ديمقراطية الجوع لاتنتج خبزأً
أحمد الزرقة
أحمد الزرقة

بعد مرور ثمانية عشر خريفا من عمر الوحدة اليمنية اتضح جليا أن حصاد تلك السنين عقيما،ويخلف وراءة أرضاُ بوراً،بسبب العقليات الحبيسة في سنوات الصراع السياسي والاجتماعي للنخب الممسكة بزمام الامور لدرجة الاختناق.

تلك النخب المسكونة بالماضي ألاحادي القائم على قيم الصراع الاقصائية التي نجحت في اقصاء واسقاط أي مشاريع لتحقيق نهضة حقيقية لهذه الامة الحبلى بالازمات التي انتجتها عقود من السفاح والخطيئة ، التي تجيد تدمير وحرق الارض ورائها ، دونما حساب لحق الاجيال المتعاقبة والتي انتهى بعضها واختفى من الساحة دون ان تتاح له الفرصة للاسهام في المشاركة في العمل على إخراج اليمن من عنق الزجاجة الضيق إصلا والملئ بالشوائب التي بات واضحا أنها تضيق يوما بعد يوم لتصير إنسدادً من الصعب إزالته بوجود واستمرار صانعي ذلك الانسداد على قمة الهرم السياسي سواء في السلطة والمعارضة، التي استطاعت تشكيل جدار عازل ضد التجديد والتحديث والارتقاء بمستوى الحوار والوعي والتفكير منذ اكثر من نصف قرن من عمر هذا البلد.

النخب التقليدية والمتصارعة فيما بينها سواء الشمالية او مثيلتها الجنوبية وحدها - وبطريقة تتناقض مع سنن الكون- استطاعت الاستمرار في الطفو على السطح رغم كل المخاضات الصعبة الممهورة في غالبيتها بدماء اليمنيين.

وهي إلى اليوم بالرغم من نجاحها في ركوب الامواج المحلية منها والدولية اثبتت قدرتها الفائقة على التلون والانتقال من اليمين الى الشمال والعكس من اجل الحفاظ على مواقعها قريبا او ضمن دائرة السلطة،وترفض إفساح المجال امام الاجيال الشابة او الافكار المغايرة،سواء بحكم عوامل السن أو تلك المتعلقة بفشل مشروعها وطول امساكها بتلابيب السلطة ،وهي التي لم ينجم عنها سواء القتل والتدمير والاقصاء ورفض مشاريع التحديث ،هي مشغولة أصلاً بالابقاء على الامور تحت سيطرتها خاضعة لمبادئ الحساب غير القابل للقسمة على أكثرمن الواحد.

هي نخب وحدوية طالما يعني ذلك استمرار مصالحها ووجودها في دائرة التقاسم،وهي انفصالية في حال كان ذلك خيارها للاستمرار في اداء ادوار ضمن مربع السلطة وتقاسم المصالح ، وهي مستعدة لارتداء أي مسوح وممارسة أي عمل مشروع أو غير مشروع من أجل خدمة قضاياها ومصالحها والحصول على حصة من الكعكة.

2

ديمقراطية التي يتغنى بها الجميع في اليمن موجودة من الناحية النظرية ، لكنها في عمليا كذبة اخترعتها النخب الشمولية التي اتفقت على إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في 1990م وذلك من أجل استمرار تلك الاطراف في السلطة، وكانت مستعدة للتنازل عنها بعد قيام الوحدة سواء عبر وثيقة التحالف من اجل الاندماج التي وقعت في 1993م بين المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي ،وعارضها الاصلاح لاسباب تتعلق بخوفه حينها من عودته الى قواعده ضمن المؤتمر الشعبي العام بعد ان اكتشف بعد معركة الدستور وانتخابات 1993م ان له شعبية خاصة به ،وانه تحصل على مكاسب كبيرة للحركة الاسلامية ربما سيخسرها لو تحالف المؤتمر مع الاشتراكي، والشكل الآخر لعقلية التراجع عن التعددية التي لم تكن موجودة أصلا ضمن مشروع دستور دولة الوحدة، كان متمثلا في صيغة الائتلاف الثلاثي بين المؤتمر والاصلاح والاشتراكي ،ومجلس الرئاسة الخماسي.

ولو كانت هناك قناعة حقيقية بالخيار الديمقراطي لما خاضت تلك الاطراف في اتون حرب صيف 1994م،فالديمقراطية الحقيقية ليس ضمن مبادئها التقاتل بين الاطراف السياسية،لكن ماحدث كان تأكيدا أن النخب الشمولية لاتستطيع التعاطي والتعايش مع الخيارات الديمقراطية ،التي ليست ثيابا تفصل بين عشية وضحاها،او طاقية تلبس لتتحول الكائنات الديكتاتورية الى اخرى ديمقراطية.

3

الديمقراطية ليست فقط أحزاب وانتخابات وجدل سياسي يدور في حلقات مفرغة ،وصفقات تتم في غرف مغلقة،بل هي أشمل من ذلك تتعلق بمدى اشتراك المواطنين وعامة الناس في تلك العملية التي يفترض أن تنجم عنها مصالح عامة،تتجاوز النخب التقليدية وتسهم في الارتقاء بمستوى الناس وتطوير أدائهم على مختلف الاصعدة ،والاهتمام باحتياجاتهم الاساسية وحقوقهم الطبيعية في حرية القول والتعبير وتنظيم أنفسهم ،والحرية ليست هبة قابلة للجدل والاستخدام السياسي بل هي حق طبيعي يتفق والطبيعة البشرية.

والديمقراطية الحقة ليست مفردات يتم تلقينها للناس بل هي سلوك يجب ان يلمسه الناس في خطوط التماس الاولى لهم مع بنية الدولة ، في البيت والمدرسة والمسجد والنادي وقسم الشرطة والمحاكم والمجالس المحلية والمستشفيات...الخ.

ولاتعني اعتقاد الاحزاب والنخب السياسية أنها الاقنية الوحيدة لذلك المعنى ،بل يجب إدراك انها إحدى الادوات المتوفرة والمتاحة،وعليها دعم الاشكال المغايرة التي تعتقد المجتمعات المحلية أنها بحاجة إليها.

الاحزاب هنا تخشى ان يتم سحب البساط من تحتها من قبل أي أشكال جديدة ومغايرة للعمل السياسي والاجتماعي ،فنراها تحشر أنفها في المنظمات والجمعيات والنقابات،وهي بتدخلها ذلك تعمل على نقل أمراضها وصراعاتها السياسية الى تلك الاشكال من العمل الجماهيري ،والنتيجة منظمات ونقابات وجمعيات كسيحة لايختلف ادائها عن أداء الاحزاب السياسية.

أهتمامات الاحزاب لاتتجاوز التقاتل من اجل الوصول للسلطة وذلك حق مشروع لكن لا يجب أن يطغى على احتياجات المجتمع من تعليم وصحة وعدالة وحقوق إنسان وصحافة حرة ،وهذه وغيرها عناوين تحضر فقط أثناء الصراعات الانتخابية وسرعان ما تعود للادراج ، وكأن شيئا لم يكن.

4

الانتخابات سواء البرلمانية أو المحلية أو تلك النقابية يفترض منها الاسهام في تخفيف قبضة النخب التقليدية والسماح بظهور نخب جديدة من خارج دائرة النخب المتأكلة،لكنها للاسف هنا اصبحت أداة لتجدد تلك النخب ،وملاحظة بسيطة لخارطة التمثيل البرلماني على سبيل المثال يؤكد هيمنة القوى التقليدية على مقاليد الفعل البرلماني ،فالاحزاب الممثلة في البرلمان لم يخرج ممثليها عن كونهم مشائخ وعسكريون وتجار وخطباء مساجد ،فاي أداء برلماني لايعتمد تمثيل النخب المثقفة والعمال والاكاديميين والنساء وغيرهم من الشرائح المغيبة بسبب قصور الالية الانتخابية ،معدل التدوير في البرلمان متندني الى حد كبير وهناك أعضاء في البرلمان منذ ما قبل 1990م ،وهناك مقاعد برلمانية تم توريثها في نفس الاسرة،وهناك أسر ممثلة في البرلمان أكثرمن العديد من الاحزاب،البرلمان هنا اصبح واحدة من وسائل السيطرة التقليدية ولايمثل مصالح الناس بقدر ما يمثل مصالح المتنفذين والقوى التقليدية،إذا ماذا نتوقع من المحللين البرلمانيين ،الذين يخضعون في أدائهم لهيمنة الاقلية وليس لاصوات واحتياجات الاغلبية،بهذه الطريقة يتم إفراغ العمل البرلماني من مضامينة،ومع ذلك لم نجد الاحزاب التي تدعي انها ظل الشعب والناطقة باسمة تدعو لتغيير المنظومة الانتخابية بشكل كامل ،بعيدا عن استخدام موضوع اصلاح النظام الانتخابي كورقة للتفاوض والمساومة بهدف الحصول على مكاسب سياسية آنية لاتخدم مصلحة الناس بقدر ما تضمن وصول تلك الاحزاب الى تحت قبة البرلمان.

5

ديمقراطية الجياع بالتأكيد عرجاء ،والترويج لها كميزة لليمن وسط محيطها الاقليمي بحاجة للوقوف عندها ملياً،فالبطون الجائعة تفكر بالتاكيد بطريقة مغايرة لبطون النخب المنتفخة،وكذلك العقول الجائعة لديها اهتمامات مغايرة عن مثيلتها لدى النخب المسكونة بهاجس الصراع على الكراسي.

الجوع كفر والديمقراطية إيمان ،والنقيضان لايلتقيان ،فما الذي تم تقديمة للخروج من هذه المعادلة ويإجاد خلق منافذ للناس كي يتنفسوا من خلالها ويشعروا عبرها بجدوى إيمانهم وانخراطهم في العمل الديمقراطي.

الفوضى بمختلف انواعها تصول وتجول في اليمن ولم تقدم السلطة والمعارضة أي مبادرات كاملة لايجاد معالجات لتلك الفوضى التي ليست بالتأكيد خلاقة،باستثناء تبادل القذف والتراشق والبحث عن مخارج جذرية تنعكس على الوضع العام الذي تبدو ملامحة مظلمة وغير مطمنة،فحكام السلطة والمعارضة الدائمين مازالوا يتقاتلون على الهامش ولم يصلوا بعد للعمق ،مشاكل وأمراض السلطة هي نفسها في التي تسيطر على المعارضة والطرفين اللذين يخوضان صراع ديكة غير مثمر عليهما الاعتراف بانهما سبب الحالة التي وصلت لها البلاد وبالتالي عليهما تقديم اعتذار للمواطنين والوطن عن دورهما في تفاقم الامراض في الجسد اليمني الذي بالتأكيد سيكون افضل لو تخفف من السلطة والمعارضة في نفس الوقت،مع السماح بتخفيف الاختناقات على القوى الصاعدة والتي ملت من تكرار سيناريو وصيغ الصراعات التي قضت في العمق على الشخصية والهوية اليمنية،لانه من حق الناس هنا ان يعيشوا بالتأكيد بشكل أفضل.

Alzorqa11@hotmail.com


في السبت 17 يناير-كانون الثاني 2009 12:11:45 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=4741