مجاهد ديرانية عن الشيخ سعيد الطنطاوي : ( وأخذ نفسه بالشدة وحملها على المكاره حتى صار من صنف أولئك الزهاد العباد الذين نقرأ عنهم في " صفوة الصفوة " وغيره من الكتب .

والصلابة من صفاته فإذا رأى رأيا في مسألة كاد يعجز عن تغيير رأيه فيها أهل الأرض لو أجتمعوا كلهم عليه . وقد كان له في الرائي ( التلفزيون ) رأي من أول وصل فيه الرائي إلى بلادنا .

وهو أنه من المنكرات المحرمات لا يجوز امتلاكه ، ولا يجوز حضور مجلسه ، أو النظر إليه ، ولا يجوز دخول البيت الذي هو فيه .! وكان جدي علي الطنطاوي متوجسا من الرائي لكنه لم يحرمه ، وقد تردد حين دعي لإلقاء حديث فيه أول حديث ألقاه في حياته قط ، قال : ( لما عرضوا علي أتكلم في الرائي ترددت وخشيت أن يكون ظهوري فيه دافعا لبعض الناس إلى اقتناء الرائي ، وربما رأوا فيه ما يضرهم فكنت أنا السبب في ذلك ) .

لكنه أقدم بعد ذلك على إذاعة أحاديث في التلفزيون وأقدم على اقتناء جهاز تلفزيون ، وحينها رفض الشيخ سعيد دخول بيته في دمشق لأنه لا يدخل بيتا فيه جهاز تلفزيون .

وتكرر الأمر في السعودية لما جاءها الشيخ على الطنطاوي ثم أخوه سعيد ؛ لم يكن في بيت جدي تلفزيون فكان يزوره ، فلما اقتناه انقطع عن زيارته ، فلم يزره قط حتى حين قتلت خالتي بنان رحمها الله . واستمر على ذلك سنين طوالا ؛ هو يرفض الزيارة الا أن يرفع الجهاز ، وجدي لا يصنع ذلك لأنه ليس من طبعه المداورة والمراوغة .

ما رآه حقا صنعه لا يبالي به كبيرا ولا صغيرا ، فكيف أخا له هو منه بمنزلة الولد ، وما ليداري الكبير والوزير ؟ فانقطع ما بينهما سنين وسنين ، حتى كانت أخريات أيام جدي - رحمه الله _ وقد تتابعت عليه نوبات المرض ودنا منه الأجل ، فما زال بعض أصحاب الشيخ سعيد به حتى أقنعوه وحملوه على زيارة أخيه فالتقى به في " جزء من بيته ليس فيه تلفزيون ، وبقي كذلك يزوره بين حين وحين حتى وفاة جدي رحمه الله وغفر لأخيه ) .

لم يوفق الشيخ سعيد بمقاطعة أخيه بسبب التلفزيون ، كما وفق الشيخ علي بظهوره بالتلفزيون فقد أستفاد الملايين من برامجه وأحاديثه الممتعة أمثال " نور وهداية " و " على مائدة الإفطار " وغيرها.

. * التحريم ليس حلا

أتذكر أنه في فترة الثمانينات والتسعينات كان الكثير من العلماء والدعاة يحرمون التلفاز وخصوصا الصحون اللاقطة للقنوات الفضائية وسمعنا وقرأنا الكثير من الخطب والمحاضرات عن مفاسد التلفاز وحرمة إدخاله المنزل وخطورته على الأسرة المسلمة بل وصل الأمر ببعضهم إلى تحريم البلوتوث في الهاتف واعتباره " الخطر المدمر " .!!

وظلت هذه قناعة أغلبهم حتى تم إطلاق قناة " اقرأ " في 21 أكتوبر، 1998م كإعلام هادف وبدأ العلماء والدعاة يظهرون فيها وبدأت نظرتهم للتلفاز تتغير عندما وجدت البدائل ثم تتابعت القنوات الجادة والهادفة وتغيرت النظرة لهذه الوسائل .

للأسف لقد نظروا حينها لهذه الوسائل الإعلام بناء على ما يبث فيها وليس باعتبارها أوعية ووسائل يمكن أن تستخدم في الخير أو في الشر في البناء أو في الهدم ، يمكن أن تبث فيها أغنية أو محاضرة دينية ، قابلة لأن تبث فيها قرآن ونصائح أو أفلام هابطة وكليبات غنائية خليعة .!

للأسف الكثير من العلماء والدعاة إلى اليوم يفتقرون لثقافة البدائل والتغيير واستخدام الوسائل الإعلامية وتطويع الجديد لخدمة الدين والقيم ، ولذا البعض منهم تجاوزهم الزمن ، مثلا قبل عقود كانت أشرطة الكاسيت " للداعية السعودي علي بن عبد الخالق القرني تكتسح الكثير من أرجاء العالم الإسلامي ولها جمهور كبير ثم مضت تلك الفترة وتطورت الوسائل وأختفى الشيخ الذي يمتنع عن التصوير أو تسجيل حلقات في التلفزيون ونساه الكثير من الناس ، فلم يستطع الشيخ مواكبة المستجدات في المجال الإعلامي ولو أن الشيخ يبيح التصوير لنفع الله به الناس بشكل أكبر .

*نحو سينما جادة

لقد دعوت منذ أكثر من 15 عاما لإيجاد سينما هادفة وجادة تعمل على ترسيخ القيم الحميدة وتبث الأفكار الجادة وضربت المثل بفيلمي المخرج الراحل مصطفى العقاد " الرسالة " و " عمر المختار " وهي أفلام لاقت تأثيرا في الغرب وانقسم حيالها العلماء والدعاة بين مادح ومتحفظ ومعارض ولقد قرأت لأحدهم ما يشبه الدراسة المطولة التي حاول من خلالها اثبات أن هذه الأفلام ليست اسلامية وتسيء للإسلام وللمسلمين وفي الحقيقة هي أفلام جادة وهناك ملاحظات عليها ولكن وجودها أفضل من غيابها بألف مرة ووجود عمل عالمي فيه رسالة وهدف ولنا عليه بعض الملاحظات خير من غيابه . لقد كتبت ودعوت حينها إلى سينما جادة وهادفة فسخر مني كثيرون بل رأى البعض أن السينما مستنقع للشر والرذيلة والفساد وهو رأي ربما بني على ما يعرض في السينما من أفلام فيها مشاهد العري والرقص وشرب الخمور والحث على الخيانة الزوجية وممارسة الرذائل وتشويه كل ما له صلة بالإسلام ، ولكن هذا الواقع لا يعني حرمة استخدام هذه الوسيلة الهامة والفن المؤثر فرب لقطة في فيلم تؤثر في الناس أكثر من مئات الخطب والمواعظ والمحاضرات .

اليوم نحن بحاجة إلى جهات وطنية جادة تقتحم هذا المجال الحيوي الهام وتنتج عشرات الأفلام وتبث من خلالها رسالة وطنية وجادة وهادفة خاصة ونحن نعيش هذه الظروف الصعبة والفترات العصيبة .

نحو دراسة جادة للفنون

إضافة إلى أننا بحاجة من العلماء والفقهاء إلى دراسة جادة للفنون لكي يخرجوا برؤية وباجتهاد جماعي حوله ولا يتحولون إلى متابع لما يحدث فإذا تم تمثيل الأنبياء في مسلسل أو فيلم أصدروا بيان وحرموا الأمر ، لماذا لا يجتمعوا ويناقشوا ويخرجوا برؤية شبه موحدة وباجتهاد جماعي يبين ضوابط التمثيل والفن والمسرح والسينما ما الذي يجوز وما الذي لا يجوز وينظموا الأمر أو على الأقل يقدموا رؤية يمكن أن تستفيد منها مؤسسات الانتاج الفني والسينمائي وتكون حجة عليها .!!

وكذلك الحال في الدراما فنحن بحاجة إلى إعادة النظر فيها والارتقاء بها فما يعرض من مسلسلات رمضانية وغيرها لا هدف لها في الغالب سوى الإضحاك والتسلية وكم سعيت جاهدا لأن تقوم قناة يمنية بإنتاج مسلسل عن أحد ملوك الدولة الرسولية في اليمن مثل الملك الأشرف أو المظفر ، أو تنتج مسلسل عن شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ـ رحمة الله تغشاه ـ أو حتى أفلام وثائقية عن أعلام الأمة ممن يستحقون الإشادة بجهودهم ونضالاتهم بدلا من تلك البرامج وما يدور من وغيرها من الأعمال التي مهما بلغت جودتها فإن الهدف منها هو التسلية دون وجود رسالة جادة وهدف يستفيد منه الناس برأيي ، ومن المؤسف أن ذلك السعي لم يثمر وتلك الدعوات لم تقع في واد غير ذي زرع ، ويبدو أننا بحاجة لتأصيل وتنظير لسنوات طويلة حتى يتحقق ما نشير إليه .


في السبت 08 إبريل-نيسان 2023 11:28:58 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=46340