ما يمكن أن نستشفه من زحام قاعة أبولو
محمد العلائي
محمد العلائي

مطلع هذا الأسبوع، حظي هذا الخبر من الاهتمام بأكثر مما حظيت به فعالية اللقاء المشترك الخميس الماضي. إليكم ملخص الخبر: هيئة شورى مجلس التضامن الوطني، الذي أنشأه الشيخ حسين الأحمر قبل عامين، تعقد دورتها الثانية في قاعة أبولو بقوام يزيد عن الـ2000 مشارك، من جميع المحافظات اليمنية.

هل حدث أحدنا نفسه هكذا مثلا: 2000 مشارك! هذا الرقم كبير، بالنظر إلى حداثة سن هذا الكيان السياسي المثير للشكوك. كبير جدا إلى درجة أنه يتفوق على عدد المشاركين في المؤتمر العام للحزب الاشتراكي اليمني، ثاني أكبر أحزاب المعارضة، ويكاد يناهز عدد المشاركين في المؤتمر العام لأكبر أحزاب المعارضة، التجمع اليمني للإصلاح، ناهيك عن اللجنتين المركزيتين لهذين الحزبين.

العام الماضي، احتضنت أبولو مؤتمراً للتشاور الوطني الذي يقف على رأسه الشيخ حميد الأحمر. كان الحضور كبيراً أيضا، على الأرجح 3000 مشارك إن لم يكن أكثر. قيادات حزبية ومشايخ وأكاديميون وطلاب. هذا العدد له دلالته التي لا تخطئها العين. سيقول قائل بأن حجم المشاركة في مؤتمر التشاور هو فوق كل شيء، حصيلة الجهد السياسي للأحزاب المنضوية في تكتل اللقاء المشترك، ونتيجة طبيعية لمهارتها في التعبئة والتواصل، أكثر مما للأمر علاقة بدرجة نفوذ حميد الأحمر وثروته الهائلة. بالطبع هذه نصف الحقيقة، نصفها فقط. ذلك أن الفعالية إياها لم تكن سوى اختبار فعلي للدور الجوهري والحاسم الذي يمكن للمال أن يلعبه في تشكيل قوى التغيير والرفض، سواء كانت هذه القوى وطنية أو لاوطنية، في أي بلد من البلدان.

خلال الأعوام القليلة الماضية، أخذت تطفو على السطح، بين حين وآخر، كيانات وبنى سياسية، معارضة غالباً، وتشتغل من خارج الأنساق المألوفة وتتغذى منها أحيانا. على إن أكثرها عنفواناً وفتكاً هي تلك المصنوعة من نفس طينة السلطة الحاكمة والمنبثقة عنها. وبالتالي فهي تحمل بعض صفاتها الجينية، إن لم يكن كلها. أو بمعنى آخر: هي تلك القوى والعائلات السياسية التي كانت ذات يوم في صلب نخبة الحكم أو قريبة منها، ورافقت صيرورتها التاريخية، كما ويسري عليها قانون الوراثة حيث تنتقل الأدوار والامتيازات نفسها من الآباء إلى الأبناء أوتوماتيكيا.

باختصار، كانت تترعرع ضمن الدائرة العصبية للحاكم وموثوقيه. لكن هذه الدائرة راحت تضيق شهراً بعد شهر، وسنة بعد أخرى. وعند كل انكماشة للدائرة يسقط أحد اللاعبين، فيغمره مع مرور الوقت إحساس بالضياع والحرمان والجحود. فضلاً عن تناقص امتيازاته وشعوره بالفراغ. مع مرور الزمن يصبح ميالاً لسماع وتصديق وجهات النظر الساخطة من جملة ممارسات للاعبين لم يغادروا بعد دائرة النخبة التي لفظته قبل قليل. ولئلا يبدو سخطه ذا طابع شخصي مكشوف، يجد نفسه تلقائياً معنياً بتبنى وجهات النظر المتبرمة هذه، مستفيداً من سمعته وامتيازاته القديمة التي صارت رأسمال لا يكف عن النمو والتوسع.

الدائرة انضغطت إذن، وتواصل الانضغاط بلا هوادة. يقف الرئيس في مركزها، وبالكاد لا تزال تتسع لأبناء أخيه. وعلى الهامش ثمة دائرة أخرى تتبلور وتتسع بالمضمون نفسه لكن بلاعبين جدد: إنها دائرة الوريث المفترض، أحمد.

 بالنتيجة، فمعظم الكيانات والبنى السياسة والاجتماعية الطارئة لكن الكبيرة والمؤثرة، هي حصيلة الانضغاط الحثيث للدائرة الأم، وهي برمتها عبارة عن إصبع اعتراض في وجه الدائرة الناشئة بمعزل عن غالبية ورثة النخبة القديمة.

...

عندما نتناول مسألة الكيانات السياسية الطارئة، ومراكز القوى المصنوعة من طينة النظام الحاكم الذي باتت الآن تتصدر العمل على تقويضه، يحضر إلى الذهن مجلس التضامن الوطني برئاسة الشيخ حسين الأحمر، وتليه اللجنة التحضيرية للحوار الوطني التي يرأسها الشيخ حميد الأحمر ومحمد سالم باسندوة، وفي مستوى معين يحضر طارق الفضلي، وربما بدرجة أقل مؤسس جماعة الحوثيين حسين الحوثي. ولا يحق لأحد أن يتفاجأ فيما لو أصبح للعميد يحيى محمد عبدالله صالح مجلسه الوطني، وربما شقيقه طارق.

هل أضيف علي محسن الأحمر؟ من يدري؟

فهي عادة تمتلك المال، وللمال سلطته السحرية. وهي تتمتع بقدرة جذب تتخطى قدرة أحزاب سياسية وطنية عريقة. إنهم ببساطة يمتلكون أبرز شروط التغيير لكن ليس التغيير الذي نصبو إليه.

هذا تفسير تقليدي لكنه ليس ساذجاً. فاحتكار المال ومصادره وآليات الوصول إليه من أشد المعوقات التي تعترض أي محاولة لانتقال السلطة سلمياً، ويتعين هنا التشديد على كلمة "سلميا"، وبالتالي الحؤول دون تحقيق التحول الشامل والمتوخى على المدى البعيد. وطالما لا يزال عنصر المال بمنأى عن البنى والتكوينات الوطنية الحديثة، فإن أي تغيير قادم في اليمن لن يأتي إلا لإعادة إنتاج نموذج الحكم السائد الآن بوجوه جديدة قد تكون أكثر بشاعة، وتجذير كل تلك القيم السلبية التي ترسخت على مدى عقود.

ربما بدأ العد العكسي للتغيير. بيد أن النماذج البديلة التي لا تنفك تقفز إلى الواجهة هي من قبيل الحرس الجمهوري، أو مليشيا الحوثي، أو مجلس ثورة طارق الفضلي، أو مجلس التضامن الوطني، والأخير قطع على نفسه عهدا بـ" السعي إلى تعميق الترابط القبلي والاجتماعي، وبث روح المحبة والتعاون والتكافل، والعمل على إحياء الأسلاف والعادات والتقاليد والأعراف الحميدة للقبيلة، وإيجاد علاقات وتواصل بين القبائل اليمنية لما من شأنه تعزيز وتعميق العلاقات الأخوية، والمساهمة في حل مشاكل الثأر والمشاكل الاجتماعية الأخرى وإصلاح ذات البين"، وهذه العبارة هي الهدف الثاني من أهداف مجلس التضامن.

للمسألة علاقة بالطبيعة الريعية، وليس الإنتاجية، للاقتصاد في اليمن. وبحسب ماركس، فما إن يسيطر هذا النموذج في مجتمع من المجتمعات حتى تطغى علاقات القرابة والعصبية، على عكس التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية التي تسيطر فيها علاقات الإنتاج عادة. والريع يشمل الموارد النفطية مثلما يشمل الهبات والمنح التي تأخذ أكثر من شكل، كاللجنة الخاصة (ومصدرها المملكة العربية السعودية) على سبيل المثال.

والمعنى البديهي هو أن زعماء الكيانات السياسية الناشئة الآن بكثافة، هم من كانوا جزءا من دائرة العلاقات العصبوية القديمة التي تشكلت على ضفاف مصادر الريع ونهلت منها. وهذا يفسر عدم ظهور قوى وطنية حديثة بمضمون اجتماعي مختلف.

لن نخوض في مصادر تمويل مجلس التضامن الوطني. فالرأي السائد هو أن المملكة العربية السعودية هي الداعم الأساسي للفكرة التي صارت تضاهي أكبر الأحزاب. حتى إن مجلس التضامن صمم استمارات انتساب وشروط عضوية وهيكلاً تنظيمياً يتقاسم الشيخ حسين مفاصله الرئيسية مع زعامات قبلية وحزبية كبيرة مثل محمد عبداللاه القاضي (مؤتمر)، ومحمد حسن دماج (إصلاح)، وعلي حسين عشال (إصلاح)، وصخر الوجيه (مستقل)، ومحمد عبدالملك المتوكل (اتحاد القوى الشعبية).

يبدو الأمر وكأنه تفريغ ممنهج للأحزاب. تفريغ خطير من شأنه تسليم البلاد لأمراء الحرب. كانت المهمة التي يفترض بالأحزاب الاضطلاع بها تتمثل في تذويب واحتواء التضامنات والانتماءات اللاوطنية، أكانت عشائرية أم طائفية، في إطارات وتشكلات وطنية. وحينما كانت تدفع بزعماء قبائل إلى الواجهة، كنا نتفهم ذلك باعتباره أحد مقتضيات الاحتواء. الذي يحصل الآن هو العكس تماما، فالأحزاب اليوم تلوح وكأنها تفتش عمن يحتويها في خضم هذا التشوش الكبير الذي يضرب بجذوره في عمق السياسة اليمنية.

لا مكان هنا للمثل والتقاليد الحزبية. فأحزابنا لا تجد غضاضة من السماح لقيادات رفيعة فيها بالانتماء ضمن كيان سياسي عشائري أخذ على عاتقه "تعميق الترابط القبلي، وإحياء الأسلاف والعادات القبلية"!

...

أسأل نفسي؛ هل بوسع ياسين سعيد نعمان أو محمد اليدومي، أو سلطان العتواني، برمزيتهم السياسية وحدها، مستندين إلى طاقة الفعل لدى أحزابهم، اجتذاب هذا الكم الهائل من البشر بمعزل عن المال؟

حسين الأحمر أحرز رضا السعودية ببساطة، بينما الثلاثة الكبار لم يحظوا بالرضا السعودي بعد. أموال المملكة تتدفق بسخاء كلما أوشكت خزينة نظام علي عبدالله صالح على النضوب. اللقاء المشترك وجل ومحبط، ليس لأنه بمنأى عن منابع المال فحسب، بل لأنه لا يحظى بتأييد المجتمع الدولي، لا سيما المملكة الواقفة، بعناد غير قابل للتفسير، منذ عقود، حجر عثرة أمام أي تحول إيجابي في اليمن.

البلد يتداعى كجدار عتيق. والبعض فقط يدرك كيف إن الأزمات ليست في جانب كبير منها إلا تجسيداً هزلياً لانضغاط الدائرة القديمة وتخلق الدائرة الجديدة، والسعي الحثيث من قبل جميع اللاعبين المطرودين لرسم دوائرهم الخاصة، تحسباً لمستقبل غير مضمون.

وفي الواقع فالأشياء تنطوي على بذرة فنائها. ومن شبه المؤكد أن أكثر أنواع السموم فتكاً هي تلك التي جرى تطويرها داخل جسم هذا النظام الذي يمسك مقاليد الحكم في البلاد منذ 32 عاما، السموم التي تتطاير عند كل دورة ضمور، ثم تجد طريقها إلى التعبئة والتعليب في أوعية براقة على شاكلة مجلس التضامن الوطني.

alalaiy@yahoo.com


في السبت 24 إبريل-نيسان 2010 06:34:11 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mail.marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mail.marebpress.com/articles.php?id=6952