منسيون ومعذبون فى الصين
فهمي  هويدي
فهمي هويدي

لا شىء إيجابى فى أحداث الصين الأخيرة، سوى أنها ذكرتنا بعذابات ملايين المسلمين المنسيين فى أنحاء المعمورة، الذين لم يعودوا يجدون أحدا يعنى بأمرهم.

(1)

لم أفاجأ كثيرا بانفجار غضب المسلمين فى سينكيانج. ذلك أننى أحد الذين عرفوا معاناة الأويغوريين منذ زرت بلادهم قبل ربع قرن، ووقفت على آثار الذل والقهر والفقر فى حياتهم. وقتذاك نشرت عنهم عدة استطلاعات فى مجلة «العربى»، طورتها فى وقت لاحق وصدرت ضمن سلسلة «عالم المعرفة» بالكويت فى كتاب عنوانه: «الإسلام فى الصين».

كانت تلك الزيارة بداية علاقة لم تنقطع مع الأويغوريين، سواء فى باكستان المجاورة، أو فى تركيا التى لايزالون يعتبرون ان ثمة نسبا يربطهم بها، رغم أن بلادهم صارت سينكيانج (المقاطعة الجديدة)، بعد شطب الاسم الأصلى وحظره، بحيث لم يعد أحد يجرؤ على أن يذكر اسم تركستان الشرقية الذى كان معترفا به قبل ان تبتلعها الصين فى أواخر القرن التاسع عشر.

هذه العلاقة وفرت لى بشكل شبه منتظم كما من المعلومات، اعتمدت عليها فى كتابة مقالات عدة، نشرت خلال العقدين الأخيرين فى الصحف العربية، خصوصا مجلة «المجلة» التى كانت تصدر من لندن. وكان رجاء الأويغوريين المقيمين فى باكستان بالذات، ألا أشير إلى اسمائهم، لأن ذلك يعرضهم للخطر حين يذهبون إلى بلادهم بين الحين والآخر، وهو ما قدرته واستوعبته، بعد درس قاسٍ وبليغ تلقيته من تجربة مماثلة مررت بها فى وقت سابق، حين زرت الاتحاد السوفييتى وكتبت عن أوضاع المسلمين هناك، وكان أحد مصادرى شاب من النشطاء لم أذكر اسمه، ولكن أحد رفاقه وشى به. وعلمت فيما بعد انه حوكم وأعدم. وهى الواقعة التى مازالت تشعرنى بالحزن حتى الآن. حيث لم اعرف بالضبط ما إذا كانت لقاءاته معى هى تهمته الوحيدة، أم أن هناك اتهامات أخرى نسبت إليه.

أول إشارة فتحت عيناى على حقيقة معاناة المسلمين الأويغور وقعت فى اليوم الأول لوصولى إلى عاصمتهم «أورموشى». إذ سألت عن فرق التوقيت لكى أضبط ساعتى، وفوجئت بأن كثيرين هناك ضبطوا ساعاتهم على توقيت باكستان وليس الصين. وهو ما أثار فضولى، لأننى طوال الوقت ظللت أتحرى اجابة السوال: لماذا يعتبر الأويغوريون أنهم جزء من العالم الذى تمثله باكستان، وليسوا جزءا من البلد الذى يعيشون فى رحابه منذ نحو 150 عاما؟

(2)

كنت قد حملت معى من الكويت حقيبة ملأتها بالمصاحف متوسطة الحجم، بعدما أدركت من زيارة سابقة للاتحاد السوفييتى (وقتذاك) أن المصحف هو أثمن هدية يمكن ان يقدمها القادم من العالم العربى أو الإسلامى إلى من يصادفه من أبناء البلاد الشيوعية. لاحظت فى سينكيانج ان المساجد التى زرتها لم تكن بها مصاحف. وكل ما شهادته هناك كان بعض الأوانى الخزفية التى كتبت عليها بحروف عربية عبارات مثل «لا إله إلا الله» و«محمد رسول الله» و«الله أكبر»، ولا أنسى منظر أحد الأئمة حين قدمت إليه نسخة من المصحف، فظل يقبله وهو يبكى، ولا مشهد الشاب الذى جاءنى ذات مرة ليتوسل إلى أن أعطيه مصحفا لكى يقدمه مهرا لمحبوبته التى ينوى الزواج منها.

التواصل مع الناس كان مستحيلا ليس فقط بسبب اللغة، ولكن أيضا لأن الصينيين ممنوعون من الحديث للأجانب. والحصول على المعلومات كان صعبا للغاية. ولم ينقذنى من المشكلة سوى اثنين من الأويغور. احدهما عمل فى السعودية والثانى كان أبوه قد درس فى الأزهر، ويعرف بعض الكلمات العربية المكسرة. ذهبت إلى صلاة الجمعة فى المسجد الكبير بأورموشى، ولاحظت أن أغلب المصلين يرتدون الثياب البيضاء وأغطية الرءوس من ذات اللون، لكن الواحد منهم يؤدى الحركات من ركوع وسجود وهو صامت تماما، وقيل لى إن أغلبهم لا يعرف كلمة واحدة من القرآن، وإنهم يعتبرون الجمعة يوم عيد، فيتطهرون ويستحمون ويرتدون الثياب البيضاء، ويتعطرون قبل ذهابهم إلى المسجد، ثم يصطفون ويؤدون الحركات بكل خشوع دون أى كلام. وأذكر أننى قلت وقتذاك ان هؤلاء أكثر ورعا من كثيرين يحفظون الكلام. لكن صلواتهم تخلو من أى أثر للخشوع.

كنت أعرف أن الإسلام وصل إلى الصين فى عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان عن طريقين، الأول طريق البر الذى عرف لاحقا باسم طريق الحرير، وكان الفرس هم الذين أوصلوا الإسلام إلى مناطق الشمال، ومن بينها تركستان الشرقية، ولذلك فإن الكلمات الفارسية تستخدم فى المصطلحات الدينية (الصلاة عندهم تسمى «نماز» والوضوء وظوء). الطريق الثانى عبر البحر، وقد سلكه التجار العرب الذين جاءوا من حضرموت ومناطق جنوب اليمن، وأوصلوا الإسلام إلى الجزر الاندونيسية وكانتون فى جنوب الصين، وقد شاهدت بعضا من مقابر أولئك العرب الذين كتبت على شواهدها آيات القرآن الكريم.

وقتذاك كان المسلمون فى سينكيانج يشكون من التضييق عليهم فى العبادة ومنعهم من الحج. كما كانوا يشكون من حرمانهم من الوظائف الحكومية وتفضيل الصينيين من عرق «الهان» عليهم. وهؤلاء الاخيرون أصبحوا يتحكمون فى كل شىء. هم أصحاب السلطة وأصحاب القرار. فى الوقت ذاته فانهم كانوا يعبرون عن القلق الشديد ازاء استمرار تلاعب الحكومة بالتركيبة السكانية للإقليم. إذ فى الوقت الذى كانت تستقدم فيه أعداد كبيرة من «الهان» من أنحاء الصين، فإنها كانت تقوم بتهجير الأويغور من مقاطعتهم إلى المدن الصينية الأخرى. وهو ما أدى فى الوقت الحاضر إلى تراجع نسبة المسلمين الأويغور فى سينكيانج، إذ وصلت نسبتهم إلى 60٪ فقط من السكان بعد أن كانوا يمثلون 90٪.

(3)

لم تتوقف السلطات الصينية عن محاولة تذويب المسلمين الأويغوريين فى المحيط الصينى الكبير وطمس هويتهم. آية ذلك مثلا أنها قررت منذ سنتين نقل مائة ألف فتاة أويغورية من غير المتزوجات (أعمارهن ما بين 15 و25 سنة) وتوزيعهن على مناطق مختلفة خارج سينكيانج. الفتيات كن يجبرن على السفر، دون أن تعلم أسرهن شيئا عن مصيرهن، وكان ذلك من أسباب ارتفاع نسبة الاحتقان ومضاعفة مخزون الغضب بينهم. وفى الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضى قام العمال الأويغور بتمرد فى مصنع للألعاب مقام قرب مدينة شنغهاى فى جنوب البلاد، وهؤلاء عددهم 700 شخص، كانوا قد هجروا إلى مناطق «كونجدوج» التى أقيم المصنع بها. وقد أعلنوا تمردهم لسببن، الأول أن أجورهم لم تصرف منذ شهرين، والثانى أن إدارة المصنع رفضت أن تخصص مساكن تأوى المتزوجين منهم، التمرد أخذ شكل الإضراب عن العمل. لكن رد الفعل من جانب إدارة المصنع كان عنيفا. إذ تجمعت أعداد كبيرة من العمال الآخرين الذين ينتمون إلى أغلبية الهان (قدر عددهم بخمسة آلاف) واقتحموا مكان تجمعهم «لتأديبهم»، واشتبك معهم الأويغوريون الغاضبون. وحسب شهود عيان فإن الاشتباك استمر من التاسعة مساء إلى الخامسة فى صباح اليوم التالى، حين تدخلت الشرطة وفضته.

البيان الرسمى ذكر أن اثنين من الأويغوريين قتلا، ولكن الأويغوريين أصروا على أن الذين قتلوا من شبابهم يتراوح عددهم ما بين خمسين ومائة، أما الذين تم اعتقالهم أو فقدوا فقد قدر عددهم بالمئات. المهم أن هذه الأخبار حين وصلت إلى سينكيانج، فان أهالى العمال بدأوا يسألون عن ابنائهم وبناتهم الذين لم يعرف مصيرهم. وحين مر أسبوع واثنان دون أن يتلقوا جوابا، فانهم خرجوا فى مظاهرة سلمية رفعت فيها صور المفقودين، وحين تصدت لهم جموع الهان ورجال الشرطة حدث الصدام الدموى الذى قال البيان الرسمى إن ضحاياه كانوا 150 من الأويغوريين، فى حين ذكرت تقديرات الطرف الآخر ان عدد القتلى يزيد على 400 منهم.

لم تكن هذه بداية غضب سكان الإقليم الأصليين. ولكنها كانت حلقة فى سلسلة الصدامات التى لم تتوقف منذ اجتاحت الصين تركستان الشرقية فى عام 1933 وضمتها رسميا فى عام 1949. وظلت كل انتفاضة للأويغوريين تقابل بقمع شديد بدعوى أنهم انفصاليون تارة وإرهابيون أخيرا، حتى قيل إن ضحايا القمع الصينى قدر عددهم بمليون مسلم ومسلمة.

الانتفاضة هذه المرة كانت أكبر من سابقاتها، الأمر الذى اضطر الرئيس الصينى إلى قطع اجتماعاته فى قمة روما والعودة سريعا إلى بكين لاحتواء الموقف المتدهور فى سينكيانج. إذ من الواضح أن المسلمين هناك ضاقوا ذرعا بإذلالهم وحرمانهم من تولى الوظائف الرسمية، ومنعهم من صوم رمضان وأداء فريضة الحج ومصادرة جوازات سفر كل الأديغوريين لعدم تمكينهم من الحج إلا عبر الوفود التى تنظمها الحكومة، وتشترط أن يودع الراغب فى الحج ما يعادل 6 آلاف يورو لدى الحكومة (وهو ما يعنى افقار أسرته)، وأن تتراوح سنه ما بين 50 و70 سنة.

(4)

مأساة شعب «الأويغور» (الكلمة فى اللغة القديمة تعنى المتحد أو المتحالف لأنهم كانوا فى الأصل عدة قبائل ائتلفت فيما بينها) تكمن فى ثلاثة أمور. الأول أنهم يعيشون فى قبضة دولة كبرى ظلت متماسكة عبر التاريخ، لم تتعرض للتفكك كما حدث مع الاتحاد السوفييتى مثلا. الثانى أن بلادهم الشاسعة (1.6 مليون كيلو متر مربع تمثل خمس مساحة الصين وثلاثة أضعاف بلد مثل فرنسا) تتمتع بوفرة ثرواتها الطبيعية. إذ يقدر احتياطى النفط لديها بنحو 8 مليارات طن، ويجرى فى الوقت الحاضر استخراج 5 ملايين طن منه كل يوم. هذا إلى جانب انها تنتج 600 مليون طن من الفحم الحجرى. وبها ستة مناجم يستخرج منها أجود أنواع اليورانيوم، إضافة إلى وجود معادن أخرى على رأسها الذهب، الأمر الثالث أنهم مسلمون، ينتمون إلى أمة منبوذة فى العالم، وتمثلها أنظمة لاهية ومهزومة سياسيا وحضاريا.

هم ليسوا مثل البوذيين فى التيبت الذين يتعاطف العالم مع قضيتهم. ولا مثل كاثوليك إيريان الغربية الذين وقفت الدول الكبرى مع استقلالهم عن اندونيسيا. ولا وجه لمقارنتهم باليهود، الذين واجهوا مشكلة فى أوروبا فقررت الدول المهيمنة حلها عن طريق تمكينهم من اقتلاع شعب فلسطين وإقامة دولة لهم على أرضهم.

استطرادا من هذه النقطة ــ وللعلم فقط ــ فان حجم التبادل التجارى بين الصين والدول العربية فى العام الماضى (2008) وصل إلى 133 مليار دولار. وهذا الرقم يزيد سنويا بمعدل 40٪، وللعلم أيضا فانه فى الوقت الذى كان مسلمو الأويغور يسحقون كانت 1100 شركة صينية تقيم المعرض الثالث لمنتجاتها فى دبى.

للعلم كذلك قال لى أحد المسلمين الصينيين الذين يجيدون العربية انه يكلف بمصاحبة وفود الحج الرسمية التى تزور الدول العربية بعد أداء الفريضة، وتلتقى قادتها ومسئوليها. وقد فجع صاحبنا لأنه أثناء تلك اللقاءات فان أحدا من القادة العرب لم يحاول أن يسأل الوفود التى رافقها عن أحوال المسلمين فى الصين، الذين تقدرهم المصادر التركية بستين مليون نصفهم من الأويغور


في السبت 18 يوليو-تموز 2009 03:48:55 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=5581